شاهد بالفيديو.. المطرب شريف الفحيل يرد على هجوم جمهور الفنان جمال فرفور: (أنا فالح ونجيض وألف مبروك إتحاد الفنانين وهو يمثلني)    وزير المعادن يترأس اجتماع مناقشة الخطة الاستراتيجية لتأمين المعادن ومكافحة التهريب    شاهد بالفيديو.. محلل مصري يتغزل في أسطورة الكرة السودانية "العجب": (لو عاوز كرامك تتهان حاول تدخل عشان تأخذ الكرة منه وبرقص أي حد.. حببني في الكرة السودانية ونفسي أعرف هل هو بالفعل أسمه العجب أم هذا لقب)    شاهد بالصورة والفيديو.. في ليلة زفافهما.. عريس سوداني يعترف قصة حبي بزوجتي بدأت من 25 سنة وأنا حضرت ولادتها وأكلت سمايتها    هكذا جرت أكاذيب رئيس الوزراء!    حريق في الكيبل المغذي للولاية الشمالية يتسبب بانقطاع التيار الكهربائي    الفاشر : استشهاد (30) مواطن على الأقل نتيجة قصف مسيرات المليشيا المتمردة    شاهد بالصورة.. مصممة أزياء سودانية تفاجئ الجميع وتظهر بثوب مرصع بعدد 90 فص من الألماس قيمته 500 ألف دولار ما يعادل أكثر من مليار ونصف جنيه سوداني و 23 مليون جنيه مصري    شاهد.. فيديو نادر يوثق لمشاركة المطرب الراحل نادر خضر في حفل زواج زميله الفنان جمال فرفور الذي أقيم بحي الصبابي    الجاكومي" ل"باج نيوز" يكشف أمرًا خطيرًا    وزير التعليم العالي في السودان: البحث العلمي ركيزة أساسية لتحقيق التنمية    احبط تهريب أخطر شحنة مخدرات    افتتاح كأس السودان بمدينة عطبرة    المريخ يختبر جاهزيته أمام نجوم شباب بنغازي    فريق الشرطة ابوحمد يحتفل باللاعبين الجدد والجهاز الفني بطريقته الخاصة    المقاومة بالفاشر: السماء نار والأرض تضيق... سنقاوم حتى الرمق الأخير    وزير الشباب والرياضة يقدم التهنئة لاختيار جعفر وعطا المنان في لجان فيفا    الوقوف على الوضع الصحي للقري المتأثرة بفيصان نهر الدندر بولاية سنار    رياض محرز: مونديال 2026 سيكون الأخير لي.. ولست رونالدو    قناة عزام تعلن بث لقاء الهلال والبوليس الكيني الافريقية    الحب يطهر القلوب!    هل انتهت الحرب؟    أرايت كيف يستخف ترامب بذاكرة الشعوب الحية وهو يرشح نفسه لجائزة نوبل للسلام ؟!    الهلال الأحمر القطري يكشف عن خطة لتنفيذ تدخلات صحية بولاية الخرطوم    «وحشني جدًا».. كواليس مكالمة أبوتريكة ل حسن شحاتة في المستشفى    منة شلبي: «حاجة كبيرة جدا وأنا لسه صغيرة عليه»    جريمة اغتصاب "طفلة" تهز "الأبيض"    الطلب القوي على الملاذ الآمن يدفع الذهب للارتفاع الأسبوعي الثامن على التوالي    تنبيه هام من "القطرية" للمسافرين إلى دول الاتحاد الأوروبي    ليس ترامب .. إعلان الفائز بجائزة نوبل للسلام لعام 2025    مدير جامعة كردفان يتفقد سير العمل بمعهد بحوث الصمغ العربي ودراسات التصحر    محمود سلطان يكتب: لماذا وافق نتنياهو على وقف الحرب مرغما؟    مفاجأة محتملة في آسيا    ويسألونك عَن فَرفور    فصل "فرفور" من "المهن الموسيقية" يثير جدلاً في الأوساط السودانية    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    الفترة الانتقالية شهدت احد اسوأ حقب الادارة الاقتصادية    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    الدولار يبتلع الجنيه السوداني.. أزمة اقتصادية بلا كوابح    "حماس" تعلن الاتّفاق بشأن إطلاق النار    صحفي سوداني يثير غضب جمهور "فرفور": (أؤيد وبشدة قرار اتحاد المهن الموسيقية الصادر بحقه بعد تصريحاته غير المحترمة عن الوسط الفني بشكل عام)    الصحفية فاطمة الصادق تهاجم إتحاد المهن الموسيقية بعد قرار فصل الفنان "فرفور": (ده التربص والحفر ذاتو بيان بالعمل..