قبل بضعة أيام، أجريت مكالمة عادية مع أحد الأصدقاء .. تحدثنا في مسائل شتى في الشأن العام والخاص. الرجل -وهو يحمل درجة الدكتوراه– ويحتل منصباً مؤثراً، كان بين فترة وأخرى يطلق كلمة أو كلمتين … بعضها بدا لي غريباً، والبعض الآخر سمعته بصورة أو بأخرى. أما الكلمات التي استعصت عليّ، فقد فهمت معناها من السياق الذي وردت فيه. كنا نتحدث عن صديق مشترك، سألته عن أحواله فقال لي ما يلي: (صاحبك راكب راسو وحالف ما يرجع مع إنو الجماعة دقو ليه جرس بس لحدي الآن مصر على رأيو. قبل يومين أتصل عليّ وطلب خدمة من صاحبو فلان .. تذكروا؟.. ياخي دا زول ماسورة… والغريبة إنو مركب مكنة ………. ياخي جليه دا ما نافع … إلخ) وعلى هذا النحو. بعض المفردات التي اوردتها يسمونها باللغة الشعبية، وأحياناً لغة الرادنوك .. هذه اللغة تنتشر في كل بقاع الدنيا. حتى في أمريكا لديهم لغة شارع Slang Language أشتهر بها الزنوج أكثر من غيرهم وتحمل نفس صفات لغة الراندوك. بل إن هذا النوع من اللغة كان موجوداً في عصور متأخرة وتظهر في بعض الأشعار القديمة بالذات خلال العصر العباسي. عندما كنا صبية كنا نتداول مصطلحات وتعابير خاصة بنا. وكان لكل فئة لغتها الخاصة، ظلت تحافظ على مفرداتها دون أن تفرضها على غيرها. وظل المثقفون والنخب في مأمن عن أي تأثر. أما اليوم لغة الشارع فرضت نفسها على الجميع لم تستثن أحداً، حتى المثقفين أو من يعتقد قيامهم بالتأثير في الآخرين. بل أن بعض التعديلات تم إدخالها على هذه اللغة لتناسب فئة "المثقاتية" مع الإبقاء على بنية اللغة نفسها دون تغيير. هي لغة سريعة التطور وتستوعب الجديد دائماً. جرب أن تؤلف مفردة من عندك وأنشرها في وسطك الصغير، الأرجح أنها ستنشر بسرعة كبيرة وتصبح مفردة متداولة بين غيرها من المفردات المماثلة التي تتنامى يوماً بعد يوم. ليس هذا لب الموضوع، ولكن ما سمعته من صديقي .. الرجل المستنير والمناط به مسئولية التأثير وليس التأثر جعلني أتوقف عند الاحتمالات التي كنت أضعها فيما يتعلق بتراجع النخب المستنيرة عن أداء دورها المجتمعي، فكما ظهر لي –على الأقل في الموقف المذكور- أن الحال أنقلب رأساً على عقب .. وذكرني بنكتة العوض –ذلك الريفي الذي انتدبه أهله ليتعلم اللغة الإنجليزية من الخواجة، لكنهم اكتشفوا أن العوض قام بتعليم الخواجة اللغة العربية بدلاً أن يتعلم هو اللغة الإنجليزية. مهمة المثقفين والنخب هي قيادة المجتمع والتأثير فيه .. وليس التأثر به. فلماذا تخلت عن هذا الدور وأصبحت تأخذ بدلاً أن تعطي وهي المطلوب منها الكثير لقيادة المجتمع لحياة أفضل. المسألة طبعاً لا تقف عند حدود التأثر بمفردات، ولكنها تشمل كافة القضايا والأمثلة كثيرة. قادة الرأي بحكم وظيفتهم، لهم القدرة على التأثير في سلوك الآخرين .. فهم الأقدر على المبادرة بافتراض استحواذهم على أدوات المعرفة والمهارات الخاصة التي تخولهم أن يصبحوا أكثر تميزاً من غيرهم. لذلك هم من يعول عليهم القيام بمهمة التأثير وليس التأثر. فلماذا تراجعت النخب وقادة الرأي عن التأثير؟ هل المسألة مرتبطة بفشل النخب عموماً عن أداء دورها في المجتمع؟ أم هي سطوة ثقافة المجتمع، فلم تجدى معها محاولات هذه النخب في التصدي والتغيير… مجموعة من الأسئلة ربما محاولة الإجابة عليها ستفضي إلى تشخيص الحالة العامة التي تجتاح مجتمعنا والمتمثلة في أشكال التغيير السلبي التي شكلت المجتمع بكل تفاصيله ومنها ظاهرة "ردنوك النخب" إن جاز لي التعبير.