في صمت دولي مريب، تُكتب صفحة سوداء في تاريخ المجتمع الدولي، حيث تتحول الإنسانية إلى ضحية أولى ومباشرة، ويصبح التواطؤ صرحا لا يُرى، وإنما يستشعر في دفاتر التواقيع المتهالكة، وفي لحظات الخراب التي يشهدها المدنيون السودانيون. إن الصمت الدولي ليس فراغا بلا معنى، بل هو شريك في الجريمة، رافق إرهابا منظما وممنهجا ارتكب بحق المدنيين، بواسطة مليشيا الدعم السريع، ومن يدير المشهد خلف الكواليس. من دارفور إلى الجزيرة، ومن النيل الأزرق إلى كردفان، يجتر السودانيون يوميا صور الحرق، والهدم، والقتل، والتهجير، في حين تغيب العدالة، وتترنح الحقيقة في أروقة التغاضي والتجاهل، أو تختبئ خلف أبواب موصدة من قبل المجتمع الدولي. كان تشكيل مليشيا الدعم السريع ل«حكومة» في مناطق سيطرتها ليس مجرد إعلان رمزي عن السلطة، بل هو بنية عملية تشرعن اقتصادا غير قانوني وتنسف المسارات القضائية؛ هذا التكامل بين الإدارة الموازية والاقتصاد العنيف يغذي الجريمة المنظمة ويطيل أمد الانتهاكات، ويجعل أي مسار سلام أو عدالة أكثر تعقيدا وإلحاحا في آن واحد. الفاشر.. حصار الموت واقتصاد العنف تمثل الفاشر، عاصمة شمال دارفور، اليوم أحد أبرز تجسيدات الكارثة التي يمر بها السودان. فالمدينة تخضع لحصار خانق وممتد من قبل مليشيا الدعم السريع، مما يمنع وصول الإمدادات الإنسانية والغذائية والطبية إلى المدنيين المحاصرين، الذين يقدر عددهم في المنطقة الكبرى بأكثر من 1.5 مليون شخص، من بينهم مئات آلاف النازحين الذين لجؤوا إليها. وقد أشارت تقارير ذات مصداقية إلى أن القصف العشوائي والممنهج تجاه عمق المدينة أدى إلى تزايد في عدد الضحايا المدنيين. وفي انتهاك صارخ للقانون الإنساني الدولي، فقد وجهت ضربات إلى المستشفيات والمرافق الصحية في الفاشر ومدن أخرى في دارفور وكردفان، ما أدى إلى خروج غالبية تلك المنشآت عن الخدمة أو تدميرها بالكامل، ومعها غدا الجرحى والمرضى في عداد الموتى؛ إذ لا يجدون طبيبا أو دواء أو حتى حيزا لتلقي العلاج. إن هذا الحصار والتدمير لم يحدثا بمعزل عن سياق أكبر: إذ تجاوز عدد النازحين داخليا في السودان حتى سبتمبر/أيلول 2025 أكثر من عشرة ملايين شخص، وهو رقم غير مسبوق ويمثل نحو 20% من إجمالي السكان. كما تشير التقديرات إلى مقتل ما يزيد على 25 ألف مدني منذ أبريل/نيسان 2023، منهم 8 آلاف على الأقل في سياقات تشير إلى استهداف عرقي مباشر، وتجاوزت نسبة الأطفال بين الضحايا المدنيين 40%. كل ذلك يمثل معادلة بشعة، مفادها: المدنيون خيار مستهدف، والمليشيا تصر على الحصار والاستهداف المدفعي. إن ما يمكن تسميته باقتصاد العنف ليس بجديد على دارفور وأجزاء من كردفان، بل هو استمرار لأنماط أقدم من صراع الموارد والقبائل. فالفرق الجوهري اليوم أن فصيلا كان يعتبر جزءا من الدولة تمرد عليها مستخدما خطابا عرقيا كأداة تعبئة وغطاء لحرب اقتصادية أوسع نطاقا، تهدف إلى السيطرة على الموارد الحيوية، مثل مناجم الذهب، والأراضي الزراعية الخصبة، والمراعي في دارفور. وهنا، يصبح العرق ليس مجرد وصف اجتماعي، ولكن ذريعة للنهب والتهجير. وترتبط هذه الديناميكية بتغيرات في هيكل السلطة: إذ مع صعود الدعم السريع، وتحولها من مليشيا «جنجويد» إلى قوة شبه نظامية، تغيرت معادلات الصراع. فحسب تقرير إخباري موثوق، فإن ما يجري في غرب دارفور (على سبيل المثال في مدينة الجنينة) "يعد استكمالا لحملة تطهير عرقي، تحتل فيها مليشيا الدعم السريع أراضي سكانها الذين تضطهدهم وتنكل بهم بل وتدفنهم أحياء". التوصيف القانوني لجرائم المليشيا إلى جانب جرائم الحرب المتمثلة في الاستهداف العرقي، وتدمير المرافق المدنية، ظهرت تقارير مقلقة حول استخدام مليشيا الدعم السريع، أسلحة كيماوية محرمة دوليا في بعض جبهات القتال. الأمر