"ميتا" تهدد بوقف خدمات فيسبوك وإنستغرام في أكبر دولة إفريقية    بورتسودان وأهلها والمطار بخير    المريخ في لقاء الثأر أمام إنتر نواكشوط    قباني يقود المقدمة الحمراء    المريخ يفتقد خدمات الثنائي أمام الانتر    مليشيا الدعم السريع هي مليشيا إرهابية من أعلى قيادتها حتى آخر جندي    ضربات جوية ليلية مباغتة على مطار نيالا وأهداف أخرى داخل المدينة    الأقمار الصناعية تكشف مواقع جديدة بمطار نيالا للتحكم بالمسيرات ومخابئ لمشغلي المُسيّرات    عزمي عبد الرازق يكتب: هل نحنُ بحاجة إلى سيادة بحرية؟    فاز بهدفين .. أهلي جدة يصنع التاريخ ويتوج بطلًا لنخبة آسيا    بتعادل جنوني.. لايبزيج يؤجل إعلان تتويج بايرن ميونخ    منظمة حقوقية: الدعم السريع تقتل 300 مدني في النهود بينهم نساء وأطفال وتمنع المواطنين من النزوح وتنهب الأسواق ومخازن الأدوية والمستشفى    السودان يقدم مرافعته الشفوية امام محكمة العدل الدولية    وزير الثقافة والإعلام يُبشر بفرح الشعب وانتصار إرادة الأمة    عقب ظهور نتيجة الشهادة السودانية: والي ولاية الجزيرة يؤكد التزام الحكومة بدعم التعليم    هل هدّد أنشيلوتي البرازيل رفضاً لتسريبات "محرجة" لريال مدريد؟    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مثقفون لا خبراء؟!
نشر في حريات يوم 06 - 08 - 2013


[email protected]
(1)
تعيد موافاة الربيع العربي، على علاته، في بعض بلدان المنطقة، وعدم موافاته في بعضها الآخر، وبينها السودان، طرح إشكاليَّة "التغيير" نفسها بصورة مغايرة. فمن أبرز وجوه هذه الإشكاليَّة الاستغراق في صراعات الممارسة السِّياسيَّة اليوميَّة، بشكل يكاد يكون دائريَّاً، مع الإغفال التام للتعميق الفكري الذي يضمن توجيه وترشيد هذه الممارسة. ومعلوم، ولا بُدَّ، أن التعميق المطلوب إنما يستند، بالأساس، إلى نسق متكامل من المفاهيم والمصطلحات التي تختزل، ابتداءً، محدِّدات الخطاب السِّياسي، لئلا ينبهم، فتنبهم الممارسة نفسها، إذ الفرق جدُّ شاسع بين "اللفظ" الذي يعنى "لغة" مباشرة، وبين "المصطلح" الذي يختزل دلالة "مجاز" منضبط.
لكن، بقدر ما يصحُّ تعريف "المصطلح" الذي تكون خصوصيَّته المفاهيميَّة قد استقرَّت مكاناً وزماناً، كحامل، على نحو ما، لتاريخه، بقدر ما قد تتدخَّل شروط فكريَّة وثيقة الصِّلة بهذا التاريخ لتفرض مراجعة الإجابة على السُّؤال الرَّئيس عمَّا إن كان هذا "المصطلح"، أو ذاك، ما يزال يعكس ذات دلالته المفاهيميَّة القديمة، بما يبرِّر الاستمرار في استخدامه، أم أن ثمَّة احتياجاً لصكِّ "مصطلح" بديل يتَّسق مع مستجدات الواقع الموضوعي المتغيِّر.
