أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    محلية حلفا توكد على زيادة الايرادات لتقديم خدمات جيدة    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    شاهد بالفيديو.. لاعبون سودانيون بقطر يغنون للفنانة هدى عربي داخل الملعب ونجم نجوم بحري يستعرض مهاراته الكروية على أنغام أغنيتها الشهيرة (الحب هدأ)    محمد وداعة يكتب: مصر .. لم تحتجز سفينة الاسلحة    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    الدردري: السودان بلدٌ مهمٌ جداً في المنطقة العربية وجزءٌ أساسيٌّ من الأمن الغذائي وسنبقى إلى جانبه    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    مدير المستشفيات بسنار يقف على ترتيبات فتح مركز غسيل الكلى بالدندر    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    مناوي ووالي البحر الأحمر .. تقديم الخدمات لأهل دارفور الموجودين بالولاية    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    تنسيقية كيانات شرق السودان تضع طلبا في بريد الحكومة    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فائزالشيخ السليك – الزالزال .. العقل السوداني ذاكرة مثقوبة وتفكير مضطرب
نشر في حريات يوم 06 - 03 - 2013

اخترنا من كتاب ” الزلزال ” العقل السوداني ذاكرة مثقوبة وتفكير مضطرب ” الصادر عن دار أوراق للنشر والتوزيع في شهر فبراير للكاتب الصحفي فايز الشيخ السليك هذه الجزئية ، وهي من الفصل الثاني من الباب الرابع والذي حمل اسم “أزمات البدائل عقبة في طريق التغيير “، وهي في ذاتها تلخيص للجزء المعني بالحركة الشعبية، وجاء الاختيار لما أتيحت للحركة من فرص كان يمكن أن تساهم في عملية تغيير كاملة، إلا أن غياب المؤسسية، والتباس الرؤية ما بين حقوق الاستفتاء وضرورة التحول الديمقراطي، وتغيير بنية المركز وإعادة هيكلة الدولة السودانية كلها ، حتى ولو صوت السودانيون الجنوبيون لاستقلال بلادهم، وهو حق اكتسبوه بعد نضالات طويلة، إلا أن الحركة عانت خلال الفترة الإنتقالية من أزمات هي أزمات مماثلة لأزمات العقل السوداني الجمعي، من انعدام التخطيط والاستراتيجية والتركيز على التكتيكات ، ورغم ذلك تبقى هناك نوافذ أمل مشرعة، وفرص يجب استثمارها من جديد ، لكن شرطها هو إعادة التفكير في كثير من المسائل التنظيمية والاستراتيجيات، والتكتيكات، والتفرغ لبناء حركة قوية بعيداً عن ضجيج الإعلام، والتعامل بردود الأفعال، والإيمان بأن العمل السياسي هو عمل جماعي، لا يمكن أن تقوم به مجموعة صغيرة، أو فرد واحد، لأن ذلك في النهاية سيقود إلى استبداد جديد، وتغيير مستبد قديم بمستبد يحمل شعارات الحرية والديمقراطية، لا سيما وأن الأيام اثبتت قدرة الحركة على بناء جيوش لكنها لم تنجح في بناء حزب سياسي جماهيري، وفي ذات الوقت ؛ فإن المسلحين من الجماعات المهمشة إن لم يتوحدوا حول مشروع فكري واضح ، فهم سوف يتماهون في شخصية وسلوك وقيم وأدوات المستبد ، وهو المركز .
و تعد تجربة الحركة الشعبية لتحرير السودان تجربةً رائدةً، وتحولاً كبيراً في منتجات العقل السوداني، فقد ولدت الحركة في الجنوب، وبقاعدة وقيادة جنوبية، تمثلت في كاريزما الدكتور العقيد جون قرنق ديمبيور، وأركان قيادته كاربينو كوانين، وليم نون، رياك مشار، سلفاكير ميارديت، تون أروب تون، لكنها سرعان ما جذبت شرائح مقدرة من أبناء الشمال الجغرافي، مع أن التركيز كان في بداية قيامها على أبناء النوبة في جنوب كردفان بانضمام القائد يوسف كوة مكي، وعبد العزيز الحلو، واسماعيل جلاب، وتلفون كوكو، ودانيال كودي، والنيل الأزرق بقيادة مالك عقار، ثم اتسعت الدائرة لتضم قادةً من آخرين الشمال النيلي بخلفيات يسارية ، لتتسع الدائرة بعد ذلك عبر لواء السودان في شرق البلاد بعد أن اتسعت دائرة المواجهات المسلحة شرقاً مع الحكومة في منتصف التسعينيات . ولست هنا بصدد التركيز على تاريخ ونمو الحركة الشعبية، بقدرما هي محاولة لنقد التجربة ذاتها، بمعرفة إيجابياتها، وسلبياتها، صعودها وهبوطها، ومكامن القوة، ومواضع الضعف، وموضعتها ضمن آليات التفكير السوداني. ومع فشل النُّخب السياسية في المركز في تقديم مشروع وطني بديل، أو حركة سياسية قومية تعبر عن كل ألوان الطيف السوداني داخل وعائها، طرحت ” الحركة الشعبية لتحرير السودان” مشروع السودان الجديد في عام 1983، كحركة عسكرية وسياسية حملت من الميزات ما حملت؛ فهي حركة مسلحة نشأت في أحراش الجنوب، إلا أنها على عكس ” الأنانيا الأولى” طرحت منفستو للسُّودان الموحد، وشرحت مشكلة السُّودان بأنها في مركزه، لا أطرافه، وكان لوجود شخص في قامة الدكتور جون قرنق ديمبيور دورٌ كبير في احداث نقلة نوعية في تاريخ السُّودان.فالحركة حين قامت ظلّت لدى كثيرين مجرد حركة “ عسكرية عنصرية”، والعنصرية هي دوماً تظل صفةً تُطلق في السُّودان على كل ما يأتي من خارج الشمال النيلي، أو مركز النُّخَب، فلأن الدكتور جون قرنق ينحدر من قبيلة الدينكا الجنوبية، فذاك وحده يكفي لطلاء الحركة بهذه الصبغة، مع أنَّها حملت شعار ” السُّودان الجديد”، ودعت إلى تحرير كل السُّودان، من الفقر، والجهل، والعنصرية، والتمييز، فكان شعار التحرير ذاته مثار جدل، ممن يُحرر السُّودان؟، ثم كان الجدل الكبير حول مشروع السُّودان الجديد نفسه، وهو بالتالي عند الآخرين مشروع أفريقي يهدف إلى إنهاء الوجود العربي والإسلامي في السُّودان، مع أن أحداً لم يعلن ذلك، لكن الثنائية المُسْتبطنة في التفكير الجمعي النخبوي في دوائر المركز، هي التي تحكم بما ترى، طالما هي وضعت نفسها ” مركزاً” هو ” نحن”، والآخرون ” هم، أو “الإخوة الجنوبيون”، وهكذا.
