غرب كردفان تبحث جهود تحرير الولاية ودحر المليشيا المتمردة    وزير الداخلية يترأس لجنة ضبط الأمن وفرض هيبة الدولة    حملة في السودان على تجار العملة    اتحاد جدة يحسم قضية التعاقد مع فينيسيوس    إيه الدنيا غير لمّة ناس في خير .. أو ساعة حُزُن ..!    (خطاب العدوان والتكامل الوظيفي للنفي والإثبات)!    خطة مفاجئة.. إسبانيا تستعد لترحيل المقاول الهارب محمد علي إلى مصر    مشاهد من لقاء رئيس مجلس السيادة القائد العام ورئيس هيئة الأركان    من اختار صقور الجديان في الشان... رؤية فنية أم موازنات إدارية؟    المنتخب المدرسي السوداني يخسر من نظيره العاجي وينافس علي المركز الثالث    الاتحاد السوداني يصدر خريطة الموسم الرياضي 2025م – 2026م    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    ترتيبات في السودان بشأن خطوة تّجاه جوبا    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    شاهد بالفيديو.. لاعب المريخ السابق بلة جابر: (أكلت اللاعب العالمي ريبيري مع الكورة وقلت ليهو اتخارج وشك المشرط دا)    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    ميسي يستعد لحسم مستقبله مع إنتر ميامي    تقرير يكشف كواليس انهيار الرباعية وفشل اجتماع "إنقاذ" السودان؟    محمد عبدالقادر يكتب: بالتفصيل.. أسرار طريقة اختيار وزراء "حكومة الأمل"..    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    "تشات جي بي تي" يتلاعب بالبشر .. اجتاز اختبار "أنا لست روبوتا" بنجاح !    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    أول أزمة بين ريال مدريد ورابطة الدوري الإسباني    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    بزشكيان يحذِّر من أزمة مياه وشيكة في إيران    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    مصانع أدوية تبدأ العمل في الخرطوم    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    شرطة البحر الأحمر توضح ملابسات حادثة إطلاق نار أمام مستشفى عثمان دقنة ببورتسودان    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



آيات القتال … والنسخ، والعموم والخصوص!
نشر في حريات يوم 20 - 10 - 2010


محمد عابد الجابري :
من وجوه التكييف الإيديولوجي التي يلجأ دعاة العنف والتطرف، باسم الإسلام، سكوتهم عن مناسبات الآيات واللجوء إلى التعميم، وتوظيف مسألة النسخ ومسألة العموم والخصوص توظيفا يخضع لما يريدون تقريره وليس لما يقوله أصحاب الاختصاص من مفسرين وأصوليين وفقهاء …
من ذلك احتجاجهم ب “آية القتال”. وآية القتال في اصطلاح المفسرين في الحقيقة آيتان بل أكثر، لكل منها ظروفها ومناسبتها ومقصدها. وما يستغله دعاة العنف من المتطرفين هو إجماع المفسرين على أنها نسخت آيات كثيرة نزلت قبلها تمنع المسلمين من اللجوء إلى العنف، على الرغم مما كانوا يلاقونه في مكة قبل الهجرة من استهزاء واستخفاف وحصار ومقاطعة وتعذيب. وهنا يتصرف دعاة العنف والتطرف في موضوع “الناسخ والمنسوخ”، و”العموم والخصوص”، وهما من أهم الموضوعات في التفسير والتشريع، تصرف الجاهل في أحسن الأحوال، وتصرف المغرض في كثير من الحالات. ويهمنا هنا أن نلقي شيئا من الضوء على هذه المسائل بالغة الأهمية.
***
أما آيات القتال فالمشهور أنها صنفان :
أولا: قوله تعالى “أُذِن للذين يُقاتَلون بأنهم ظُلموا وإن الله على نصرهم لقدير” (الحج 39)، وقد أشارت الآية التي تليها وتكملها إلى الجهة التي ينصرف إليها الخطاب، فبينت أن المقصود هم: “الذين أُخِرجُوا من دِيارِهم بغَيٍر حَقٍّ إلاَّ أن يقولوا رَبُّنا الله”، أي المسلمون الذين اضطرهم تضييق قريش وحصارها لهم في مكة إلى الهجرة، إلى المدينة خاصة. كما كشفت عن أن الحكمة والغرض من هذا الإذن باللجوء إلى القتال هو الحفاظ على السلم ونظام الحياة ووجود الدين الخ، فقالت : “ولَوْلَا دَفْعُ اللهِ الناسَ بعضهم ببعض لهُدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا …” (الحج 40).
ثانيا : قوله تعالى “وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190). وقد بينت الآيتان التاليتان لها هذا الأمر بالقتال وقيدته وشرحت القصد منه بقوله تعالى: “وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (البقرة-193)
هاتان الآيتان -والتي تليهما- هما اللتان يطلق المفسرون عليهما “آية بالقتال” أو “آية السيف” ولكل منهما –كما قلنا- مناسبتها الخاصة.
