من الارشيف أعيد نشر هذا العمود الذي كتبته في مايو الماضي بعد اعتقال الدكتور حسن عبد الله الترابي، ولن أقوم بأي تعديل، وبالمناسبة لم أرجعه حتى الآن، ولن أعدل أية جملة؛ مع أن هناك تطورات كثيرة جرت خلال الثمانية أشهر الماضية، لكن نعيد هنا للتاريخ، وكأنه يعيد نفسه، وهو دليل ركود، وتأكيد أزمة تفكير، وتفكير أزمة. الترابي قالها عندما حصلت المفاصلة الشهيرة في عام 1999، وحصل حينها الصراع الشهير، ما بين القصر والمنشية، وما بين بين بين وقف آخرون، لكن الترابي فك بعض الغاز الحكاية، وهي حكاية انقلاب 30 يونيو 1989، فقد قال ( قلت للبشير اذهب للقصر رئيسا، وأنا أذهب إلى السجن حبيسا)، وهي في سياق التمويه، وكسب الوقت، حتى يجد التحرك العسكري مشروعية استمراره، وأن يعطي الفرصة للتمكين، وللمشروع الحضاري، فذهب الترابي للسجن في المرة الأولى، ولكن على طريقة ( لا تطق معي صبراً) حصلت المفاصلة، وصار الدكتور الترابي من مترددي السجون، وصاحب سوابق مشهور، وان كانت الأولى على الشيخ الترابي، فالخمس البواقي كانت له، وهي في رصيده السياسي، والنضالي، فالرجل وقف مواقف قوية ضد الدكتاتورية، وله صولات وجولات من أجل (تطهير الذنوب). وعندما سأل الدكتور جون قرنق في احدى المرات الدكتور علي الحاج عن صحة الترابي، وهو سجين، رد الحاج ان الشيخ يكتفي بالأسودين (الماء والتمر)، وهو في صحة سيئة، فرد الدكتور قرنق بسخريته المعهودة ( سمعنا أن الثورات تأكل بنيها، لكنها المرة الأولى التي نسمع فيها بأن الثورات تأكل أبيها). وهي حكاية معقدة، وفصولها طويلة، وهي فصول ذعر وخوف، وفي ذات الوقت فصول شره بالسلطة، وهذا الشره هو ما يؤدي إلى استخدام كل الوسائل، واتباع كل الأساليب، فالتزوير وحده لا يكفي، والتنكر للأبوة لا يكفي أيضاً، وسن الشيخ الكبير لا ترحم، فالترابي في منتصف السبعينيات، وهي سن تسقط حتى حكم الاعدام. ولسخرية الأقدار أن يأتي اعتقال الترابي وايقاف الزميلة (رأي الشعب) واعتقال زملاء صحافيين وأصدقاء نحترمهم مثل أباذر، والناجي، وأشرف بعد مسرحية الانتخابات المهزلة، وهو ما يؤكد ما ذهبنا اليه كثيراً من أن الانتخابات بدلاً عن أن تحل الأزمة ساعدت في تفاقم الأزمة، وصبت كثيراً من الزيت فوق النار المشتعلة، وللمفارقة، فإن الحكومة وحركة (العدل والمساواة) وقعتا اتفاقاً اطارياً تم بموجبه الغاء أحكام اعدام ضد منسوبي الحركة، واطلاق سراح بعضهم، لكن بعد الانتخابات عادت ذات الحكومة وطالبت بملاحقة خليل إبراهيم عبر الانتربول!، وقبل الانتخابات كان مناخ الحرية أفضل، ومساحتها على ضيقها كانت أكبر، لأن بعدها شهدنا تقديم الصحافيين إلى المحاكم بسبب الرأي السياسي، وشهدنا المضايقات على الصحف، وفي ذات الوقت جاء التتويج باعتقال الدكتور حسن الترابي! واغلاق صحيفة ( رأي الشعب)، واعتقال الزملاء الصحافيين. هو ارتداد متوقع، وسبق أن أشرنا إلى (الانقاذ ) في نسختها الرابعة، وهي اعادة انتاج الأولى، بثياب مدنية، وهي لا تحتاج إلى تمويه بذهاب أحد إلى السجن، فالذهاب هذه المرة ليس طوعاً، لكنه اجباراً، وفي الحالتين كان الهدف هو (تمكين) الانقاذ، ولا ندري لماذا تهتف الانقاذ كلما زادت عمراً ( هل من مزيد؟.) وبعد ذلك، وقبله ما كنا في حاجة لكل ذاك الصرف البذخي على ما يسمى بالانتخابات، طالما النتيجة هي ذات النتيجة، وهي القمع، والاعتقالات، ومصادرة الصحف، وهو نهج استمر سنينا عددا، ولا حاجة لتجميل وجوه، أو تغيير أقنعة. نشر العمود بالصحيفة في منتصف مايو 2010.