[email protected] قمت بنشر هذا المقال قبل حوالي 4 سنوات (قبل انفصال الجنوب), و أقوم بإعادة النشر عله يصل الي من يقرفون من موقف السودان, ليعلموا أن الشعب السوداني كله من المؤيدين لسد النهضة و الرافضين لاتفاقية 1929 و 1959 لأنها مهينة للسيادة السودانية, مجحفة, استغلالية, قوضت أمن السودان, و عطلت نموه, اضافة الى أنها تسير بالسودان نحو تجريده من حقه في مياه النيل. و سوف أتطرق لكل واحد من هذه الأسباب بالتفصيل: أولا- الاتفاقية مهينة للسيادة الوطنية: اتخذت مصر قرار اغراق كل المدن و القرى السودانية لمسافة تمتد ل200 كلم جنوب الحدود المصرية, و استغرقت دراسات و تصميمات السد العالي سنوات طويلة لم يخطر ببال الحكومة المصرية خلالها ضرورة أخذ موافقة حكومة السودان أو اخطار الأهالي المتضررين, و أول خبر وصل للآذان السودانية عن السد العالي ورد في جريدة الاهرام و لم يكن عند حكومة أو شعب السودان حينها أدنى علم بالأمر. لقد داست حكومة عبود العسكرية بتوقيعها على الاتفاقية و تجاهلها لهذا التعدي المشين للسيادة الوطنية على كرامة كل مواطن سوداني, و ستظل هذه الاتفاقية رمزا لاهانة الكرامة الوطنية. منحت الاتفاقية مصر الحق في اغراق وادى حلفا, و تهجير مواطنيها, و تدمير أكبر منطقة لأقدم و أعرق حضارة انسانية في افريقيا. و هذه سابقة في تاريخ العلاقات الدولية لا أظنها تتكرر, و لا يمكن قبولها منطقيا, و حتى من الناحية الهندسية لا توجد ضرورة ملحة لاغراق حلفا, و كان من الممكن أن تنتهي بحيرة السد عند الحدود المصرية و لا تتعداها, لكن استهانة الحكومة المصرية بالسودان حكومة و شعبا جعلها تتمدد و تبني أكبر سدود العالم و تهجر ساكني النيل من مناطقهم التي سكنوها آلاف السنين و تدمر أكبر مستودع للحضارة النوبية العريقة. التعويض المهين: بالرغم من أن تقديرات تعويض و تهجير أهالى حلفا كانت 50 مليون جنيها, و حتى هذه لا تشمل أهم بندين و هما الآثار التاريخية و الموقع الجغرافي المتميز على النيل, بالرغم من ذلك أصرت الحكومة المصرية على تقديراتها الغير واقعية و قدرها 10 مليون فقط, و ظلت الوفود السودانية تسافر الى مصر تطالب بزيادة المبلغ و الوفد المصرى يرفض, ليوافق علي زيادة طفيفة بعد تدخل الرئيس عبود و مناشدته للرئيس عبد الناصر الذي أمر برفع المبلغ ل15 مليون باكرامية منه مؤكدأ أن قيمة حلفا لا تزيد على 10 مليون. ثانيا-الاتفاقية استغلالية: المعارضون للاتفاقية يرون أن مصر قد استغلت الضعف المؤسسى و المهني للسودان في ذلك الوقت, و هو يخطو خطوته الأولى بعد الاستقلال و يستبدل الكوادر الأجنبية بالمحلية. كانت مصر في ذلك الوقت تفوق السودان كثيرا في قوة و خبرة المؤسسات الحكومية, و كفاءة العاملين و أعدادهم و تأهيلهم. نتيجة لهذا الفارق الكبير استطاعت مصر تفويت كثير من البنود التي ما كانت تمر لولا وجود هذا الفارق, من أمثلة ذلك: المشاركة في فاقد التبخر في بحيرة السد العالي: نصت الاتفاقية على خصم فاقد التبخر في السد العالي قبل تقسيم الناتج على البلدين, بمعني أن السودان ينقص من نصيبه 5 مليار نتيجة للتبخر في بحيرة السد, لا أدري بأي منطق تم اقناع الجانب السوداني بقبول هذا البند, و كيف تنازل