دايرين ليكم سبب والله مع الولد وعموما فرفور عابر وفنان كبير وما محتاج عضويتكم ذاتو)    غرامات جنونية.. شركة الكهرباء في السودان تفاجئ المواطنين    70 ألف جنيه لإسطوانة الغاز بالخرطوم    اجتماع في السودان يبحث تطوّرات سعر الصرف    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    وزير الصحة يشارك في تدشين الإطار الإقليمي للقضاء على التهاب السحايا بحلول عام 2030    حادث مرورى لوفد الشباب والرياضة    انهيار الجسر الطائر بجامعة الخرطوم إثر اصطدام شاحنة    عملية أمنية محكمة في السودان تسفر عن ضبطية خطيرة    السودان..محكمة تفصل في البلاغ"2926″    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    الاقصاء: آفة العقل السياسي السوداني    ضبط شخص بالإسكندرية ينصب على المواطنين بزعم قدرته على العلاج الروحاني    بورتسودان.. حملات وقائية ومنعية لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة وضبط المركبات غير المقننة    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    جنازة الخوف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التغيير بين الخبراء والمثقفين
نشر في سودانيات يوم 05 - 08 - 2013


كمال الجزولي
موافاة الربيع العربي، على علاته، في بعض بلدان المنطقة، وتأخره في بعضها الآخر، كالسودان مثلا، يُفترض أن يعيد طرح إشكالية "التغيير" بصورة مغايرة للمعهود.
فمن أبرز جوانب هذه الإشكالية استغراق السياسة في لجج صراعات السائد اليومي، حد الإغفال التام لانعكاساتها في مرآة النظر الفكري، أو في أفضل الأحوال، غربة الممارسة العملية عن مستوى هذا النظر الكفيل -حال إيلائه الاعتبار الكافي- بترشيد الممارسة نفسها، وضبط مفاهيمها، عن طريق شبكة من "المصطلحات" تختزل محددات الخطاب السِّياسي، لئلا يلتبس، أو ينطمس، أو ينبهم.
فبين "اللفظ" الذي يعنى "لغة" مباشرة، وبين "المصطلح" الذي يغمز بدلالة "مجاز" منضبط، فرق شاسعٌ.
لكن بقدر ما يصح تعريف "المصطلح" الذي تكون خصوصيته المفاهيمية قد استقرت مكانا وزمانا، كحامل -على نحو ما- لتاريخه، بقدر ما قد تتدخل شروط فكرية وثيقة الصلة بهذا التاريخ نفسه لتفرض مراجعة الإجابة على السؤال الرئيس عما إن كان هذا "المصطلح" لا يزال يختزل ذات دلالته المفاهيمية القديمة، فيصح الاستمرار في استخدامه، أم أن ثمة احتياجا لصك "مصطلح" بديل يتسق مع مستجدات الواقع الموضوعي المتغير.
"
تقاصر دور "المستشرق" القديم على خطورته، عن قامة "المثقف" الحرة الفارهة المفترضة، لينحبس في سمت "الخبير" الذي يبيع بضاعته لحكومة بلده، أو لأية حكومة أخرى
"
والخوض في هذه الإشكالية ليس ترفا بلا معنى، فالتعاطي، مثلا، مع مصطلح "المثقفون" أو "الإنتلجينسيا"، المستمد مِن الكلمة اللاتينيَّة intelligens بمعنى "عالم" أو "مفكر"، والمستخدم للإشارة إلى "الفئة الاجتماعية" المشتغلة أكثر بالنشاط الذهني، هو من أبرز وجوه هذه الإشكالية، وأكثرها تعقيداً.
(1)
في السودان تنحدر هذه الفئة بالأساس من الطبقة الوسطى، وقد تصدت أكثر من غيرها لقيادة الأحزاب والتنظيمات السياسية والاجتماعية، منذ بواكير الحركة الوطنية الحديثة ضد الاستعمار البريطاني، حتى قال عنها تيم نبلوك إنها اعتبرت نفسها "مبعوثة العناية الإلهية لإنقاذ الشَّعب!" (صراع السُّلطة والثروة، الخرطوم 1990").
هذه "الفئة السودانية" هي في الواقع سليلة نفس "الفئة التاريخية" التي مهد لظهورها "تقسيم العمل"، وانفصال "الذهني" منه عن "الجسدي".
