شكراً لك يا ابن العم بروفسر الحاج الدوش علي صحيانك الدايم لتذكر الخالدين النوابق من الأسرة وعلى رأسهم المرحوم عمر- أرجو أن تسمح لي بالمشاركة معك في ذكراه الخالدة. هذا الشاعر العملاق الذي هو من جيلنا- أذ نحن نسبقك وليس علماً طبعاً ، فأن لك يداً طولى في بحور العلم والمعرفة نسأل الله لك المزيد من العلم والتقدم. فقد تذكرت ما قاله عمر في إحدى قصائده والتي تمثل حالنا اليوم والذي أصبحنا فيه من غربة إلى غربة فهو يقول:
وجيت ياحلوة .. زي زولاً قضى الأيام بكى ومنفى .. وجيتك من بلاد باتت على نار زيفة تتدفى .. أنا المسجون زمن ياحلوة فيه مدائن الكلفة .. ولاقيتك سلام عينيك رماني على سلام وصفا .. أماناً فيك فتّح لي على مرسى النجوم شرفة .. ولاقيتك همومك من هموم الغير وفي حال البلد والريف وفي النايمين على الأحزان وفي الصاحيين مآسي وخوف وفي التايهين على الأشواق متين تنزاح هموم الصيف ولاقيتك غصناً مال على الأمواج وهفهف فوق خضرة القيف .. (إلى أن يقول) أحبك بمشاعر جيل رفع للشمس راية وسيف وثبت على الأرض أقدامو وفى أعماق تراب الريف
أخي بروف الحاج – الذي لم يعرفه الكثيرون عن الاخ الشاعر عمر رحمه الله ، أنه كان سابقاً لجيله وفي فهمه لحالنا اليوم وحال البلد وكانت عدسة رؤياه العميقة يكشف بها رمزاً ما قد يؤول عليه حالنا اليوم – والحقيقة أنها رؤية ثاقبة لشاعر عالم يدرك ما يسير به أبناء الوطن إلى هذا الحال والذي جعلوه في مؤخرة البلدان على الكرة الأرضية. حكى لي مرة المرحوم الشاعر عمر أنه يريد من تسمية الشعراء لهذا الوطن من اسم (عازة) إلى (سعاد) ليجعلها اسماً بديلاُ لمعظم قصائده التي يرمز فيها للوطن ومن ذلك يقول:
وأنا يا سعاد ... وقتين تصبي سحابة تنزلي زي دعاش بفرش على روحي وأجيك زولاً هلك تعبان وطاش وأنا يا سعاد ... وقتين أشوفك ببقى زولاً فرشوله فرش الموت وعاش ...
أخي بروف الحاج – في الذاكرة أيضاً وفي قصيدته سحابات الهموم ياليل، سألته عماذا يقصد:
شوق رؤياك زمان مشدود على أكتاف خيول هجعن .... وصوت ذكراك رزاز صفق على خطوات بنات سجعن .... وشوق لقياك مكان يجري يلاقيه السيل وسر مدفون بصدر النيل
فأجابني أنني أقصد يا ابن العم للمحبوبة الثورة والتي كان المرحوم حمدان أبوعنجة مرابطاً بقواته في هذا الخور المواجه لصدر النيل لقطع خط الباخرة التي كان متوقعاً أن تأتي بها نجدة لإنقاذ غردون من حصار ثوار المهدية وهذه ذكرى محبوبته ولقياها. أذكر أخي بروف الحاج عندما كنا صغاراً في الخلوة في البلد (المتمة) فقد كنت في خلوة الشيخ محمد خير الدوش وكان شيخنا بشير الشيخ الدوش وكان عمر في خلوة القبة، وفي العصر كان يذهب تحت للكرو مع والده للزراعة وكنت في المساء أحضر العشاء لأخي الغالي والذي كان يقوم بسقاية أرض جده الشيخ محمد خير وجدتنا مدينة بنت الشفيع وكلاهما لا يبعدان كثيراً من أرض حاج الدوش في الكرو وكنت أسأل الغالي دائماً عن عمر لاستأنس معه فيسمح لي بالذهاب. عندما أصل عمر أجده راكباً ويدور ساقيته فيسألني ماذا أحضرت عشاء للغالي فأقول له ما عصيده (قنقر) بملاح ويكه أو لبن (ما عارف) فيجيبني ما بطاله، نحن أكلناها بنفس ملاح أمبارح ثم تمر بنا الأيام ونقيم في أمدرمان ثم يذهب كل منا في حياته العملية وإذا به يصور تلك الأيام في ملحمته الساقية ويقول:
وصاني ابوي الموج بيهدم كل رخوة على الجروف شد الضراع ... زي المراكبي على الشراع لازم تعرف الظلم جاي من وين عليك افتح عينينك ... عشان يكون الحق ليك افتح عينيك ...
أخي بروف الحاج - طبعا تمضي الأيام وأنت تعايش هذه الفترة التي تم فيها إيقافه من العمل بمعهد الموسيقى والمسرح بدون أن يعرف الأسباب. قبل ذلك كان قد فتح دكان في منزله بالحارة الثامنة وقام بتأجيره ليعينه على تكاليف الحياه والتي لا يغطيها راتبه – وبعد إيقافه من العمل فيكتب ساخراً:
سأفتح في الجوار تاني - دكان على قدر أحزاني واعاين فوق ضفاف النيل - واكتب في سروج الخيل بسعف النخيل تفصيل - حكاية فقدي عنواني
في كل ذلك أخي بروف الحاج تشعر أن المرحوم عمر لم يفصل بين آلامه ومأساة الوطن وروح محبوبته الثورة والتي لم تفارق ذهنه أبداً- ألا تسمع ماذا يقول في الحزن القديم:
بتطلعي إنت من غابات ومن وديان ..ومن أنا ومن صحوة جروف النيل مع الموجة الصباحية ومن باقات زهور عطشانة فوق أغصانها متكية ومن صوت طفلة وسط اللمة منسية إجيني زمن أمتع نفسي معاك بالدهشة طبول بدق وساحات تنور للحزن ممشى
رحمك الله أخي عمر فقد كنت فعلاً سباقاً للمعرفة سبقتا من هذه الفانية ونعوت نفسك بنفسك في قولك:
يلا يا سعاد قومي و لمي من كل البيوت عدة السفر الطويل طرِّزي الكفن الجميل واربطي الضحى بالأصيل ولممي الليل والقمرة والنجوم في صرة وأديها البحر خلينا فوق الشك نعوم
فليرحمك الله أخي الشاعر عمر الدوش والبركة فى الذرية