معالجة هذه الإشكاليَّة ليست ترفاً بلا معنى، كما قد يبدو للوهلة الأولى؛ فالتَّعاطي، على سبيل المثال، مع مفهوم القوى الملهِمة، أصلاً، ب "التغيير"، المحرِّضة عليه، والدَّافعة نحوه، يقود، مباشرة، للتعاطي مع مصطلح "المثقفون" أو "الإنتلجينسيا"، المستمد مِن الكلمة اللاتينيَّة intelligens في معنى "عالم" أو "مفكر"، والمستخدم للإشارة إلى "الفئة" الاجتماعيَّة المشتغِلة، أكثر شئ، بالنشاط الذِّهني؛ وهذه، بلا شك، من أهمِّ وأعقد المسائل التي يصعب، بدون استبانتها، الاطمئنان للخوض في الكثير من المفاهيم السِّياسيَّة، وفي مقدِّمتها مفهوم "التغيير" نفسه.
(2)
في السُّودان ظلت هذه الإشكاليَّة قائمة دائماً، بإلحاح، حيث ظلت فئة "المثقفين"، التي تنحدر، بالأساس، من الطبقة الوسطى، تتصدَّى، تاريخيَّاً، أكثر من غيرها، لقيادة الأحزاب والتَّنظيمات السِّياسيَّة والاجتماعيَّة، منذ بواكير الحركة الوطنيَّة الحديثة ضدَّ الاستعمار البريطاني، حتى لقد قال عنها تيم نبلوك إنها عدَّت نفسها "مبعوثة العناية الإلهيَّة لإنقاذ الشَّعب!" (صراع السُّلطة والثروة في السُّودان؛ الخرطوم 1990م".
هذه "الفئة السُّودانيَّة" هي سليلة نفس "الفئة التَّاريخيَّة" التي مهَّد لظهورها "تقسيم العمل"، وانفصال "الذِّهني" منه عن "الجَّسدي". ولئن سلخ أنطونيو غرامشي، صاحب مشروع الهيمنة "الثقافيَّة والأخلاقيَّة" للكتلة التاريخية عموماً، وللطبقة العاملة خصوصاً، جُلَّ سنوات سجن الفاشيَّة، و"كرَّاساته"، خلال عقد الثلاثينات من القرن المنصرم، يتقصَّى آخر حدود ظاهرة "المثقف"، وبخاصة في مقالته الأشهر "تنشئة وإعداد المثقفين وصقلهم"، فقد اقتضته فلسفة "البراكسيس praxis" التي تقرن بين التنظير والممارسة، تمييز "شريحة" بعينها من هذه "الفئة"، والعكوف على تحرِّي "معيار" موحَّد لها، فصكَّ، كنقيض لمصطلح "المثقف التقليدي"، مصطلح "المثقف العضوي" الذي لا يكتفي بمحض استبطان الرَّغبة في "التغيير" لصالح "طبقة" أو "كتلة تاريخيَّة" ما، وإنما يقرن ذلك بالعمل، أيضاً، على تحقيق هذه الرَّغبة، وإن كان "المصطلح" نفسه ما يزال، للأسف، عرضة للاستخدام الرَّث في الكثير من الكتابات! ف "المثقف العضوي"، بالذات، يمارس "الانحياز"إلى قضاياه الطبقيَّة من خلال "التزامه" بالتعبير "الإيجابي" عن هذا "الانحياز" بكلِّ ما لديه من طاقات "ثقافيَّة" مخصوصة، لا بأداء نفس أدوار "عموم" المناضلين، على أهميَّتها، بعكس "المثقف التقليدي"، فهو إمَّا يقتصر على أداء هذه الأدوار، فحسب، أو يزاور في برج عاجي، مترفِّعاً "سلباً" عن مجمل تلك القضايا، ومقدِّماً بذلك خدمة "جليلة" للأعداء الطبقيين!