فقرنق بخلفيته الأكاديمية وشهاداته العليا في الاقتصاد الزراعي، ورتبته العسكرية التي اكتسبها من انتمائه لحركة المقاومة في الأنانيا”شكل ظاهرةً فريدة، فهو الجنوبي، المنحدر من قبيلة الدينكا أكبر القبائل السُّودانية، فقدَّم نفسه قائداً ” قومياً” مع أن القوى السياسية في معظمها، وبقية السُّودانيين في الشمال، لم يخفوا تخوفهم من ” عنصرية الرجل” و” انفصاليته” لا لشيئ سوى أنه جنوبي، وأنَّه لم يأت من المركز، فصوره الإعلام المركزي بصورة المتعطش للدماء، واللاهث وراء بنية وعيه التناسلي بمقولة ” قرنق يريد شرب القهوة في المتمة”، وهي مدينة من أهم مراكز قبيلة الجعليين، وكأن في ذلك عيب، مع أنَّ لكل السُّودانيين الحق في احتساء القهوة وغيرها في مريدي، وياي وجوبا وملكال وبانتيو، وجبل أولياء وحتى وادي حلفا.، إلا أنَّ من يرددون تلك العبارة الشهيرة كانوا يقصدون أنَّ الرجل يريد الاعتداء على نساء تلك القبيلة المشهورة بمحافظتها، وربما يستطبن البعض كذلك ما يُروى من قصص حدثت بين نساء الجعليين والخليفة عبد الله التعايشي، حيث يروى المنحدرون من تلك القبيلة كيف قاومت النساء السبي بالانتحار في نهر النيل.
إلا أنَّ الرجل ، ولِما يمتلك من رؤية ثاقبة، ووقوفه على وضعية استراتيجية ؛ تحاكي وضعية ” النسر” وهو يحلق في الفضاء ، كي يبصر كل ما فوق الأرض، ويحدد هدفه باتقان، لينقض عليه، فلذلك كان قرنق يرى أن المشكلة السُّودانية ليست في أطرافه، بل هي في مركزه، ولن تتحقق للجنوبيين مساواة وعدالة اجتماعية ما لم يتم تغيير مركز السُّلطة في الخرطوم، ومضى الرجل في ثقة كبيرة نحو أهدافه برغم الصور النمطية التي ظل إعلام المركز يرسمها له ، حتى صار الرقم الكبير الذي لا يمكن تجاوزه في معادلة السياسة السُّودانية، فكان أحد أعمدة ” التجمع الوطني الديمقراطي” كيان المعارضة العريض، منذ النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي، حتى عام 2005، بعد أن وقع اتفاق نيفاشا للسلام مع نظام “المؤتمر الوطني”، ليزداد نجمه بريقاً، وتكتسب صورته ألقاً جديداً ، ويتحول قرنق من سفاح إلى بطل حرب وسلام، ومن عنصري إلى قومي، ومن جنوبي إلى سُوداني ، فسعى “المؤتمر الوطني” للتحالف معه، مثلما سعى ا”لمؤتمر الشعبي” لكسب وده، مع احتفاظه بصداقاته مع قوى المعارضة الأخرى.