بهذه السهولة عن هذه الكمية الكبيرة من المياه, و ما الذي يفرض على السودان تحمل فاقد التبخر في السد العالي, علما بأن السد مشروع مصرى بحت لم يشارك السودان و لم يستشر في أى مرحلة من مراحله و لم يستفد من كهربائه أو المياه المخزنة فيه. ربما كان السبب أن السد العالي سوف يوفر 32 مليار كانت تذهب سنويا للبحر المتوسط لعدم امكانية السيطرة عليها, لكن هذا الغرض لا يحتاج الي سد بهذا الحجم, فالتصميم المتضخم للسد العالي قصد منه التخزين القرني لتأمين المياه لمصر في السنوات ضعيفة الايراد, و هذا الغرض لا يفيد السودان في شئ, أما التحكم في المياه الضائعة في البحر الأبيض المتوسط فكان من الممكن تحقيقه بسد أقل من ذلك بكثير. و ربما ربط البعض بين هذا الفاقد و فاقد التبخر عند مرور النيل بفروعه المختلفة داخل الأراضي السودانية, و هو يقدر ب2 مليار. لكن لا مجال للمقارنة هنا, لأن الفاقد السوداني طبيعى و لا يمكن التحكم فيه, بينما فاقد السد العالي ناتج عن مشروع مستحدث و تم بارادة مصر و لمصلحتها دون غيرها. المشاركة مناصفة في زيادة الايراد: ألزمت الاتفاقية السودان بمشاركة مصر في اقامة مشاريع للحفاظ على المياه المفقودة في منطقة السدود بجنوب السودان, و التي تقدر بأكثر من 30مليار متر مكعب. و حتي في حالة عدم احتياج السودان لهذه المياه فمصر تستطيع بحكم الاتفاقية تنفيذ المشروع و الزام السودان بدفع نصف التكاليف. لا يوجد منطق يجعل السودان يشارك مصر في موارده الكامنة, خاصة أن جزء كبير من المياه المفقودة ينبع من داخل الأراضي السودانية, بالاضافة لأنها تعتبر من مقوماتها البيئية, و تستفيد منها حاليا قبائل الجنوب و تشكل جزء هام من المنظومة البيئية لجنوب السودان و يعتمد عليها جزء كبير من السكان في حياتهم و مصدر رزقهم. لذلك فأى مشروع للاستغلال الأمثل لهذه المياه يجب أن يكون سودانيا خالصا, يراعى مصلحة المواطنين في المقام الأول, و لا يسعي فقط لتجفيف المنطقة و تشريد أهلها, و هو ما سيحدث, و ما حدث فعلا, اذا شاركت مصر في هذا المشروع. الدين المائي: أعطت الاتفاقية مصر حق استخدام ما يفيض من حاجة السودان و اعتبار ذلك دين على مصر, لكن الاتفاقية لم تضع آلية و لا برنامج زمني لاسترداد هذا الدين, الآن حان أوان الاسترداد و ليس هنالك أى مؤشرات تؤكد التزام الجانب المصري, بل بالعكس كل المؤشرات تفيد بضياع هذا الحق. استغلال قيام انقلاب موالي لمصر: رفضت الحكومات الشرعية المنتخبة التوقيع على اتفاقية مياه بالرغم من استمرار المفاوضات لأكثر من 3 سنوات لم تتراجع فيها الحكومة السودانية عن موقفها في الدفاع عن مطالبها العادلة المتمثلة في عدم الاعتراف باتفاقية 1929 لأن السودان لم يكن طرفا فيها, و قد منحت تلك الاتفاقية مصر 48 مليار مقابل 4 فقط للسودان, و طالبت الحكومة باعادة التوزيع وفق لأسس مختلفة و عادلة و أصرت على موقفها المبدئي بالرغم من التهديدات المصرية و الحملة الاعلامية و محاولة احتلال حلايب و ارسال وفود حكومية و عسكرية الي حلفا. استغلت مصر انقلاب العسكر على الحكومة و سارعت بتوقيع اتفاقية 1959 التي منحت مصر أكثر مما كانت تحلم به. ثالثا الأتفاقية مجحفة: و الشواهد على ذلك كثيرة, أذكر