ما زالت مدينة الفاشر، العاصمة التاريخية لإقليم دارفور وعاصمة ولاية شمال دارفور حديثاً، تتآكل تحت حصار قوات الدعم السريع وهجماتها. تكرّر خلال أعوام الحرب الثلاثة فشل المليشيا في احتلال المدينة. وخسرت عديدين من قادتها الميدانيين على أسوار المدينة التي يعربد داخلها الموت والخراب، فالتقدّم البطيء ل"الدعم السريع" يمرّ على أجساد عشرات من المواطنين في كل متر. ويتحالف الجوع داخل المدينة مع القصف العشوائي فينهك المدافعين والمعتصمين بها. والذين خاطروا بالخروج لم يجدوا كلهم الممرّات الآمنة التي وعدوا بها. خلال اليومين الماضيين، تواصل توقف "تكايا" الطعام، التي تقدم الزاد القليل للجوعى. بعد توقف العشرات خلال العامين الماضيين بسبب الحصار وقلة المعونات، لم يتبق هذا الأسبوع إلا أقل من خمس تكايا، ربما لا تصمد أسبوعاً آخر. لم تنقطع قرارات مجلس الأمن ومناشدات الأممالمتحدة كما لم تنقطع القذائف المتساقطة على المدنيين. كل الرسائل التهديدية والتحذيرية التي وجهها المجتمع الدولي ل"الدعم السريع" لم تُجد نفعاً. وعقب إعلان تحالف تأسيس، وتشكيل حكومته الموازية، انضمّت قوات أخرى ل"الدعم السريع" في محاولاتها المتتالية احتلال المدينة. وككل شيء في حرب السودان، برر القائد الهادي إدريس، عضو مجلس السيادة السابق، الهجوم المتواصل على المدينة النازفة بأنه محاولة لإيصال المساعدات إلى الأهالي! تعلم السودانيون من هذه الحرب الأهلية الكبرى أن لا حدود للوقاحة في قلب المواقف، والكذب الجوبلزي (نسبة إلى جوزيف جوبلز، وزير الدعاية النازي) الفاضح. … تحدُث هذه المأساة الإنسانية بينما يناور طرفا الحرب المجتمع الدولي الذي فشلت جهوده في تحقيق ولو هدنة إنسانية قصيرة، إضافة إلى تحقيق سلام شامل. بعد أقل من شهر على بداية الحرب، وقّع الجيش والدعم السريع، في مايو/ أيار 2023، إعلان جدّة برعاية الولاياتالمتحدة والسعودية، لكن اللقاء الثاني في جدّة لمناقشة تنفيذ الإعلان لم يصل إلى نتيجة. وظل الإعلان تائهاً. ثم وقع الطرفان على اتفاق المنامة في يناير/ كانون الثاني 2024. لكن ما اتفقا عليه في هناك، في عاصمة البحرين، تركاه فيها. هذا غير دعوات منظّمة إيقاد التي فشلت، ومناقشات سويسرا والقاهرة. جهود ووفود، توقيعات واختلافات، وساطة دولية وضغوط أممية، ولا تتوقف الحرب، ولا يتوقف حصار الفاشر. بين هذه المناورات، والتقارب مع التنظيم الحاكم السابق والابتعاد عنه، وتحذير المجتمع الدولي منه وتهديده به، تفتك الأمراض بالعاصمة المحطمة الخرطوم، ويأكل الجوع الفاشر، ويتكدس النازحون في العاصمة الإدارية المؤقتة التي آوت قادة الجيش بعد اندلاع الحرب. وتحاول حكومة كامل إدريس من بورتسودان أن تتحدث إلى المجتمع الدولي، ومثلها تحاول حكومة محمد الحسن التعايشي من نيالا. لكنهما لا تتحدّثان إلى بعضهما، فالقرار بيد حملة السلاح، وقد قرّر هؤلاء منذ بداية القتال أنها ستكون حرباً صفرية. يقضي فيها طرفٌ على طرف، ويخضع من بقي منه إلى الأبد. وسط ذلك كله، هل تمتلك الرباعية المكونة من الولاياتالمتحدة والسعودية والإمارات ومصر، ما يمكّنها من التأثير على طرفي الحرب؟ قائد الجيش سارع إلى إعلان رفضه دعوة "الرباعية" إلى وقف الحرب وإبعاد الجيش والدعم السريع والحركة الإسلامية عن العملية السياسية. ورغم أن له مواقف سابقة قبل فيها ما تعجل برفضه، أو رفض ما سارع إلى قبوله، إلا أنه هذه المرّة قد لا يجد مجالاً للمناورة، كما لم يترك قائد الدعم السريع لنفسه مساحة للتراجع بعدما رفع سقف أحلامه بامتلاك البلاد كلها، ثم أصبح يقاتل عن إقليم يفصله بحكومة موازية. لذلك، ربما اقتربت اللحظة التي تقدم فيها إدارة دونالد ترامب على عمل متهوّر بغية إحلال سلام بالقوة. وهو أمر بدأت تتحدّث عنه الشائعات عقب تحرّكات مستشار الرئيس الأميركي للشؤون الأفريقية الأخيرة في أديس أبابا. فهل يسعى مسعد بولس لدى الاتحاد الأفريقي لإعادة إحياء فكرة التدخّل العسكري؟ لا يملك المرء إلا الأمنيات ألّا تصح التحليلات التي ذهبت إلى ذلك. فالبلاد التي تفيض بالمليشيات لا ينقصها مزيد من المسلحين. والجوع لا تقتله البندقية، لكنها تقتل المزيد من الجوعى.