الذي يعد تصعيدا خطيرا يرقى إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية، ويخالف بشكل صارخ القانون الدولي. ومن أفظع الجرائم التي هزت الضمير الإنساني، وتكشف عن الطابع العرقي للحرب في السودان، ما جرى في مدينة الجنينة في يونيو/حزيران 2023، حين جرى اغتيال والي ولاية غرب دارفور خميس أبكر بطريقة وحشية عقب اختطافه من قبل عناصر تتبع لمليشيا الدعم السريع وحلفائها. فبعد ساعات من ظهوره في بث فضائي متلفز يناشد المجتمع الدولي التدخل لوقف المذابح ضد المدنيين من إثنية المساليت، بُثت مقاطع تظهر قتله وتمثيل الجناة بجثمانه في مشهد يختزل الطبيعة الإرهابية لهذه المليشيا. لقد كانت تلك الجريمة نقطة تحول خطيرة، إذ لم تكن تصفية سياسية فحسب، بل كانت رسالة إرهاب عنصري ممنهج تستهدف مجموعة إثنية بعينها، وتؤكد أن الصراع ليس حول السلطة فحسب، بل حول الهوية وحق الوجود ذاته. وقد أدانتها الأممالمتحدة ومنظمات حقوق الإنسان بوصفها "عملا ذا دوافع عرقية" قد يرقى إلى جريمة ضد الإنسانية، غير أن التحقيقات لم تفضِ إلى نتائج، ولم تحاسب أي جهة حتى اليوم. هذه الواقعة تمثل نموذجا مكثفا لما يمكن تسميته "سياسة الإفلات المحمي"؛ إذ يرتكب الفعل أمام العالم، وتبث صوره على الملأ، دون أن يتحرك ضمير دولي أو نظام قضائي. وبذلك تتحول الجريمة من حدث استثنائي إلى ممارسة يومية، ويصبح الصمت الدولي غطاء إضافيا لتطبيع الوحشية. وأما آخر ما يضاف إلى هذا السجل الإجرامي الدامي، فهو ما تم الإعلان عنه بشأن اغتيال زعيم قبيلة (المجانين) [قبيلة عربية في السودان]، وذلك أثناء اجتماع أهلي في ولاية شمال كردفان. فبحسب ما ورد في تقارير وسائل الإعلام السودانية، فإن ناظر القبيلة سليمان جابر جمعة سهل، قد قُتل يوم الجمعة 17 أكتوبر/تشرين الأول الحالي في ضربة بطائرة مسيرة أطلقتها مليشيا الدعم السريع أثناء اجتماع دعا له زعيم القبيلة في منطقة (المزروب) التي تحاصرها المليشيا المتمردة. وقد نعى مجلس السيادة الانتقالي الناظر المغدور واصفا إياه ب«الشخصية الوطنية المخلصة»، متهما مليشيا الدعم السريع بالتخطيط «لهجوم غادر» استهدف اجتماعا أهليا. فهذه الواقعة إلى جانب استهداف زعماء القبائل ووجهاء المناطق، تعني أنهم أهداف مباشرة إذا ما طالبوا بوقف الانتهاكات في مناطقهم. ومن المؤكد أن هذا الاغتيال لن ينسى، وسيخلق حالة من الرعب داخل المجتمعات المحلية، ويعزز الشعور بأن أي نشاط مدني أو أهلي يعد تهديدا لمليشيا الدعم السريع. المجتمع المدني.. بصيص أمل في ليل قاتم رغم كل هذا الخراب، يظل صوت الأمل يتردد من خلال غرف الطوارئ التطوعية والمبادرات المدنية المحلية التي تمثل الخط الأخير للدفاع عن المدنيين. هذه الشبكات المدنية تواصل توثيق الجرائم، وإيصال الإغاثة، ومحاولة رتق النسيج الاجتماعي الممزق. وهي تمثل، في غياب منظمات الأممالمتحدة المعنية، الركيزة الوحيدة للمواطنة الجامعة، ويجب أن تؤخذ في الاعتبار في أي عملية سلام أو عدالة انتقالية. ففي غياب تلك المبادرات، تتصاعد حالة التمزق، حيث أشار أحد الاستطلاعات إلى أن 68% من السكان في مناطق النزاع أصبحوا يشككون في الهوية الوطنية المشتركة. ومع ذلك، تواجه هذه المبادرات صعوبات جمة: حيث تتأثر تحركات وأنشطة الصحفيين والحقوقيين بحالة الحرب والمحاذير الأمنية، لا سيما مناطق سيطرة المليشيا، خوف الانتقام، وانعدام الحماية القانونية. إنها تعمل وسط بيئة معادية، تدفع كلفة شجاعة التوثيق والمواجهة ثمنا باهظا. حكومة المليشيا.. تكريس الجريمة المنظمة في تطور خطير يضيف تعقيدا لأزمة البلاد، أعلنت مليشيا الدعم السريع ومعها نخب سياسية كانت جزءا من التحالف الذي مثل حاضنة سياسية لحكومة رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك، عن