منها: نصيب الأسد لمصر: نالت مصر 78% من الايراد مقابل 22% فقط للسودان. أى أن مصر تنال تقريبا أربعة أضعاف ما يناله السودان, فأى منطق يجعل السودان يقبل بهذه القسمة الضيزى, فنحن الأولى بهذه المياه التي تدخل مصر عبر آلاف الكيلومترات من الأراضي السودانية, و السودان هو الذي يمتلك مساحات ضخمة من الأراضى عالية الخصوبة تزيد عن عشرة أضعاف مثيلتها بمصر, و اذا نظرنا لعدد السكان, و هو عامل واحد فقط من عدة عوامل يتم اعتبارها في التقسيم العادل و المنصف للمياه حسب القانون الدولي للمياه و قواعد هلسنكي, لوجدنا أن سكان مصر ضعف سكان السودان فقط, فلماذ تضاعف نصيبهم أربعة مرات. تشجيع الاستغلال الغير مجدي لمياه النيل: أعطت الاتفاقية مصر فوق حاجتها و قدرتها على الاستغلال المجدى للثروة المائية, فتمددت مصر في مشاريع مشكوك في جدواها, و ذلك خصما على مشاريع تفوقها أضعافا مضاعفة من ناحية الجدوى و المنفعة. آخر هذه المشاريع المصرية مشروع الوادي الجديد, و بحيرة توشكا في قلب الصحراء لرى 600 ألف فدان في منطقة شديدة التبخر و التسرب, بالاضافة لمشروع غرب الدلتا الصحراوي. يتم ذلك على حساب مشاريع سودانية لن ترى النور أبدا في ظل هذه الاتفاقية, و هي من أكثر المشاريع جدوى مثل: كنانة العظمي, الرهد, أعالى عطبرة, تأهيل و تحديث مشاريع النيل الأبيض و الأزرق و الشمالية. بل و فكرت مصر من قبل في امداد اسرائيل بمياه النيل, في الوقت الذي تتقاتل فيه القبائل و المليشيات في غرب و شرق السودان من أجل جرعة ماء. خلق عداء غير مبرر مع دول حوض النيل: قامت الاتفاقية بتخصيص كل مياه النيل لمصر و السودان, و تجاهلت تماما الدول الثمانية الأخرى, و منعتها من استخدام ما تعتبره موردا لها. أنتفضت دول حوض النيل ضد هذه الهيمنة, و صارت حكومات و شعوب هذه الدول تردد في كل مناسبة استيائها من هذا الاستغلال و سعيها بكل الوسائل لاستعادة حقها المسلوب. هذا العداء تقاسمه السودان مع مصر, بينما انفردت مصر بالغنيمة, فلبس السودان عباءة الظالم و هو المظلوم, و صار مستهدفا في أى نزاع تخوضه هذه الدول ضد مصر. السودان بحكم الموقع الجغرافي و التنوع الثقافي و العرقي, و التواصل القبلي مع معظم دول الحوض, و بحكم أنه دولة منبع و مستخدم للمياه في نفس الوقت, كان من الممكن أن يلعب دورا ايجابيا في جمع دول الحوض و توثيق العلاقات و خلق أجواء الثقة و تشجيع التعاون و المشاركة, و هذه هي العوامل الايجابية التي يمكن أن تنهي أزمة مياه النيل. لكن السودان بسبب الاتفاقية المجحفة تحول من عنصر أساسي للوفاق الى واحد من عناصر الصراع. سلب القدرة التفاوضية: ألزمت الاتفاقية السودان بموقف مشترك مع مصر في أى نزاع مع دول الحوض, لذلك سوف تعامل هذه الدول السودان كتابع لمصر و بالتالي لن يكون طرفا أصيلا في أى مفاوضات, و سيكون السودان , بصفته تابعا, الخاسر الأول في أى تنازل مصرى للوصول لاتفاق مع هذه الدول. رابعا- الاتفاقية تهدد بضياع حصة السودان من المياه: ألزمت الاتفاقية السودان بمشاركة مصر مناصفة في تحمل أى انخفاض في الايراد, و ذلك بالرغم من انخفاض حصته أصلا, و و ذلك بحكم المادة 5,2 من الاتفاقية و التي تنص على أنه ( اذا طالبت دول