ولئن سلخ أنطونيو غرامشي في مقالته الأشهر الموسومة ب"تنشئة وإعداد المثقفين وصقلهم"، جُل سنوات السجن وكراساته، يتقصى آخر حدود ظاهرة "المثقف"، فقد دفعته الضرورة لتمييز "شريحة" بعينها من هذه "الفئة"، والاعتكاف على تحري "معيار" موحد لها، فصكَّ مصطلح "المثقف العضوي" الذي لا يزال للأسف عرضة للاستخدام الرث في الكثير من الكتابات.
ومن أهم ملاحظات غرامشي في السياق أن أكثر الأخطاء المنهجية شيوعا الانصراف عن التماس هذا "المعيار" في صميم النشاط المميز لهذه "الشريحة"، ومن ثم الذهاب للبحث عنه في "عموميات" النشاط الثوري الفاعل ضمن شبكة العلاقات الاجتماعية شديدة التعقيد.
فكأن نشاط "المثقف العضوي" يفتقر إلى "خصوصية" تميزه عن النشاط "العام"، مما يُفضي بالضَّرورة إلى جحده، وبالتالي عدم رؤية "الكتلة الاجتماعية" التي تجسِّده. فالرأسمالي مثلا قد يكتسب من خلال النشاط الاجتماعي "العام" قدرا من الكفاءة الثقافية، ومع ذلك ليست هي التي تقرر وضعه الطبقي، بل تقرره العلاقات الاجتماعية التي يتحدد من خلالها مركزه في الصناعة، والأمر صحيح أيضا للعامل والمزارع.
النشاط الذهني إذن عامة والثقافة خاصة، هي حقل النشاط الأكثر تمييزا لعمل "المثقفين" عموما، و"المثقفين العضويين" خاصة، رغم أن هذا "التميُّز" لا يجعل منهم "طبقة" اجتماعية، بل "فئة" تتوزع انتماءاتها ك"شرائح"، بين مختلف الطبقات، حسب التأثيرات الحاسمة للفكر الاجتماعي على تحديد خياراتها وتحيزاتها.
فلئن ظل مشهد حراكها مستقطبا لهذا السبب، بين حدي التباين والتماهي، فإنه ليس من العسير ملاحظة الشقة الآخذة في الاتساع، نتيجة لحدة هذا الاستقطاب، بين كتلتين رئيسيتين، هما "المثقفون" و"الخبراء"، حتى ليصح الحكم بأنه لا وجود إلا لهاتين الكتلتين تحديدا، مما يقتضي فض الاشتباك المفاهيمي بينهما، حتى لا تختلط عناصر هذا المشهد، على الأقل في الذهنية الشعبية.
(2)
أفضل كوة في تقديرنا للنفاذ إلى هذه الإشكالية هي ما يمكن أن نطلق عليه "نموذج الاستشراق"، لكننا نحتاج قبل ذلك إلى تدقيق رؤيتنا المعرفية للعلاقة بين "الثقافة" من جهة، و"العلم والتقانة" من جهة أخرى.
"
ليس من العسير ملاحظة الشقة الآخذة في الاتساع بين كتلتين رئيسيتين، هما "المثقفون" و"الخبراء"، مما يقتضي ضرورة فض الاشتباك المفاهيمي بينهما، حتى لا تختلط عناصر هذا المشهد
"
ولعلنا نجد ضالتنا في اجتهادات بعض المفكرين العرب، فهؤلاء أهل وجعة، وأقدامهم العالمثالثية (نسبة للعالم الثالث) على الجمر!
محمد عابد الجابري مثلا، عُني في كتابه "المسألة الثقافيَّة (ط 1 مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1994") وتحديداً في مبحثه حول موضوعة "الاختراق الثقافي، (ص 177-182") برفع التباسين معرفيين:
أولهما يتعلق بمنزلة "العلم والتقانة" من جهة، كعنصر في "الثقافة" التي تنتسب بطبيعتها إلى مجموعة بشرية مميزة، ذات جغرافيا محدَّدة وتاريخ مختلف، وكظاهرة كوسموبوليتانية لا وطن لها، من الجهة الأخرى، فليس "استيرادها" مما يعيب مبدئيا استقلالية "الثقافة" التي هي في مسيس الحاجة إليها لأغراض الإخصاب والتطوير، اللهم إلا عندما يجري "تصديرها" من جانب منتجها، لأغراض الاختراق لثقافة الآخر والهيمنة عليها وعليه.
الالتباس الثاني يتعلق بالفرق بين نوعين من هذا الاختراق، أحدهما تعرضت له شعوب العالم الثالث بالأمس، والآخر تتعرض له اليوم.