لقد كان قرنق كاريزما أجمع حولها معظم السُّودانيين، وهو ما لم يتوفر لقائد سُوداني آخر سوى للزعيم محمد أحمد المهدي في القرن التاسع عشر، وهو أمر تفتقر إليه السياسية السُّودانية، الرجل الكاريزما، الزعيم، ومحور التماسك ومركز الاستقطاب،
، ومثلما كان قرنق مثيراً جدل في حياته، فقد ظلت عملية موته بطريقة دراماتيكية يكتنفها كثيرٌ من الغموض، بعد سقوط الطائرة الرئاسية الأوغندية التي كانت تقله من مطار عينتبي إلى نيوسايت، موقعه التاريخي، فكان الحزن هو سيد الموقف، والاضطراب يرسم صورة مشهد تراجيدي، وفصل دموي من فصول الدماء المستمرة في السُّودان، ليعلن كثيرون أن ” السُّودان بلد غير محظوظ”. إلا أن فقد زعيم في قامة الدكتور جون قرنق ليس بالأمر اليسير ولا الحدث العادي، ومثلما كان قرنق مثيراً للجدل في حياته، فقد أراد ذات القدر أن يكون الرجل الزعيم مثيراً حتى عند مماته ، فهو كان مثل أسطورة، جاء ورحل كأبطال الأغاريق، ولمّا رحل في الحادثة الغامضة كان من الطبيعي أن يترك جرحاً غائراً في قلوب رفاق الدرب الطويل، وأن يغشى الإحباط كثيرين، وأن تنمو التيارات الاستقلالية من جديد، وتزدهر في سياق تاريخي تزكم فيه نتانة النعرات العنصرية الأُنوف، ويشطر إحساس الاستعلاء، والافتخار بالمجد الكذوب القلوب، ولذلك ، ليس من المستغرب أن تُركز ” الحركة الشعبية” على قضايا الاستفتاء أكثر من اهتمامها بقضايا السُّودان الأخرى، وان لا تعطي اهتماماً كبير لقضايا مُهمَّة مثل دارفور والشرق، والتحول الديمقراطي، والإعلام، ونشير هنا إلى معركة قانون الاستفتاء الشهيرة، حيث حاربت “الحركة الشعبية” بكامل قيادتها واستبسلت في عملية الدفاع عن مطالبها بإجازة مقترحاتها لقانون الاستفتاء، فلما خاف الشريك من الثورة عليه تراجع عن مواقفه ورضي بمقترحات” الحركة الشعبية” حول الاستفتاء، مقابل صمتها عن قانون الأمن الوطني والمخابرات، وقانون الصحافة والمطبوعات، فقد سحبت الحركة الشعبية أعضاءها لحظة التصويت لقانون الأمن الوطني ليمر بأغلبية المؤتمر الوطني الميكانيكية، ويظل القانون هو المقصلة التي نصبتها الإنقاذ لاصطياد الحريات، وشنق محاولات أي تحرك جماهيري للمطالبة بالديمقراطية، وإنهاء القبضة الشمولية للإنقاذ، ومع أن بعض قيادات الحركة الشعبية مثل ياسر عرمان ، وفاقان أموم ؛ بذلت مجهوداً مقدراً ضد قانون الأمن الوطني والمخابرات لسنة 2009، ، إلا أن المؤتمر الوطني كعادته أصر على مواقفه، واغتنم فرصة لهث الحركة الشعبية وراء قانون الاستفتاء، وهو ما أضعف موقف القيادات الناقدة للقانون، بما فيهم نائب رئيس جهاز الأمن الوطني والمخابرات الفريق ماجاك أكوت،، فخرج الأمر في شكل اعتبره كثيرون ” صفقة” أو ” مساومة” بين الشريكين. وهو ما عبر عنه لاحقاً، وبعد انفصال/ استقلال الجنوب، أحد حلفاء الحركة الشعبية خلال سنوات الفترة الانتقالية الست، وهو القيادي الناصري ساطع الحاج “ خلال لقاء بصالون الأستاذ سيد أحمد خليفة مؤسس صحيفة ” الوطن” أنّ ( الحركة لم تكن جادة في في إخراج البلاد من أزمتها، وهي لم تكن حليفاً – في تثبيت الديمقراطية.. وأضاف أن الحركة استخدمت قوى المعارضة واستغلتها للوصول بها إلى الانفصال ورأى ساطع أن الحركة عقدت صفقةً مع المؤتمر الوطني، بتمرير قانون الصحافة في البرلمان مقابل تمرير قانون الاستفتاء، وكذلك تمرير قانون الأمن مقابل تمرير قانون المشورة الشعبية.. وسدد سهامه نحو الحركة الشعبية باعتبارها “استخدمت قوى المعارضة كمنصة للوصول للانفصال “ ، ومع أن ساطع، وبقية الديمقراطيين الشماليين ليس بمنأى عن اللوم هم أنفسهم، لاعتمادهم على “آخرين” يتولون قضاياهم، ويقاتلون لهم بالوكالة ، أو بالأصالة، فما ” حك جلدك مثل ظفرك”، ولا يمكن أن ينتظر من يطالب بالتغيير أن يتجز له مطلبه هذا آخرون، دونما استعداد منه لتقديم تضحيات، فلم تستغل القوى السياسية الأخرى هامش الحريات الذي جاء بفضل اتفاقية السلام الشامل، ومواقف الحركة نفسها، فقد عاشت هذه القوى في حالة بيات، بلا برامج، ولا خطط، ولا وسائل، وحتى حينما كونت تحالف ” قوى الإجماع الوطني” ظل الحلف كياناً شكلياً، ونادياً لعقد اجتماعات، واصدار بيانات مكرورة، دون أن ينظم الجماهير، ويحشدهم ويطرح لها برامج بديلة للانقضاض على النظام واسقاطه، بل أن بعض قيادات هذه القوى تحولوا إلى كتاب ومحللين ومراقبين، مثل الصادق المهدي، ودكتور الشفيع خضر القيادي في الحزب الشيوعي السوداني، أكثر منهم فاعلين فوق خشبة المسرح السياسي.