وهكذا، فإن من أهمِّ ملاحظات غرامشي، في السِّياق، أن أكثر الأخطاء المنهجيَّة شيوعاً الانصراف عن التماس "معيار المثقف العضوي" في صميم النشاط المائز لهذه "الشَّريحة"، والذِّهاب للبحث عنه، بدلاً من ذلك، في "عموميَّات" النشاط "التَّنظيمي" الثَّوري الفاعل ضمن شبكة العلاقات الاجتماعيَّة شديدة التعقيد، فلكأن نشاط "المثقف العضوي" يفتقر إلى أيَّة "خصوصيَّة" تميِّزه عن أنماط النشاط النضالي "العام" الأخرى، مِمَّا يُفضي، بالضَّرورة، إلى جحده، وبالتَّالي عدم رؤية القوى الاجتماعيَّة التي تجسِّده بوجه "مخصوص". فالرأسمالي، مثلاً، قد يكتسب، من خلال النشاط الاجتماعي "العام"، قدراً من الكفاءة الثقافيَّة، ومع ذلك ليست هي التي تقرِّر وضعه الطبقي، بل تقرِّره العلاقات الاجتماعيَّة التي يتحدَّد من خلالها مركزه في الصِّناعة، والأمر صحيح أيضاً بالنسبة للعامل والمزارع، تماماً كما بالنسبة ل "المثقف"، عموماً، و"المثقف العضوي" بالأخص.
الممارسة الذِّهنيَّة، إذن، و"الثقافة"، بالذات، هي حقل النشاط الأكثر تمييزاً لعمل "المثقفين"، عموماً، رغم أن هذا "التميُّز" لا يجعل منهم "طبقة" اجتماعيَّة، بل "فئة" تنقسم إلى "شرائح"، وتتوزع انتماءاتها بين مختلف الطبقات، بحسب التأثير الحاسم للفكر الاجتماعي على خياراتها وتحيُّزاتها، ك "شريحة المثقفين العضويين". فلئن ظلَّ مشهد حراك "فئة المثقفين" مستقطباً، لذات السَّبب، بين حدَّي التَّباين والتَّماهي، فإنه ليس من العسير ملاحظة الشُّقة الآخذة في الاتِّساع، حاليَّاً، ونتيجة لحدَّة هذا الاستقطاب، بين كتلتين رئيستين، هما: "المثقفون" و"الخبراء"، حتى ليبدو، مع تعقُّد الصِّراع أكثر فأكثر، أنه لم يعُد ثمَّة وجود، الآن، إلا لهتين الكتلتين تحديداً، مِمَّا يقتضي فضَّ الاشتباك المفاهيمي بينهما، حتى لا تختلط عناصر هذا المشهد، على الأقلِّ في الذهنيَّة العامَّة.
(3)
أفضل كوَّة ، في تقديرنا، للنفاذ إلى ما آلت إليه هذه الإشكاليَّة، في الوقت الرَّاهن، هي ما يمكن أن نطلق عليه "نموذج الاستشراق". لكننا نحتاج، قبل ذلك، إلى تدقيق رؤيتنا المعرفيَّة للعلاقة بين "الثقافة"، من جهة، وبين "العلم والتقانة" من جهة أخرى. ولعلنا نجد ضالتنا في اجتهادات بعض المفكرين العرب، فهؤلاء أهل وجعة، وأقدامهم العالمثالثيَّة على الجَّمر!