النوع الأحدث هو المحمول على وسائط المنجز "العلمي والتقني"، أما النوع الأقدم فهو الذي كان جزءا من الظاهرة الكولونيالية بصورتها الكلاسيكية في القرون (18 و19 و20)، عندما توسلت الدول الأوروبية بالبعثات التبشيرية والرحلات الاستكشافية والإرساليات التعليمية، فضلا عن البحوث الإثنوغرافية والدراسات الاستشراقية التي احتلت موقعاً فريداً بين تلك الوسائل، لشق الطريق أمام العملية الاستعمارية أولا، ثم لترسيخها لاحقا.
أما إدوارد سعيد فقد أفرد حيزا مقدرا من جهده الفكري لفحص ظاهرة "الاستشراق"، في كتابه بنفس العنوان، ولفضح طبيعة الخدمة المباشرة التي قدمها "المستشرقون" لتلك الإمبراطوريات، سواء من مواقعهم كخدام لأجهزة دول المتروبول، أو في الإدارات التي أنشئت في المستعمرات نفسها، للتخصص في دراسة جغرافيتها وتاريخ شعوبها، وسبر أغوار إثنوغرافياها "أنثروبولوجياها لاحقا"، لجهة اللغات والديانات والعادات والموروثات والتقاليد والأمزجة، وكل تيارات التأثير على ثقافاتها المادية والروحية كافة، حتى صاروا "خبراء" في هذا المجال!
هكذا تقاصر دور "المستشرق" القديم، على خطورته، عن قامة "المثقف" الحرة الفارهة المفترضة، لينحبس في سمت "الخبير" الذي يبيع بضاعته لحكومة بلده، أو لأي حكومة أخرى .. سيَّان!
ثم جاءت مرحلة ما بعد الحرب الثانية لتشهد تصفية النظام الاستعماري القديم، حيث بدا كما لو أن دور "المستشرق" الإمبراطوري قد أخذ في التراجع تحت رايات التحرر الوطني والسلام والديمقراطية وحقوق الإنسان، لينزوي نهائيا في متحف العاديات، وفي المقابل تفجر حراك "المثقفين" الحر في شتى الميادين، وفي كل بلدان العالم، في الفترة من أربعينيات إلى سبعينيات وربما ثمانينيات القرن المنصرم.
(3)
على أن ذلك المسار سرعان ما راح ينقلب على عقبيه لعدة عوامل، أهمها اثنان:
أولهما أن دور الدولة الوطنية في بلداننا بدأ يتراجع بعد الاستقلال السياسي أكثر فأكثر، من التحرير إلى القمع، من أحلام الديمقراطية إلى كوابيس الشمولية، من حقائق التنمية الشعبية إلى أوهام المستبد العادل!
"
دور الدولة الوطنية في بلداننا بدأ يتراجع بعد الاستقلال السياسي من التحرير إلى القمع، من أحلام الديمقراطية إلى كوابيس الشمولية، من حقائق التنمية الشعبية إلى أوهام المستبد العادل
"
في هذا السياق لم تجد الدولة الوليدة أمامها سوى النموذج الكولونيالي نفسه الذي لم تكن آثار أقدامه قد انمحت تماما، فراحت تستنسخه، وإن بكيفيات أخرى!
أما ثانيهما فهو أن هذا التراجع نفسه فتح شهية الإمبريالية، التي لم تكن قد انسدت أصلا، لتستسهل استعادة وضعية هيمنتها السابقة على مقدرات العالم وشعوبه، وإن بكيفيات أخرى أيضا!
وبانهيار الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي، أواخر الثمانينيات ومطالع التسعينيات، استكملت هذه الشهية أقصى انفتاحها "خلا لك الجو فبيضي واصفري"، ثمَّ وقعت كارثة 11 سبتمبر/أيلول 2001 لتحصل هذه الشهية على أقوى مبرراتها "الشرعية"، وربما "الأخلاقية".
اقتفاء الدولة الوطنية القامعة في بلداننا أثر النموذج الكولونيالي أفرز نوعية جديدة من "المثقفين" الذين ما ينفكون يتزايدون، منحدرين أكثر فأكثر من مواقع الفكر المستقلة إلى مواقع "الخدام" الذين يُخضعون تخصُّصاتهم الدقيقة لتقديم "الخدمات" المباشرة للحاكم، نخبة كان أم فرداً، فأدرجت الإمبريالية هذا الواقع الجديد ضمن خططها لاستعادة وضعيَّة الهيمنة القديمة.