أما “الحركة الشعبية” ، فقد اضطرت لاستخدام إحدى آليات الدفاع عن النفس، وفق ما تقتضيه سيكولوجية الإنسان المقهور، وحيله الدفاعية و هو الانكفاء على الذات، فاختارت أن تنأى بعيداً عن “الدولة السُّودانية الأحادية والعنصرية والدينية”، وزهد قادتها في أي عملية إصلاح للدولة المعطوبة، ورأت أنها بالانفصال/ الاستقلال سوف تحفظ كرامة شعبها، ووجودهم، وهو خيار كان متوقعاً، لأنَّ التصويت للوحدة في مثل هذه الظروف كان يعني ” بصمةً ” رضاء عن كيان الدولة السُّودانية المهترئ، بكل ما فيه من استبداد وتمييز، واستعلاء لا سيما؛ وأن فرصة ” تقرير المصير” قد لا تتكرر مرةً أخرى، وهي الفرصة الوحيدة للجنوبيين لاختيار أن يكونوا مواطنين درجة أولى، أو درجة ثانية إلا أنَّ ما يأخذه البعض على ” الحركة الشعبية” ليست ساعة التصويت، بل سنوات الفترة الانتقالية وما فشلت فيه، أو رفضته ” نفسيا” ،وهو التخطيط لتغيير هيكلة الدولة كلها، ووضع حدٍ لهيمنة نُخب المركز، ووما يحملونه من مشاريع اقصائية، وشمولية مدمرة، وبعد أن وقع الانفصال في استفتاء يناير 2011، انكشف ظهر “الحركة الشعبية” شمالاً، واتضح الخلل التنظيمي الكبير الذي عانت منه ، فهي الحركة التي ضمت مئات الآلاف لعضويتها بطريقة احتفالية ، أكثر منها طريقة تنظيمية، وهو أمر مربوط بشخصية قائدها في الشمال، ياسر عرمان، فالرجل يمتلك خصاص نادرة، فهو مصادم، وشرس، وتكتيكي من الدرجة الأولى، وهو مناضل من طراز فريد، ومحارب قديم ، إلأ أن ذات الشخصية تعاني من نقاط ضعف أخرى، فهو بمثلما تكتيكي من طراز فريد فهو لا يعير الاستراتيجيات اهتماماً، كما أنه يضيق ذرعاً بالنقد والرأي الآخر، لدرجة الاستبداد، ويفتقر إلى سعة الصدر، وهو أمر مربوط بتربية عرمان التنظيمية، فقد نشأ الرجل في الجبهة الديمقراطية قيادياً مناكفاً، حتى انشق عنها، ثم التحق بالجيش الشعبي ، وعمل خلال معظم فتراته تحت قيادة مباشرة لقادة الحركة مثل سلفاكير ميارديت، والدكتور جون قرنق، مما جعله متحللاً من الالتزام بالمؤسسية، وأطرها وظوابطها، وحتى تراتبيتها وسط الجيش الشعبي، فهو يستطيع مخاطة سلفا وقرنق مباشرةً دون مرور بقنوات تنظيمية أخرى، وهو ما جعله أشبه بمركز، أو تنظيم قائم بذاته، ويدعمه في ذلك خطابه السياسي ، ومواقفه الواضحة فيما يتعلق بقضايا الهامش، وحقوق المهمشين، وتمدده الجماهيري من خلال وسائل الاتصال الجماهيري المختلفة. وقد ساعد هذا في ارتباط البناء التنظيمي للحركة بشخصية ياسر عرمان، ويكفي هنا الإشارة إلى أن “الحركة الشعبية” قامت بثلاث حملات للبناء التنظيمي خلال ست سنوات، فكانت كل حملة تقوم فوق ركام سابقتها، دون تقويم للأخطاء السابقة، أو تمحيص في العضوية، لا سيما أن سيلاً كان قد انهمر على الحركة الشعبية مع بشريات اتفاقية السلام الشامل، فحمل السَّيل الغث والسَّمين، والوطني والانتهازي، وكان الانتهازيون من مناضلي الساعة الخامسة والعشرين هم الأكثرية اذا ما أضفنا إليهم غواصات الأمن و”المؤتمر الوطني”. ، والواقع الماثل أمامنا اليوم يقول إن الفلسفة التى على أساسها تم تنظيم وبناء الحركة الشعبية لتحرير السودان بالقطاع الشمالى (” توطين ” الحركة الشعبية فى الشمال) والتى كنا جزءاً منها رغم التحفظات , لم تصمد طويلاً أما الرياح , إذ إنهارت فى أول منعطفٍ بإعلان الحرب فى جبال النوبة ( 6 يونيو 2011) وبعدها فى النيل الأزرق (1 سبتمبر 2011) ومن ثم حظر نشاط الحركة الشعبية فى الشمال ومصادرة دورها ومكاتبها واعتقال العديد من الكوادر , بل أنَّ العديد من الكوادر التى جاءت إلى الحركة الشعبية وفقاً لهذه الفلسفة تركوها مبكراً جداً , منهم من عاد إلى “المؤتمر الوطنى” ومنهم من عاد إلى أشغاله الخاصة بعد اكتشافه أن الحركة الشعبية ليست مكاناً للكنوز والأموال مثل “المؤتمر الوطنى” , بل هى حركة تحرر وطنى مربوطة بقضايا المهمشين والمعدمين , وحتى لا نكون مجحفين فى حق البعض فهناك العديد من الرفاق الشرفاء الذين صمدوا أمام الحملة الشرسة بعد إعلان الحرب وتم اعتقالهم وتعذيبهم فى السجون دون أن يغيِّروا ” ماركتهم ” المسجلة لدى الشعب السودانى” ، ويشير شالكا وهو من قيادات شباب الحركة ومدرسة الكادر إلى أسماء كثير من القيادات، ومعظمها انضم للحركة بعد اتفاقية السلام ، لكنهم سرعان ما أعلنوا انسلاخهم، أو رجوعهم إلى قواعدهم سالمين ومن أمثال هؤلاء ؛ غازى سليمان – الذي ترك الحركة الشعبية مبكراً وتبنى خط المؤتمر الوطنى داخل البرلمان الذى دخله بتذكرة الحركة نفسها , وصارع الرفاق داخل البرلمان وخاصة ياسر عرمان الذى شن عليه هجوماً عنيفاً, وهو من قام بحملة جمع توقيعات إسقاط عضوية ياسر عرمان رئيس الكتلة البرلمانية ورئيس لجنة الإعلام آنذاك , وقد نجح , وكان يتحدث فى البرلمان باسم الحركة الشعبية ضد ها ، وأذكر شخصياً أنني كنت والصديق مصطفى سري في صحبة ياسر عرمان لحضور مناسبة زواج تخص الدكتور محمد يوسف أحمد المصطفى، وزير الدولة بوزارة العمل الأسبق، وكان ذلك