أما مناسبة الأولى فهي انتقال الدعوة المحمدية من المرحلة المكية مرحلة مجرد الدعوة إلى الإسلام إلى مرحلة بناء دولة الإسلام والتشريع لها في المدينة. في المرحلة المكية كان ممنوعا على المسلمين منعا باتا اللجوء إلى العنف، للرد على عدوان قريش عليهم، طيلة تلك الفترة التي تمتد على مدى ثلاث عشرة سنة، وقد عانى المسلمون خلالها صنوفا من الاستهزاء والملاحقة والمقاطعة والحصار … وأنواعا من التعذيب البدني الذي بلغ حد الموت. كانوا كلما طلبوا من الرسول الإذن لهم بالرد على قريش نزل القرآن يمنع العنف ويوصي بالتي هي أحسن. من ذلك قوله تعالى : “ادفع بالتي هي أحسن” (فصلت: 4)، وقوله: “فاعف عنهم واصفح” (المائدة: 13) وقوله: “واهجرهم هجرا جميلا” (المزمل: 10)، وقوله: “لست عليهم بمسيطر” (الغاشية: 22)، وقوله “نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ” (ق:45)، وقوله: “ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ، وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ، وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ” (النحل 125-128-)، “اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ” (ص-17)، “فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ” (يونس-108)، “قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ” (يوسف108)، “وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى، فَلَا تَكُونَنَّ مِنْ الْجَاهِلِين”َ (الأنعام-35)، “فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ” (48-الشورى)، “فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا” (5-المعارج) الخ…
واستمر هذا الموقف المتسامح الرافض للعنف بعد الهجرة إلى المدينة، ففي سورة البقرة وقد نزلت بعد قيام الدولة النبوية الإسلامية، قوله تعالى: ” لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيّ ِفَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (البقرة- 256). وأما غزوات النبي (ص) التي جاءت بعد الإذن بالقتال فلم تكن تقوم على التطرف ولا على العنف الأعمى، ولم تستهدف الأبرياء، بل كانت عمليات عسكرية دقيقة ومنظمة ومحدودة، تستهدف في الغالب اعتراض قوافل قريش التجارية وتهديد مصالحها الاقتصادية، ثم التصدي لردود الفعل التي كانت تأتي منهم. ومعلوم أن المهاجرين كانوا قد تركوا ديارهم وأموالهم في مكة عندما اضطروا إلى الهجرة منها، وقد صادرتها قريش وتصرفت فيها. فالإذن بالقتال كان من أجل استرجاع حقوق وصد عدوان.
وأما مناسبة الآية الثانية فهي أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه من المدينة إلى مكة للعمرة, فاعترضته قريش في مكان يسمى “الحديبية” قريبا من مكة ومنعته من دخولها، فجرى بينه وبينهم الصلح المعروف ب”صلح الحديبية”، ويقضي بأن يرجع المسلمون إلى المدينة فلا يدخلون مكة تلك السنة، على أن يسمح لهم دخولها والمقام فيها ثلاثة أيام في السنة الموالية. كما ينص الصلح على ألا يكون بين المسلمين وقريش قتال لمدة عشر سنين. وعندما رجع المسلمون بقيادة النبي (ص) إلى المدينة، بحثوا الأمر من جديد، وخافوا أن تغدر بهم قريش، ففكروا في فسخ عقد الصلح واللجوء إلى القتال، ولكن اعترضتهم الأشهر الحرم التي لا يكون فيها عادة قتال، فطرحوا المسألة على النبي فنزلت هذه الآية تبيح لهم القتال وتبين لهم المسلك الذي يجب أن يسلكوه. وهكذا أباحت القتال في الأشهر الحرم، وقيدته عند المسجد الحرام بقيام قريش بذلك، وأمرتهم بقتال الذين يقاتلونهم دون غيرهم من النساء والأطفال والعجزة الخ.
وواضح أن الآيتين كلتيهما تقرران –والإسلام قد أقام دولته في المدينة- تشريعا (الإذن والأمر بالقتال) “يتعارض” على مستوى اللفظ مع ما كانت تقرره آيات أخرى تمنع العنف. وبهذا المعنى يقال إن “آية القتال” –الأولى والثانية- نسخت الآيات الأخرى التي تدعوا إلى الصبر على الأذى والدفع “بالتي هي أحسن”، والعفو والصفح الخ.
وظاهرة “النسخ” في القرآن أكدها القرآن نفسه : كانت قريش في مكة واليهود في المدينة يتهمون النبي بكونه يقرر أمرا ثم يقرر أمرا آخر مخالفا أو مناقضا، وكان يفعل ذلك حسب ما تقتضيه الظروف، وقد رد عليهم القرآن بقوله تعالى: “وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ، قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (النحل-101)، وأيضا: “وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (الحج-52).
