يحيي فصل الله [email protected] تداعيات مساء اليف من تلك المساءات التي كنا نتذوق فيها طعم الحرية ، مساء كان يحتفي بالشعر ، امسية شعرية بكلية الأداب بجامعة الخرطوم ، كان ذلك في صيف 1987م من القرن الماضي ، تسللنا انا و الصديق الشاعر الراحل المقيم عمر الطيب الدوش نشق طريقنا الي خارج الجامعة وسط جمهور محتشد من الطلاب ، أصر عمر الدوش علي خروجنا ذلك المبكر جدا عن إنتهاء الليلة الشعرية ، هكذا هو دائما لا يحتمل المكوث فترة طويلة في مكان واحد خاصة اذا كان هذا المكان يعلن عن طقوسه الرسمية ، عمر الدوش لا يرتاح إلا و هو في طقسه الخاص و المنفلت ، كان يجب ان نصل الي حي الموردة حيث اسكن و معي الاصدقاء السماني لوال و عبد الله حسب الرسول الشماسي ) و يساكننا عمر الدوش بإنتماء حميم ). لم اكن اعرف امدرمان بتفاصيلها قبل رجوع عمر الدوش من براغ ، بعد عودته تعلمت خطواتي معه كيف تتلمس تفاصيل امدرمان ، هكذا كان عمر الدوش هو الصديق الذي وثق عندي هذه المعرفة الحميمة بامدرمان وهي معرفة تجعلني أعلن برغم عصبية اولاد امدرمان انني امدرماني المزاج ، تري هل من الممكن ان تعرف أمزجة السوداني بالمدن و القري والارياف و اماكن اخري لها ذلك التألف مع الذاكرة ؟ . ها نحن قد خرجنا من الجامعة و نقف الان علي شارعها و لم يصبر عمر الدوش حتي يقلنا بوكس الي الخرطوم ومنها الي امدرمان بل صاح بعصبية اعرفها – (( تاكسي -((عمر نحنا ما عندنا قروش )) - (( و انت مالك يا اخ………ي )) وقف امامنا تاكسي ودخل عمر مسرعا و جلس علي المقعد الامامي و جلست انا مترددا علي المقعد الخلفي وتحرك بنا التاكسي بعد ان اعلن عمر الدوش بنفس تلك العصبية – (( الموردة يا اخي - (( إنت مستعجل ؟ )) - (( خالص )) و ادخل سائق التاكسي شريط كاسيت داخل مسجل العربة و حين كنت افكر في كيفية الخروج من هذا المأزق ، مأزق إننا لا نملك حتي شروي نقير كما تقول العرب ، إنساب صوت الفنان محمد وردي من ذاك الشريط الذي يبدو انه لم يكن في بدايته بتطلعي إنت )) من غابات و من وديان و مني أنا و من صحية جروف النيل (( مع الموجة الصباحية تحولت عندها و بحرفية درامية الي الجانب الاخر من المقعد الذي هو خلف عمر الدوش مباشرة ، تحولت الي الجانب الاخر كي اراقب وجه عمر الدوش و هو يصادف اغنيته الهارب منها دوما، هكذا داخل تاكسي ، كان عمر الدوش قد خلع نظارته عن عينيه و بدأ يعصر عينيه من دمع يلازمه عادة في حالات صحوه وحين إسترجع وردي نفس المقطع السابق بعذوبة مكثفة و من شهقة زهور عطشانه )) فوق احزانا متكيه بتطلعي إنت من صوت (( طفلة وسط اللمه منسية كان عمر الدوش يرتعش منه حتي الوجه و صاح في سائق التاكسي وتلك العصبية قد تكثفت اكثر - (( اقفل المسجل ده يا ابن العم )) - (( ليه بس ؟ )) - (( بقول ليك اقفلو يا اخ………….ي )) - (( اوامر يعني ؟ )) - (( يا اخي ، انا ما عايز اسمع )) - (( لكين انا عايز اسمع )) اثناء هذا الجدال العجيب و الغريب كنت احاول ان استمتع بهذه المصادفة الورطة و لم احاول ان اتدخل بين عمر الدوش و السائق المصر جدا علي الاغنية - (( يا اخ…ي تقفل المسجل ده و لا ننزل )) - ((جدا ، انزل ، اما انت غريب )) و فتح عمر الدوش باب التاكسي وخرج بعد ان اوقف السائق العربة بفرامل منفعلة ، لم ارغب انا في الخروج من التاكسي بينما وقف عمر الدوش امام التاكسي يأمرني بالخروج ، شملني سائق التاكسي بنظرة يحاول بها ان يعرف هل انا تاركه ام مواصلا معه ذلك المشوار ، لازالت اغنية ( الحزن القديم ) متواصلة و كنت و كأنني احاول ان ادخل في خيالي تلك الموسيقي التي تمهد للانتقال بين مقطع شعري و اخر ، ادخلها كموسيقي تصويرية تصلح تماما لهذا المشهد الدرامي - انت نازل و لا اتحرك ؟ )) قالها سائق التاكسي بينما عمر الدوش قد ترك مكانه امام التاكسي وقرر تركي ايضا و تحرك ماشيا الي الامام بخطوات سريعة وعصبية و هنا قررت ان اتدخل و عرفت سائق التاكسي بمن هو هذا الشخص المعصلج ، عرفته بشاعر اغنية ( الحزن القديم ) و الذي لا يحب مطلقا ان يستمع الي اغنيته هذي تحديدا ، كان عمر الدوش يهرب دائما من قصيدته هذي ، بينه وبينها جفوة و نفور ، اذكر انه في ذات ظهيرة من يوم جمعة دخل علينا عمر الدوش حين كنا نسكن في حي ابكدوك ، دخل علينا الدوش ووجدنا مصادقة نستمع لهذه الاغنية فتبرم بأهات واضحات و خرح منفلتا و لم يعد إلينا إلا في المساء، خرج مرة عمر الدوش من استديو الاذاعة حين طلب منه المذيع ان يقرأ ( الحزن القديم ) خرح منفلتا وهاربا من قصيدته ولم يعد الي الاستديو إلا بعد مفاوضات وصلت في النهاية ان ينسي المذيع امر هذا الحزن القديم. لا استطيع ان اصور الدهشة علي وجه ذلك السائق و اتصور انه لم يصدقني في اول الامر و لكني جعلته يصدقني و انا اشرح له موقف شاعر من قصيدة تخصه حتي جفوتها. تحرك بي سائق التاكسي و لحقنا بعمر الدوش الذي كان يمشي بعصبية امامنا ووقفنا الي جانبه و صاح به السائق - (( اهو قفلنا المسجل يا استاذ ، اتفضل )) ونظر عمر الدوش نحوي نظرة توحي بأنه عرف اني قد شرحت امره للسائق و ابتسم إبتسامة خفيفة وفتح الباب الامامي وجلس علي المقعد و نظر الي السائق نظرة فيها من الاسف و الحنية معان وقال – (( معليش … لكن اهو ما عارف اقول شنو - (( و لايهمك يا استاذ )) ودخل عمر الدوش مع سائق التاكسي في أنس حميم جدا الي درجة ان هذا الانس قد تواصل بقية ذلك الليل ، بل حتي الصباح وذلك حين تحول ذلك السائق الي منتج لكل تفاصيل تلك الليلة و بدلا من ان يأخذ ثمن المشوار من جامعة الخرطوم الي الموردة فقد اخذ سهرة ممتعة و متداعية مع هذا الشاعر الذي يهرب من قصيدته. كان علي ان انام في تلك الليلة داخل ذلك التاكسي حتي احرسه من اللصوص و حتي اوفر سريري لذلك الضيف الجميل و حين تمددت علي المقعد الخلفي داخل التاكسي ، تذكرت و إمعانا في تحسس دراما ذلك الموقف ، تذكرت ان علي ان افعل شيئا لذلك تحركت و دخلت البيت وحملت معي جهاز كاسيت صغير كان بحوزتي و رجعت الي التاكسي واخرجت ذاك الشريط من داخل جهاز التسجيل بالعربة و ادخلته في المسجل الصغير و تمددت علي المقعد الخلفي مغمض العينين وضغطت علي زر التشغيل و المسجل الصغير علي صدري " و تمشي معاي و تروحي و تمشي معاي وسط روحي و لا البلقاهو بعرفني و لا بعرف معاك روحي "