متزامناً مع إعلان نواب المجلس الوطني، فقلنا لعرمان أنّ اختيار غازي هو اختيار خاطئ، لأن الرجل لا يعدو سوى مهرجاً سياسياً، وأنه لن يضيف شيئاً للحركة إن لم يخصم منها، إلا أن عرمان صمت حينها، وهو من سعى يوماً لتلميعه، وقد سبق أن أعلنت الحركة في عام 2001 اطلاق سراح أسرى في شرق السودان، أكد لي عرمان أن تلك الخطوة هي هدية لسليمان الذي كان في زيارة إلى اسمرا آنذاك، والمعارضة للنظام على أشدها، المهم علمت فيما بعد أن الدكتور منصور خالد هو من رشح غازي سليمان لعضوية المجلس الوطني وأن عرمان لزم الصمت ازاء هذا الترشيح، وقلت لصديقي سري أن صديقنا ياسر يتعامل معنا ” كصحافيين” نكتب الأخبار، لكنه لا يثق في تقديرنا للأشياء، ولا مقدرتنا على النقد السياسي ومعرفتنا بالبشر، و هناك كما يشير شالكا إلى كل من “ محمد المعتصم حاكم – المستشار السابق للأمين العام للحركة الشعبية – وهو عضو البرلمان القومى عن الحركة الشعبية وبنسبة قطاع الشمال, انضم إلى مجموعة دانيال كودى .( لاحقاً عاد إلى حزبه القديم وهو الاتحادي الديمقراطي)، و محمد شنان – رئيس الحركة الشعبية بولاية نهر النيل, مرشح الحركة الشعبية لتحرير السودان فى دائرة شندى – انسحب ل ” على كرتى” وانضم للمؤتمر الوطنى ، عدنان الخليفة التعايشى – رئيس الحركة الشعبية بولاية النيل الأبيض – انضم للمؤتمر الوطن منذ وقت مبكر ، عبد المنعم منصور – وزير الصحة بولاية شمال كردفان عن الحركة الشعبية – انضم للمؤتمر الوطنى بعد الانفصال وعقد مؤتمراً صحفياً مع إخلاص صلاح فى المركز السودانى للخدمات الصحفية التابع لجهاز الأمن وأساء إلى نائب الأمين العام ياسر عرمان واتهمه باختلاس ميزانية الانتخابات ( 12 مليار جنيه ) .، / مرشح الحركة الشعبية لتحرير السودان لمنصب والى شمال كردفان – انضم إلى المؤتمر الوطنى ، ” . ولم يكن هؤلاء حالةً شاذة، فقد خرج عن الحركة الشعبية، وانقلب ضدها نافذون، وأعضاء مكاتب سياسية، ومجالس تحرير، وأعضاء مجالس تشريعية وبرلمانية، بل أن أحدهم رأي أن فترة وجوده في الحركة الشعبية كانت فترة ” ضلال مبين”، وهو من كان يشغل منصب وزير تعليم بجنوب كردفان ، وهو جمعة إبراهيم” ، وهناك دانيال كودي نائب والي ولاية جنوب كردفان، وتابيتا بطرس وزيرة الصحة، وعضو المكتب السياسي، وعباس جمعة وزير دولة بوزارة الداخلية، وغيرهم كثيرون.
لقد أخطأت :الحركة الشعبية” في عملية بنائها التنظيمي باعتمادها على النشاط الاحتفالي وحده، و على الرموز التقليدية لقيادة العمل السياسي لبناء سودان جديد ، وهو ما دعا البعض لوصف هذه الحالة بأن الحركة سعت لبناء سودان جديد بآليات قديمة، وهو يعني أن عقلية قيادة الحركة لم تنفك من طرائق تفكير عقلية السودان القديم، وهو أمر خطير، ويفضح طرائق التفكير، والعقل الذي أنتج مثل هذه الأفكار، وهو ما يجعل من السُّلطة غايةً ، لا وسيلةً من وسائل التغيير، وأن أقرب الطرق للوصول إلى السُّلطة هو الإعتماد على المؤسسات القديمة، ورموزها، ضاربةً بدور الجماهير عرض الحائط، فقد هرولت الحركة هرولةً نحو كثير من الرموز، ومن أجل استقطاب قيادات تنتمي لأسر معروفة مثل أسرة الناظر منعم منصور في شمال كردفان، أو أبوروف في سنار، أو أبو سبيب في ولاية الجزيرة، لتتولى القيادة، حتى دون أن تختبر في مواقفها، ورؤاها، ومفاهيمها، ولو كانت الحركة تفتقر لعناصر قيادية بديلة لكان الأمر مقبولاً، بل فالعكس هو الصحيح، فقد ضمت عضوية “الحركة الشعبية” عشرات من القيادات الصلبة، والنزيهة، والتي عمل بعضها في قيادة النقابات وانتفاضة أبريل 1985، وبعضهم زاهدٌ، في كل المناصب الدستورية والسياسية والتنفيذية، لكنه كان يمني النفس بخدمة مشروع السُّودان الجديد من أي مكان يقف فيه، إلا أن قيادة القطاع الشمالي لم تعطهم اهتماماً؛ لا سيما أولئك المنضمين من ” التحالف الوطني / قوات التحالف السودانية، خلال عملية دمج ظلت تتعثر سنوات طويلة، دون أسباب موضوعية، وقد حرص مسؤول التنظيم في القطاع الشمالي ياسر جعفر، خاصة في فترة التحضير للمؤتمر الثاني للحركة الشعبية في جوبا في مايو 2008، على ضم بعض من هؤلاء وتوظيفهم، إلا أن حالة الضعف العام جعلت هؤلاء ” غرباء داخل القطاع الشمالي.، وهو أمر يعضد ما يعتبره البعض أن قيادة الحركة في الشمال كانت لا ترغب في وجود قيادات يمكن أن تكون ذات تأثير ، واستقلاليه، ولا تقبل أن تكون تابعةً لشخص، أو حتى مجموعة صغيرة تظن أنّها، تتميز بصفات خارقة أكثر من الآخرين، وأنها تمتلك مفاتيح الحلول لكل الأبواب المغلقة، وقد عبر لي كثير من المتابعين والمهتمين بموضوع دمج التحالف وجناحه المركزي في ” الحركة الشعبية” عن تلك ” الهواجس”، وكنت أرد أن الموضوع مربتط بربكة تنظيمية كبيرة ، إلا أنَّ هذه التبريرات تفقد منطقها في بعض الأحيان . وقد سعيت شخصياً من ولادة المشروع للتقريب بين الأطراف، ونقل وجهات النظر بطريقة تساعد في الوصول إلى نهاية منطقية ومطلوبة ، إلا أنَّ ذلك لم يتحقق بشكله المرتقب.