محمد عابد الجابري، مثلاً، عُني في كتابه (المسألة الثقافيَّة، ط 1، مركز دراسات الوحدة العربيَّة، بيروت 1994م)، وتحديداً في مبحثه حول موضوعة (الاختراق الثقافي، ص 177 182)، برفع التباسين معرفيَّين: أولهما يتعلق بمنزلة "العلم والتقانة"، من جهة، كعنصر في "الثقافة" التي تنتسب، بطبيعتها، إلى مجموعة بشريَّة مميَّزة، ذات جغرافيا محدَّدة، وتاريخ مختلف؛ وكظاهرة كوسموبوليتانيَّة لا وطن لها، من جهة أخرى، فليس "استيرادها" مِمَّا يعيب، مبدئيَّاً، استقلاليَّة "الثقافة" التي هي في مسيس الحاجة إليها لأغراض الإخصاب والتطوير، اللهمَّ إلا عندما يجري "تصديرها"، مِن جانب منتِجِها، لأغراض الاختراق لثقافة الآخر والهيمنة عليها وعليه. الالتباس الثاني يتعلق بالفرق بين نوعين من هذا الاختراق، أحدهما تعرَّضت له شعوب العالم الثالث بالأمس، والآخر تتعرَّض له اليوم. النوع الأحدث هو المحمول على وسائط المنجز "العلمي والتقني"، أما الأقدم فهو الذي كان جزءاً من الظاهرة الكولونياليَّة بصورتها الكلاسيكيَّة خلال القرون 18، 19، 20، عندما توسَّلت الدُّول الأوربيَّة بالبعثات التبشيريَّة، والرِّحلات الاستكشافيَّة، والإرساليَّات التعليميَّة، فضلاً عن البحوث الإثنوغرافيَّة والدراسات الاستشراقيَّة التي احتلت موقعاً فريداً بين تلك الوسائل، لشقِّ الطريق أمام العمليَّة الاستعماريَّة أولاً، وترسيخها لاحقاً.
أما إدوارد سعيد فقد أفرد، من جانبه، حيِّزاً مقدَّراً من جهده الفكري لفحص ظاهرة (الاستشراق)، في كتابه بذات العنوان، ولفضح طبيعة الخدمة المباشرة التي قدَّمها "المستشرقون" للامبراطوريَّات الاستعماريَّة، سواء من مواقعهم كخُدَّام لأجهزة دول المتروبول، أو داخل الإدارات التي أنشئت في المستعمرات نفسها، للتخصُّص في دراسة جغرافياها، وتاريخ شعوبها، وسبر أغوار إثنوغرافياها "أنثروبولوجياها لاحقاً"، لجهة اللغات، والديانات، والعادات، والموروثات، والتقاليد، والأمزجة، وكلِّ تيارات التأثير على ثقافاتها الماديَّة والروحيَّة كافة، حتى صاروا "خبراء" في هذا المجال!
هكذا تقاصر دور "المستشرق" القديم، على خطورته، عن قامة "المثقف" الحُرَّة الفارهة المفترضة، لينحبس في سمت "الخبير" الذي يبيع بضاعته لحكومة بلده، أو لأيَّة حكومة أخرى .. سيَّان! ثمَّ جاءت مرحلة ما بعد الحرب الثانية لتشهد تصفية النظام الاستعماري القديم، حيث بدا كما لو أن دور "المستشرق" الامبراطوري قد أخذ في التَّراجع تحت رايات التَّحرُّر الوطني، والسَّلام، والدِّيموقراطيَّة، وحقوق الإنسان، لينزوي، نهائيَّاً، في متحف العاديات! وبالمقابل راحت حراكات "المثقفين" الحُرَّة تتفجَّر في شتَّى الميادين، وفي كلِّ بلدان العالم، خلال الفترة من أربعينات إلى سبعينات وربَّما ثمانينات القرن المنصرم.
(4)
على أن ذلك المسار سرعان ما راح ينقلب على عقبيه، رويداً رويداً، لعدَّة عوامل، أهمها اثنان: أوَّلهما أن دور الدَّولة الوطنيَّة في بلداننا بدأ يتراجع بعد الاستقلال السِّياسي، أكثر فأكثر، من التَّحرير إلى القمع، من أحلام الدِّيموقراطيَّة إلى كوابيس الشُّموليَّة، من حقائق التنمية الشَّعبيَّة إلى أوهام المستبدِّ العادل! في هذا السياق لم تجد الدَّولة الوليدة أمامها سوى النموذج الكولونيالي ذاته الذي لم تكن آثار أقدامه قد امَّحت تماماً، فراحت تستنسخه، وإن بكيفيَّات أخرى! أما ثانيهما فهو أن هذا التَّراجع نفسه فتح شهيَّة الإمبرياليَّة، التي لم تكن قد انسدَّت أصلاً، لتستسهل استعادة وضعيَّة هيمنتها السَّابقة على مقدرات العالم وشعوبه، وإن بكيفيَّات أخرى أيضاً! وبانهيار الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي، أواخر ثمانينات ومطالع تسعينات القرن المنصرم، مِمَّا فتح العالم بأسره على قطبيَّة أحاديَّة غير مسبوقة، استكملت شهيَّة الهيمنة أقصى انفتاحها "خَلا لكِ الجَّوُّ فبيضِي واصْفِرِي"! ثمَّ وقعت كارثة الحادي عشر من سبتمبر لتحصُل هذه الشهيَّة على أقوى مبرِّراتها "الشَّرعيَّة"، وربَّما "الأخلاقيَّة"، الأمر الذي حدا ببوش الابن إلى تقسيم العالم بأسره إلى معسكرين اثنين لا ثالث لهما: معسكر "الخير" الذي يسلم بالانقياد لأمريكا، ومعسكر "الشَّر" الذي يعاديها!