حوض النيل الأخرى بحصة في مياه النيل, و اذا ما أدت المفاوضات معها الى قبول هذه المطالبة, فسوف تخصم الكمية المطلوبة من حصة البلدين بالتساوي ). في ظل المطالبات الشرسة لدول حوض النيل الأخرى, و التي تطالب بأكثر من 18 مليار, و باعتبار الانفصال المتوقع للجنوب ومطالبته بعد ذلك بثلث نصيب السودان , فان الحساب البسيط يعني أن نصيب السودان بعد الانفصال سينخفض الي 12 مليار, و بمشاركة مصر مناصفة في تحمل مطالبات الدول الأخرى سينخفض نصيبه الى أقل من ذلك. المنطق كان يستوجب أن تتحمل مصر كل المطالبات أو 78% منها على أقل تقدير. خامسا- الاتفاقية عطلت التنمية: يؤكد التاريخ القريب بأن مصر قد وقفت بشدة ضد قيام مشروع الجزيرة و عطلت بدء العمل به 4 سنوات بعد قيام سد سنار و ذلك حتى تحد من استهلاك السودان للمياه و منافسته لها في سوق القطن. كما أن مصر قد عطلت قيام امتداد المناقل و سد الرصيرص لسنوات طويلة مستغلة اتفاقية 1929 التي تمنحها حق الموافقة على أى مشروع على النيل, و ربطت موافقتها على هذه المشاريع بموافقة السودان على التعديلات المصرية المقترحة و التي أفضت لاتفاقية 1959. كذلك أعطت اتفاقية 1929 مصر حق اقامة سد جبل أولياء و الذي غمر مساحات واسعة من أجود الأراضي الزراعية, و أعطتها اتفاقية 1959 حق التخلي عن هذا السد دون الايفاء بتحمل التبعات الكبيرة و التكاليف الباهظة و المستمرة لذلك و التي يتحملها السودان حتى هذا اليوم, تتمثل هذه التبعات في فقدان كميات كبيرة من المياه بالتبخر , و المشاكل التي تسببها البحيرة في تشغيل مشاريع الطلمبات و اقامة محطات طلمبات جديدة, و صعوبة تنفيذ برامج اعادة تأهيل و تحديث مشاريع النيل الأبيض, و انتشار نبات ورد النيل على طول البحيرة, و التأثير السلبي علي صحة البيئة و انتشار الأمراض, و استمرار اغراق كميات كبيرة من الأراضي الزراعية. سادسا-الاتفاقية ساهمت في تقويض أمن السودان : نال زعيم الحركة الشعبية جون قرنق شهادة الدكتوراه من جامعة أيوا الأمريكية في الاقتصاد الزراعي برسالته عن مشروع قناة جونقلي, انتقل بعدها مباشرة للغابة مستبدلا قلمه الذي نزف دما بالبندقية ليقود أشرس تمرد شهده السودان الحديث. قبل بداية التمرد عمت جنوب السودان حالة عارمة من السخط الشعبي و خرجت المظاهرات في مختلف المدن ضد هذا المشروع الذي يهدف الى تحويل المياه المنتشرة على منطقة السدود و نقلها الى مصر عبر قناة جونقلي, و بذلك تحرم القبائل الجنوبية من ملايين الأفدنة من المراعي الطبيعية و يتم تحويل المنطقة الي صحراء و تدمير بيئتها المتميزة, و قد كانت قناة جونقلي أحد الأسباب الرئيسية لاعلان التمرد و قيام الحرب الأهلية. السودان لا يستفيد مطلقا من قيام قناة جونقلي, فعند بداية المشروع كان الفائض من حصته المائية يزيد عن ال5 مليار تذهب كلها لصالح مصر, لكن اتفاقية مياه النيل ألزمته باقامة المشروع, و فرضت عليه التخلي عن واجباته تجاه أهل الجنوب بتجاهل الآثار السلبية المدمرة و ذلك بغرض تقليل تكلفة تنفيذ المشروع. كانت هذه الحرب نقطة البداية لنهاية دولة السودان الموحد, و لحالة من عدم الاستقرار السياسي و الأمني و الاقتصادي لا يعلم الا الله الى أين سترسي بنا.