ومع إعلان “المؤتمر الوطني” للحرب في النيل الأزرق وجنوب كردفان تكشف للمراقبين للأمور أن الحركة يمكن أن تصمد ” عسكرياً” ويمكن أن تبني جيشاً قوياً، وسوف تحرز انتصارات عسكرية كبيرة ستلقي بظلال كثيفة على الأوضاع في السودان؛ إلا أن ذات الحركة، لا تزال تواجه صعوبات جمة في عملية بناء جسم سياسي ، منضبط تنيظيمياً، ومرثر سياسيا، وله مؤسساته الفاعلة، وعضويته النشطة ، فمثلاً؛ لو أن عملاً دؤوباً وجماهيريا تم قبل الحرب ، لخرج الآلاف يدافعون عن دُور الحركة التي صادرتها السلطات الأمنية، ويعتصمون بها، ولقاموا قرارات جهاز الأمن الوطني والمخابرات بإغلاق الدور، ومصادرة الممتلكات، واعتقال العضوية، وتدجين آخرين، إلا أن السيف كان قد سبق العزل، وتحولت الحركة إلى رد فعل، بدلاً من أن تكون هي الفعل السياسي، وقد بدا هذا الخلل واضحاً قبل إجراء استفتاء السُّودانيين الجنوبيين ، ولغياب الرؤية والاستراتيجية ؛ ولذلك فقد ظلّت عناصر الحركة الوسيطة والشابة تفضل الهروب من الخرطوم حال تعرُّضها لأي مضايقات من قبل السلطات، أو اعتقال أو حتى مجرد تهديد بالاعتقال، وهو ما كان رصيداً إيجابيا لصالح جهاز الأمن والمخابرات ، فقد سعى الجهاز بطرق الترهيب تلك لتفريغ الساحة السياسية من العناصر المناوئة، والقيادات الوسيطة التي كان يمكن أن تشارك في عملية تنظيم وتعبئة و قيادة الجماهير، والقطاعات الشبابية والطلابية، ويعود ذلك لضعف التدريب ، والوعي التنظيمي، وغياب المؤسسية، وربما لا يلوم البعض هؤلاء الشباب، أو الكوادر، لأن القيادة نفسها بدلاً عن إقناعها بالبقاء في الشمال، أو الانخراط في العمل المسلح، ظلت تقدم لها الدعم اللوجستي لتهرب من جحيم الخرطوم، والبحث عن ملاذات آمنة، أو حقوق لجوء سياسي، ونشير هنا إلى عدد من الأمثلة، فقد تعرض رئيس الشباب علي كمنجة للاعتقال والتعذيب ، في بداية 2011، فاضطر للسفر إلى جوبا، ثم لحقه نائبه بعد أشهر قليلة ليكون قطاع الشباب بلا قيادة، مثلما غادر مسؤولو الأمانات وبعض قيادات الولايات كل الشمال.
إن الأزمات المتلاحقة التي مر بها السُّودان، وكذلك ” الحركة الشعبية” أوضحت بجلاء أن قصوراً خطيراً تعاني منه الحركة، و يتمثل في عجزها عن طرح رؤية سياسية وفكرية بديلةً ، ومؤسسة متينة، تدير أمورها، وتؤمن بمبدأ توزيع الأدوار، والمهام، لا أن يكون الفريق المفاوض، هو الفريق التنظيمي، والسياسي والإعلامي، بلا سعي لخلق قيادات جديدة، تضطلع ببعض المهام تدريجياً، وهو أمر في ذات الوقت يمكن أن نربطه بأن الحركة لا تزال تعتمد في رؤيتها على شعارات ، لم تتم عملية موضعتها داخل أطر فكرية ، تعمل الذهن، وتوسع الآفاق، وتفتح الأبواب مشرعةً نحو المستقبل. حيث لم تستغل هدنة السلام، وفترة الست سنوات في بناء تنظيمي له جذور، وخلق كوادر قيادية مدربة وواعية، ومؤسسات مالية وإعلامية فعالة، كان يمكن أن تساهم في عملية التحول الديموقراطي، والتنوير بقضايا المهمشين، وانتزاع حقوقهم، ومن ثم تغيير عقلية المركز، وإعادة هيكلة الدولة السودانية وفق رؤى جديدة، وهنا نشير إلى مواقف ” الحركة من صحيفة ” أجراس الحرية”، وهي كانت منبراً ساهم في خلق أرضية صلبة، ونجح في مساعدة الحركة في إدارة كل معاركها السياسية مع ا”لمؤتمر الوطني”، إلا أنَّ الصحيفة ظلت تعاني من الضعف هي الأخرى، وقد أخطأت “الحركة الشعبية” منذ أن اقتنعت بفكرة الصحيفة، في اختيار مجلس إدارة فعال، لكنها تركت الأمر لمن لا علاقة له بالإعلام، وقضايا الاستنارة، وهو ما جعل الصحيفة تتعرض لهزات مستمرة، دون أن تتدخل الحركة لمعالجة الخلل الواضح.