والنسخ في الآية الأولى “تبديل”، كما هو واضح، وفي الثانية “إزالة” وهما غير النسخ الذي نتحدث عنه والخاص بمجال التشريع. والمرجع في هذا المجال هو قوله تعالى: “مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (البقرة- 106). وقد نزلت هذه الآية في الرد على اليهود في المدينة عندما انتقدوا قرار النبي بتحويل القبلة من المسجد الأقصى بالقدس إلى الكعبة بمكة.
وواضح أنه في كل نسخ ناسخ ومنسوخ: آية تنسخ أخرى. وقد حرص علماء الإسلام على التمييز في آية النسخ المذكورة (التي تقرر: “مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا”) بين “النسخ” و”النسيان” بمعنى التأخير (نُنْسِها: بمعنى نُنْسِئها أي نُؤخرها). ولذلك يرى كثير منهم أن آيات القتال المذكورة ليست من قسم “الناسخ والمنسوخ” بل هي من قسم “المُنْسَأ”، أي المؤخر، وقالوا قد أنسأ الله، أي أخر، الأَمر بالقتال إلى أَن يَقْوى المسلمون. أما في حال الضعف فالحكم وجوب الصَّبْر على الأَذى. وهذا يعني “أَن كلّ أَمرٍ يجب امتثاله في وقت ما، لعلّة تقتضي ذلك الحكم، ثمَّ ينتقل بانتقال تلك العلّة إلى حكم آخر”. وذكرت جماعة من العلماء: “أَنّ ما ورد في الخطاب (خطاب الصفح والعفو) مُشعِرٌ بالتوقيت والغاية، فهو مُحْكَم غير منسوخ، مثل قوله في البقرة: “فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ” (109-البقرة) لأَنه مؤجَّل بأَجلٍ، والمؤَجَّل بأَجلٍ لا نسخ فيه”.
واضح مما تقدم أن آيات القتال، مثلها مثل جميع آيات القرآن الكريم، إنما تقرر حكما له مناسبته ومقاصده. أما القاعدة التي قررها كثير من الفقهاء بقولهم: “العبرة في عموم اللفظ لا في خصوص السبب”، فهي، حتى بالنسبة للذين يقولون بها، ليست قاعدة مطلقة. ذلك لأنه في كل عموم خصوص، كما أن في كل خصوص عموما. وآيات القتال فيها عموم من حيث إن “الإذن بالقتال” في الأولى عام بالنسبة لجميع الذين “ظُلموا …الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق”، سواء المهاجرين أو الذي يدخلون في حكمهم. ولكن فيها خصوص وهو أن هذا الإذن مقيد بالدفاع عن النفس واستعادة الحقوق “ظلموا… وأخرجوا من ديارهم”.
وكذلك الشأن في الآية الثانية ففيها عموم : “وَقَاتِلُوا”، وهو لفظ عام، لأنه خطاب موجه للجميع. وهذا العموم مبين : فهو مقيد بعدم الاعتداء، وعدم القتال ابتداء بالمسجد الحرام، وبإخراج العدو من حيث كان قد أخرج المسلمين الخ. وإضافة إلى هذا التقييد الذي يحصر ويحدد مجال العموم، هناك خصوص وهو أن الأمر “قاتلوا” ينصرف بصريح اللفظ إلى “الذين يقاتلونكم”، ولا يشمل “الذين لا يقاتلونكم”. وهذا الخصوص مستويان: ذلك أن “الذين لا يقاتلونكم” منهم من ينتمي إلى قريش ولكنهم لا يقاتلون عادة، وهم الأطفال والنساء والشيوخ والمعطوبين والذي انقطعوا إلى معابدهم الخ. ومنهم الذين لا ينتمون إلى قريش كالشعوب الأخرى التي لم يصدر منها عدوان على المسلمين والتي لم تبلغها الدعوة، وكذلك التي يربطها مع المسلمين صلح، واعتراف متبادل الخ.
والقرآن يفسر بعضه بعضا: وأولى آيات القتال هي من سورة البقرة كما ذكرنا، وهذه السورة هي أول ما نزل بالمدينة بعد الهجرة. وهناك آية أخرى من سورة التوبة وهي آخر سورة نزلت، وقد ورد فيها في سياق آخر قوله تعالى : “”فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ “(5-التوبة)، وتسمى هذه الآية هي الأخرى ب”آية السيف”. يقول ابن العربي الفقيه السني المتشدد بصددها: “كلّ ما في القرآن من الصفح عن الكفار، والتولي والإِعراض والكفّ عنهم، فهو منسوخ بآية السيف، وهي: “فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5-التوبة). وهذه فيها خصوص واضح، وهي أنها مرتبطة بظروف فتح مكة وبانسلاخ الأشهر الحرم وبالتالي فهي تخص التعامل مع سكانها المشركين حين الفتح. فلا معنى لتعميميها؛ ولذلك قيد الفقيه ابن العربي وصفه لهذه الآية ب “الكفار” حين قال : “كل ما في القرآن من الصفح عن الكفار…” وهو يقصد مشركي مكة حين فتحها الله على النبي (ص).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.