اقتفاء الدولة الوطنيَّة القامعة في بلداننا أثر النموذج الكولونيالي أفرز نوعيَّة جديدة من "المثقفين" الذين ما ينفكون يتزايدون، منحدرين، أكثر فأكثر، من مواقع الفكر المستقلة إلى مواقع "الخُدَّام" الذين يُخضعون تخصُّصاتهم الدَّقيقة لتقديم "الخدمات" المباشرة للحاكم، نخبة كان أم فرداً، فأدرجت الإمبرياليَّة هذا الواقع الجَّديد ضمن خططها لاستعادة وضعيَّة الهيمنة القديمة! هكذا بدأ "الاستشراق الجَّديد" يزدهر، مستعيداً دور "الاستشراق القديم" بأقنعة "الخبراء" الجُّدد الذين أضحت تقذف بهم، بالآلاف، إن لم يكن بأكثر، الجَّامعات، والمؤسَّسات الأكاديميَّة، ومراكز البحوث الغربيَّة. وقد لاحظ إدوارد سعيد، في آخر مؤلفاته (الإنسانيَّات والنقد الدِّيموقراطي)، الصادر من جامعة كولومبيا بعد وفاته، تأثير صدمة الحادي عشر من سبتمبر على راهن النَّقد والعلوم الإنسانيَّة، حيث، وكالعادة، صار "الخبراء المحليُّون" يقتفون آثار "الخبراء الغربيِّين/المستشرقين الجدد"!
هل تعيننا هذه "الكوَّة" في النفاذ إلى فضاء الإشكاليَّة؟! ربَّما! على أنه يلزمنا، في كلِّ الأحوال، التَّفريق بين مصطلح "الخبير" المثير للرِّيبة، والذي ما ينفكُّ استخدامه يشيع، الآن، أكثر فأكثر، وبين مصطلح "المثقف"؛ فالخبرة، كما قد رأينا، "مشروع سلطة قامعة"، بينما الثقافة "وعد حريَّة طليقة"، ولا بد أن نحسن تدقيق المصطلحات!
(5)
ومع افتراض أن تكون وضعيَّة "المثقف العضوي" شاغلة، ضمن هذه الطبوغرافيا الاجتماعيَّة، لحيِّز معتبر من هموم اليسار خصوصاً، واليسار الماركسي بالأخص، إلا أن الملاحظ أنها لم تشغل، في السُّودان، حتى الآن، سوى قلة مستنيرة من قادة الحزب الشِّيوعي الاستثنائيين، وعلى رأسهم عبد الخالق محجوب، السكرتير العام الأسبق للحزب، ومن بعده محمد إبراهيم نقد، السكرتير السَّابق. ولئن انصبَّ جُلُّ تركيز الأخير على الجانب العملي، كأسلوب في الاهتمام القيادي ب "المثقف العضوي" والعناية به، فإن عبد الخالق، باعتباره أوَّل من اختط هذا الطريق، لم يغفل، من جهته أيضاً، هذا الأسلوب القيادي، حيث نبَّه، عمليَّاً، وعبر مسالك النضال اليومي، إلى أهميَّته وضرورته، فضلاً عن إبدائه استنارة جريئة في التَّعاطي المنفتح مع معالجات غرامشي النظريَّة للمسألة، وتطويرها في موجِّهات للممارسة العمليَّة، ضمن تقريره السِّياسي الموسوم ب "الماركسيَّة وقضايا الثَّورة السُّودانيَّة"، والذي اعتُمد في المؤتمر الرَّابع للحزب (أكتوبر 1967م)؛ ثمَّ ما لبث أن عاد، بعد أقل من عام، للطرق الحثيث على نفس الموجِّهات، عندما لمس تقاعساً عامَّاً، في المستوى القيادي بالأخص، عن تطبيقها على أرض الواقع، وذلك في تقريره الآخر الموسوم ب "قضايا ما بعد المؤتمر"، والمقدَّم إلى دورة انعقاد اللجنة المركزية في يونيو 1968م.