لقد بدأنا “أجراس الحرية ” بخلافات، ومناوشات، وكانت أولى بوادر الصراع هي محاولة الهيمنة من قبل الإدارة، وهي مختصرة في شخصٍ واحد، وللمفارقة أن الأستاذ مصطفى سري ، هو من وقع نيابةً عنه في عقد تأسيس الشركة!، وقد استعان الرجل بمجموعة من الدخلاء على العمل الإعلامي، فكان سري أول المبعدين من هذا المشروع لأن الرجل لا يرغب في وجود مؤسسين معه ، أو أسماء معروفة تبعد عنه الأضواء، وهو ما يُفسِّر كذلك صراعاته المستمرة مع قيادات الصحيفة ، وقد لا يُصدَّق القارئ أن هذه الشخصية فرَّضت نفسها؛ هكذا ، لكي تمسك بكل شيء ، بسبب غياب المؤسسين ، واستراتيجة ” الحركة الشعبية” للإعلام . ورغم ذلك، وفي تلك الأجواء حدثت نُقلةٌ نوعيةٌ كبيرة، تمثَّلت في دخول صحافيين ديمقراطيين في المشروع كحلف بين ” الحركة الشعبية، والصحافيين الديموقراطيين، والمجتمع المدني”، وقد لعب الأستاذ الحاج وراق دوراً كبيراً في قيام المشروع، من خلال اتصالاته، وعلاقاته، واسمه، و من خلال ميثاق ساهم هو فيه بالقِدْح المعلى، بناءً على مسودة أولية وضعتها أنا، كما ساهم الدكتور مرتضى الغالي معنا في الحوار الأولي حوله، قبل أن يتم تحويل المشروع إلى المؤسسين ومجموعة صحافيي الحركة ، ثم إلى الأمين العام فاقان أموم، والذي كان حريصاً على استقلالية الصحيفة، ومنح الصحافيين الديموقراطيين أسهم في الشركة تقويةً للشراكة، وتعضيداً للتعاون، وتأكيداً على انفتاح المشروع، واستقلاليته، ووسط تلك الغيوم، وأجواء التوتر، والاختراقات الأمنية، فقد انطلقت الصحيفة قويةً، ووجدت نفسها في مقدمة الصحف من أول يوم لصدورها في السابع من أبريل 2008، لكن، وبعد أشهر قليلة، علت الأجندة، ودخلت الوساوس، وانعدمت الثقة ، واجتهد جهاز الأمن والمخابرات في زعزعة أوضاعنا، من خلال بث الفتن، والضغوطات المالية، والاقتصادية، و مشاكل الطباعة، فسادت الخلافات حول صلاحيات هيئة التحرير، ورئيس التحرير، وحول تدخلات الإدارة في الشؤون التحريرية، وتعطيل أي محاولة لتطوير المشروع ، وقد أدى هذا الوضع إلى هجرة معظم الأقلام المؤثرة، من المؤسسين، وعلى رأسهم الأستاذ وراق، وكمال الجزولي، ورباح الصادق، ود. حيدر ابراهيم علي، ومحمد جلال هاشم، وام تفكر قيادة “الحركة الشعبية ” في أهمية ” أجراس الحرية” كمنبر وصحيفة، بل تاهت في تفاصيل قضايا أخرى، وكثيرا ما كان وراق يُحدَّث صديقه عرمان عن أهمية الإعلام، ويوجه له انتقادات حادة لإهمالهم لمشاريع الفضائية والإذاعة، وأن صحيفة “أجراس الحرية” بنجاحها لم تهتم الحركة بها، مما أدى إلى تحطيمها من الداخل.