تشكيل حكومة موازية في المناطق التي تسيطر عليها، وهي خطوة لم تكسبهم حتى الآن أي نوع من الاعتراف، بيد أنها تمنحهم قدرة على التحكم في الموارد، وفرض «قوانينهم» الخاصة. هذه الإدارة الموازية تفرض ضريبة فعلية عبر نقاط التفتيش، وعمليات "نهب" الذهب، وتستولي على موارد تسوّق خارج القنوات الرسمية، مما يخلق شراكة بين المليشيا والاقتصاد غير القانوني. إن وجود هذه الهياكل غير الشرعية يجعل من مناطق السيطرة «كانتونات صغيرة» تعمل خارج سلطة القانون، ما يسهم مباشرة في تحويل الانتهاكات الفردية إلى صناعة منظمة للجريمة؛ إذ تستفيد شبكات التهريب والوساطة من غياب سيادة القانون؛ لتوسيع عملياتها من تهريب الذهب والوقود، إلى شبكات الاتجار والابتزاز والموارد المالية الناتجة يعاد استثمارها في شراء السلاح، وتمويل المزيد من العمليات القمعية. هذا الربط بين الإدارة الموازية واقتصاد الحرب، يعد أحد محركات استمرار النزاع، كما توضح تحليلات مراكز أبحاث وسياسات اقتصادية. إن تشكيل إدارة موازية غير شرعية يقوض بكل تأكيد آليات التحقيق والمحاكمة بعدة طرق عملية: أولا، منع أو تقييد وصول محققي الأممالمتحدة والجهات الحقوقية إلى المواقع. ثانيا، إحلال محاكم أو لجان محلية تفتقر لاستقلال القضاء. ثالثا، تغييب شهادات الضحايا عبر التهديد المباشر أو شراء ولاءات الشهود. رابعا، تحويل سجلات الجرائم والوثائق إلى أرشيفات مسيسة لا تصل إلى مؤسسات العدالة الدولية.
نتيجة هذه الآليات، تتعاظم ثقافة الإفلات من العقاب وتضعف فرص أي تحقيق موثوق، أو محاكمة فعالة، مما يحول المساءلة من إمكانية إلى حلم بعيد. ما المطلوب من المجتمع الدولي؟ لكي تكون المعالجة الدولية حقيقية ومسؤولة، فإنها تتطلب رؤية شاملة تبدأ من: الضغط الجاد لرفع حصار مليشيا الدعم السريع عن الفاشر فورا، وتأمين ممرات إنسانية فعالة لتمكين وصول المساعدات والمواطنين الذين يحتاجونها. تحقيق دولي عاجل في تقارير استخدام الأسلحة الكيماوية واستهداف المستشفيات، مع خلق آلية مراقبة مستقلة بالتنسيق مع السلطة الشرعية التي يمثلها الجيش السوداني. العدالة الانتقالية: إطلاق مسار عدالة يشارك فيه الضحايا والمجتمعات المحلية، مع ضمان حقهم في الحقيقة والإنصاف، وإطلاق عملية جبر للضرر (تعويضات، إعادة بناء البنية التحتية، إعادة تأهيل النازحين). المساءلة الدولية: على المجتمع الدولي أن يفرض عقوبات مستهدفة على قادة المليشيات والجهات الداعمة لهم، وتثبيت أن التواطؤ أو الصمت ليس خيارا بلا ثمن. دعم المجتمع المدني وتمكينه من العمل بحرية، مع حماية حقوقه في التوثيق والمرافعة، وتوفير الحماية لقاداته من الانتقام. السلام الشامل: لا يكون السلام حقيقيا ما لم يشمل معالجة جذور النزاع الهوية، الأرض، الموارد، والحكم المحلي وليس مجرد وقف لإطلاق النار. لم تعد الحرب في السودان اليوم للقضاء على تمرد مليشيا الدعم السريع فحسب، بل أصبحت حربا للحفاظ على فكرة الوطن نفسها. المدنيون يدفعون الثمن الأكبر، والعدالة تظل بعيدة المنال. ولن يكون هناك سلام حقيقي ما لم يرفع صوت الضحايا إلى مقدمة المشهد، وما لم تصبح المساءلة شرطا لا يمكن تجاوزه في أي عملية سياسية قادمة. إن السكوت عن الجرائم اليوم هو مشاركة في صناعتها غدا، وهذه هي الحقيقة التي يجب أن يكتبها الصحفيون بوضوح، ويذكرها الأكاديميون والمصلحون بلا كلل. ففي غياب العدالة، لا سلام؛ وفي غياب الذاكرة، لا مستقبل. ولعل اغتيال زعيم قبيلة (المجانين)، وهو يهم بعقد اجتماع بأعيان قبيلته، يذكرنا ليس بأن الأعداء قد تغيروا، بل بأن أسلوبهم في استهداف كل ما يمت بصلة إلى الأمل أو التنظيم المدني أصبح أكثر تجريدا، وأكثر استهدافا للهوية. فهل سيجيش المجتمع الدولي إرادته، أم سيظل الصمت شريكا في الجريمة؟