إشارة عبد الخالق إلى "المثقفين"، ضمن تلك الموجِّهات، تشي بأنه إنما يعني "المثقفين العضويين" تحديداً، أولئك الذين، وإنْ كانوا "ملتزمين" بقضاياهم الطبقيَّة وقضايا مؤسَّستهم السِّياسيَّة، إلا أنهم يمارسون دورهم المفترض ك "مثقفين"، في المقام الأوَّل، وقبل كلِّ شئ، لا كمجرَّد "شعراء قبيلة" يفتقرون إلى الحسِّ النقدي والمداخل النقديَّة باتِّجاه قضايا هذه المؤسَّسة وتلك الطبقة "مَا أنا إلا مِن غُزيَّة إنْ غَوَتْ غَوَيْتُ وإنْ تَرْشُدْ غُزَيَةُ أَرْشُدُ!"، وذلك باعتبار هذا الحسِّ وتلك المداخل بمثابة المضخة الأساسيَّة للحيويَّة والفعاليَّة بالنِّسبة لأيِّ فكر إيجابي التأثير. لقد أومأ عبد الخالق، في تقرير 1968م، إلى قرار المؤتمر الرَّابع، قبل عام من ذلك، بضرورة "دعم قيادة الحزب وأجهزته المختلفة بمثقفين يعملون كمثقفين"، معتبراً أن من معيقات تنمية وترقي الكادر المثقف داخل الحزب التمسُّك العقيم بالمقاييس القديمة القائمة في اشتراط الشَّكل التَّقليدي لمشاركته في "الحركة الثَّوريَّة والنَّشاط العملي والميدان السِّياسي"، أسوة بأشراط تنمية وترقية عموم الكادر الحزبي؛ وأكد على "حاجة الحركة الثوريَّة والكادر السِّياسي للمثقفين العاملين في الميادين الثوريَّة كمثقفين"، بقوله: "نحن نحتاج إليهم .. والحزب هو الذي يمنحهم الصفات الثوريَّة"، وحذَّر من "قفل الأبواب ووضع مقاييس واحدة للكادر" كله، فتلك مصاعب تحول "دون دخول المثقفين الحزب"، وحتى إذا دخلوا فإنها تحول "دون استمرار بقائهم في صفوفه"، تماماً كالمصاعب التي قد توضع أمام "حركة التثقيف والثقافة في جو تصادر فيه حريَّة النقد وحريَّة التفكير"! ومن ثمَّ طالب عبد الخالق، منذ ذلك الوقت الباكر، بضرورة إيجاد "مقاييس جديدة لترقي هذا النَّوع من الكادر"، و"ألا يوضع الاعتراض التقليدي" في طريقه، مشدِّداً على أن عدم تقدير تلك الموجِّهات يعني، بشكل مباشر وواضح "إبقاء اتجاه المؤتمر كشئ .. يُحفظ للتاريخ، والتاريخ وحده" (قضايا ما بعد المؤتمر، دار عزَّة، الخرطوم 2005 م، ص 22).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.