لقد كانت ” أجراس الحرية” اكثر المنابر ذات الصلة بالحركة الشعبية فاعليةً، وحضوراً، وتأثيراً، إلا أنَّ قيادة الحركة أهملت الصحيفة ، وتركتها تدار بطريقة ” سوق الملجة” ، وكثيراً ما تقدمنا بالشكاوي، والملاحظات إلى الأمين العام للحركة فاقان أموم، ونائبه ياسر عرمان، إلا أن النتيجة كانت تواطؤاً بالصمت مع إدارة الصحيفة، ويفسر هذا التواطؤ بأن قيادة الحركة الشعبية ، لا تمتلك الرؤية الشاملة للإعلام، فالبعض يعتبره مجرد ” تصريحات وبيانات” ، وهي في ظنه وصفات سحرية سريعة المفعول ، تلهب الجماهير، وترهب النظام الشمولي، وتقدم الحلول للقضايا، ولذلك، فإنه لا يفكر في كيفية تفعيل آلة كاملة، لكي يقوم آخرون عبرها بأدوار مختلفة، بعيدا عن مسرح ” ال ” One man show “.، وهو موقف متخلَّف من الإعلام، فالإعلام صار صناعة، تتطلب الكثير من المدخلات المادية ، والبشرية، وصار أحد اهم آليات التغيير، أو حتى السيطرة ، وبالتالي فهو يحتاج إلى مؤسسات للتخطيط، وللتدريب، والتوعية، وخبراء في الإعلام، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، لمعرفة السلوك الإنساني، وكيفية التأثير والتأثر، وكيفية تصميم الرسائل، ووسائل إرسالها، ودراسة أوضاع المتلقي ” المرسل إليه”، ومن ثم معرفة التغذية الراجعة ، أو ” feed back ” ، وهو في ذات الوقت من أهم آليات القهر، وممارسة الاستبداد، وإذلال الناس، ولقد أدرك الإسلاميون مبكراً دور الإعلام، وأهميته، فابتعثوا العشرات من كوادرهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وأوروبا، للتخصص في الإعلام، ونظرياته، وتوظيفه لخدمة الأيديولوجيا، وبعد ذلك امتلكوا الصحف والفضائيات والإذاعات الخاصة، ومراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية، ومعرفة اتجاهات الرأي العام، واستطلاعات الرأي وقياسه، وهو ما فشلت فيه الحركة الشعبية فشلاً كبيراً، فلا أعرف أحداً من كوادر الحركة الشعبية تلقى دراسات عليا في هذا التخصص، أو حتى دورات تدريبية وتأهيلية في هذا المجال!.، وبالطبع فإن أزمة الإعلام ، وبناء مؤسساته ، تظل مرتبطة، بأزمة شاملة، وهي أزمة ، ليست غريبة عن حركة غلب عليها الطابع العسكري في بداية انطلاقها، ولسياقها التاريخي الذي نشأت فيه، إلا أنها ظلت حبيسةً في مأزق التراتبية العسكرية كضرورة ميدانية، وعملياتية، حتى اتفاقية السلام الشامل ، وهي مرحلة دخلتها بعض القيادات كذلك بمظهر المنتصر، والقوي، والعارف بكل شيئ، والملم بكل خيوط اللعبة السياسية بمهارة عالية، لا سيما بعد حفاوة الاستقبال الذي وجدته في الخرطوم ، وما أحسته من إحساس المنتصرين، وغرور الفاتحين.
لقد كانت “الحركة الشعبية”، ولا تزال على مستوى الشعارات، تمثل طوق نجاة يمكن أن ينقذ الدولة السودانية من الغرق، فهي حركة قومية في شكلها وفيما تطرحه من ” شعارات”، ويكفي أنها الحركة الوحيدة التي تضم عشرات الآلاف من عضويتها وقياداتها في جبال النوبة، والنيل الأزرق، ودارفور ووسط السودان، وهو ما لا يتوفر لكل الحركات والأحزاب السياسية الأخرى، لأنها إما أحزاب مركز، تعبر عن عقلية وتفكير المركز، أو حركات احتجاج مطلبية قامت كرد فعل لسياسات المركز، فاكتفت بالنظرة الجزئية للأزمة السودانية، وحصرها في مناطق هذه الحركات، دون التركيز على أن أس الأزمة هو تفكير النخب السياسية، وفشلهم في إدارة التنوع الثقافي والعرقي والديني. إلا أن الأزمة التي، لا تزال تواجه الحركة الشعبية، ربما تقعدها عن القيام بدورها في بناء سودان جديد، وإحداث تغيير نوعي، باعادة هيكلة الدولة السودانية، وتحقيق قيم المساواة والحرية، والعدالة الاجتماعية، وهذا مشروع يمكن إنجازه عبر تكوين ” كتلة تاريخية” تضم المهمشين والديمقراطيين في الشمال، وهي ليست أزمة “الحركة الشعبية” وحدها ، بل هي أزمة الجميع، وهي ذات شق ذاتي مرتبط بتفكير قيادة الحركة الشعبية التاريخية، وظروف الحرب التي عاشوها، ويعيشونها، والبطء في طرح مشروع وطني جامع، أما الشق الثاني من الأزمة فهو مرتبط بظروف موضوعية أخرى تتعلق بالنُّخب الشمالية، ونظرتها للحركة الشعبية كتنظيم ” جنوبي”، ثم “عنصري”، وهو أمرٌ يُعبَّر عن أزمة المركز، حيال كل ما يأتي من الهامش، أو ما لا يشارك في صناعته، أو خلقه، وهو أدى من وجهة نظري إلى الفشل في خلق حلف استراتيجي مع قطاعات واسعة في المركز، ومعظمها من قطاعات؛ المهمشين مثل المزارعين في مشروع الجزيرة، والقضارف، وشرق السودان، وطبقات العمال المنتشرة في كل الشمال، ومتضرري السدود، وأبناء الشمال النوبي، بالإضافة إلى الديمقراطيين العاملين على تغيير المركز ومقاومة هيمنته، وظلمه، ولا إنسانيته، ولو استمر الفشل المتبادل، فلسوف نعيد إنتاج أزمة أخرى، تدفع أبناء النوبة والنيل الأزرق ، ودارفور للمطالبة بحق تقرير المصير، تنفصل حلقة ” الجنوب الجديد” ليتنقل الحلقة المرة القادمة إلى الجزيرة والنيل الأبيض ، وشرق السودان، فتتم عملية شد السودان من أطرافه، لا بسبب ” مؤامرة”، لكن بسبب سياسات النُّخب، من جانب، وفشل حركات الهامش في عملية التغيير الكلية، والاكتفاء بتغيير جزئي، يحقق مكاسب ” جهوية”، أو ” اثنية”، أو حتى يأساً من الإصلاح، وإحباطاً من الواقع، وهو أمر وارد في ظل دولة هشة، وفاشلة، غاب عنها المشروع الوطني، وعانت من تصادمات الهوية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.