هكذا بدأ "الاستشراق الجديد" يزدهر، مستعيداً دور "الاستشراق القديم" بأقنعة "الخبراء" الجدد الذين أضحت تقذف بهم بالآلاف، إن لم يكن بأكثر الجامعات، والمؤسسات الأكاديمية، ومراكز البحوث الغربية.
وقد لاحظ إدوارد سعيد، في آخر مؤلفاته (الإنسانيات والنقد الديمقراطي)، الصادر من جامعة كولومبيا بعد وفاته، تأثير صدمة الحادي عشر من سبتمبر/أيلول على راهن النقد والعلوم الإنسانية حيث -وكالعادة- صار "الخبراء المحليون" يقتفون آثار "الخبراء الغربيين/المستشرقين الجدد".
هل تعيننا هذه "الكوة" في النفاذ إلى فضاء الإشكالية؟ ربما! على أنه يلزمنا في كل الأحوال التفريق بين مصطلح "الخبير" المثير للريبة، والذي ما ينفك استخدامه يشيع، الآن أكثر فأكثر، وبين مصطلح "المثقف"، فالخبرة كما قد رأينا "سلطة قامعة"، بينما الثقافة "حرية طليقة"، ولا بد أن نحسن تدقيق المصطلحات.
(4)
ضمن هذه الطبوغرافيا يحتل مصطلح "المثقف العضوي" وضعية خاصة. ومع افتراض أن هذه الوضعية شاغلة لحيز معتبر من هموم اليسار، واليسار الماركسي بوجه خاص، إلا أن الملاحظ أنها لم تشغل، في السودان حتى الآن سوى قلة مستنيرة من قادة الحزب الشيوعي الاستثنائيين، وعلى رأسهم عبد الخالق محجوب، السكرتير العام الأسبق للحزب، والذي أبدى نظراً منفتحاً على معالجات غرامشي للمسألة، فعمل على تطويرها في موجهات جريئة للممارسة العملية، وذلك ضمن تقريره السياسي الموسوم ب"الماركسية وقضايا الثورة السودانية"، الذي جرى اعتماده في المؤتمر الرابع للحزب (أكتوبر/تشرين الأول 1967).
"
اقتفاء الدولة الوطنية القامعة ببلداننا أثر النموذج الكولونيالي أفرز نوعية جديدة من "المثقفين" انحدروا مواقع الفكر المستقلة إلى مواقع "الخدام" الذين يُخضعون تخصصاتهم الدقيقة لتقديم "الخدمات" المباشرة للحاكم
"
ثم ما لبث أن عاد بعد أقل من عام، للطرق الحثيث على نفس الموجهات، عندما لمس تقاعسا عاما، وفي المستوى القيادي بالأخص، عن تطبيقها على أرض الواقع، وذلك في تقريره الآخر الموسوم ب"قضايا ما بعد المؤتمر"، والمقدم إلى اللجنة المركزية في يونيو/حزيران 1968.
تشي إشارة عبد الخالق إلى "المثقفين"، ضمن تلك الموجهات، بأنه إنما كان يعني "المثقفين العضويين" تحديدا، حيث أومأ إلى قرار المؤتمر الرابع بضرورة "دعم قيادة الحزب وأجهزته المختلفة بمثقفين يعملون كمثقفين".
واعتبر أن من معيقات تنمية وترقي الكادر المثقف داخل الحزب التمسك العقيم بالمقاييس القديمة القائمة في اشتراط المشاركة التقليدية في "الحركة الثورية والنشاط العملي والميدان السياسي"، أسوة بأشراط تنمية وترقي عموم الكادر الحزبي.
وأكد على "حاجة الحركة الثورية والكادر السياسي للمثقفين العاملين في الميادين الثورية كمثقفين" بقوله "نحن نحتاج إليهم .. والحزب هو الذي يمنحهم الصفات الثورية".
وحذر من "قفل الأبواب، ووضع مقاييس واحدة للكادر"، فتلك مصاعب تحول دون "دخول المثقفين للحزب، وبقائهم في صفوفه"، تماما كالمصاعب التي توضع أمام "حركة التثقيف والثقافة في جو تصادر فيه حرية النقد وحرية التفكير".
وطالب عبد الخالق بضرورة إيجاد "مقاييس جديدة لترقي هذا النوع من الكوادر"، و"ألا يوضع "الاعتراض التقليدي" في طريقه، مشددا على أن عدم تقدير تلك الموجهات يعني "إبقاء اتجاه المؤتمر كشيء يحفظ للتاريخ، والتاريخ وحده".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.