بقلم: ياسر سليم يذهب نظر الناظر غير المتأمل عند سماع كلمة (ثورة) لإسقاط السلطة القائمة دون الرؤية الواعية إلي مرحلة ما يتلو إسقاط السلطة وقد كانت لنا تجارب لم تجد تقيماً جيداً فكانت النتيجة الدوران في حلقة واحدة (ثورة شعبية ثم انقلاب عسكري والعكس) فكان في نوفمبر 1958م الحكم العسكري الأول كحكم عسكري صرف وهزم في أكتوبر وجاءت مايو 1969م كحكم عسكري/مدني والذي أزيل بانتفاضتنا المجيدة في مارس/ابريل والتي اغتالتها الجبهة الإسلامية كحكم مدني بزي عسكري فيما يسمى بالإنقاذ والجبهة الإسلامية المنقسمة إلى (المؤتمر الوطني) و(المؤتمر الشعبي) حزب عقائدي ذو ايدولوجيا فعمل على التحويل الفوقي للمجتمع مثله ومثل أي حزب عقائدي يستولى على السلطة عبر السلاح ففرض قسراً على الشعب توجه معرفي وثقافي وجمالي يتلاءم والايدولوجيا التي يتبناها من خلال قوانينه وآلته الإعلامية وليس هذا فحسب بل أصبح يمارس إقصاء سافر للممارسة المعرفية والثقافية والجمالية التي ورثها المجتمع وطورها بالشكل الطبيعي وأول ما فعله الحكام الجدد أن أصدروا قائمة طويلة للإذاعة السودانية بمنع عدد من الأغاني فأذكر منها (سأل من شعرها الذهب لأبن البادية، صلوات في هيكل الحب لحسن سليمان، حديقة العشاق لكابلي، القبلة السكرة لعثمان حسين، ليل وخمر وشفاه لسيد خليفة، رب الجمال لعثمان الشفيع، رب العذارى لزيدان إبراهيم..الخ) وقد بُدلت كلمات بعض الأغاني مثل البعبدا لترباس، كما اضطروا للاستعاضة بأصوات شبابية للأغنيات التي رحل أصحابها مثل توبة للكاشف، وأدم وحواء للجابري..الخ، وهنالك بعض الألحان أخذت دون أّذن أصحابها لتغنى بها كلمات مختلفة بما يسمى بالغناء الجهادي وقد برر السمؤال خلف الله هذا الأمر بأنهم يفرغون الأوعية من السم لتملى بما يفيد الناس وضرب المثل التالي: (لو أن هنالك كوب ممتلئ بعرقي بماذا يضير أن افرغ ليملى بعصير) وهناء إشارة لكلمات الأغاني التي تم تبديلها، وبديلاً لذلك طرحت أغاني هتافية ركيكة الكلمات فقيرة الألحان وظهرت أصوات لم تمر بلجان إجازة الأصوات، وكل الموهبة التي يملكونها هي الانتماء للمؤتمر الوطني وقد شاهدت بعيني (النور معني) مدير قسم المنوعات بالتلفزيون السوداني والذي أهله لهذا المنصب وضعه في قوات الدفاع الشعبي وهو (اشتر واطرق) لو غنى، فرأيته يجيز فرقة غنائية وكلمات وألحان ودون مصاحبة آلة موسيقية لأحدى أغنياتها في استقبال التلفزيون فقط في الاستقبال. فالذي نعاني منه الآن من مشكلات في الفنون كلها من موسيقى، لدراما وتشكيل ليس وليد صدفة أو نتيجة للتردي العام فقط ولكن هذه الفنون تعرضت لهجوم منظم وقاسي كجزء من تحطيم القيم والقيم الجمالية للمجتمع السوداني، حتى في ابسط صور الحراك الاجتماعي بما فيها الشكل المعروف للمناسبات الأعراس التقليدية في السودان بشتى السبل كقوانين النظام العام وجزء من قوانين المصنفات…الخ. قد يسأل سائل لماذا عمل انقلابي حزب الجبهة القومية الإسلامية لقتل الفنون، وفي الإجابة على هذا السؤال إجابة على الكثير من الأسئلة التي تدور حول التخريب المتعمد لكل مؤسسات الدولة بداية بالمؤسسات التعليمة والصحية ..الخ، فالفنون تحقق السلامة النفسية للبشر باعتبارها مظهر مهم من مظاهر الحياة وهي انعكاس للحياة الاجتماعية ومؤثر فعال على الحراك الاجتماعي فقد قال د. سمير بسباس جريدة الشعب عدد 15/09/2007:(إنّ مجرّد بروز الأثر الفنّي للوجود وانبثاقه هو بمثابة قطع لنسيج العالم الموجود) أي أن الفن مكون أساسي من مكونات المجتمع بل أن الفن يلعب دوراً كبيراً جداً في البناء النفسي للإنسان والدليل على ذلك مدرسة التحليل النفسي التي تقوم دعائمها على تحليل الأدب على أسس نفسية والتي قد أسسها فرويد وأتباعه وكان من أبرز ممثليها الفرنسي جاك لاكان، ومما يؤكد مساهمة الفن في البناء النفسي للإنسان مصاحبة الموسيقى للمقاتلين والجيوش لبث الحماس والثبات في المعارك وقد تم الوعي بذلك مبكراً كما تدل آثار الحضارات القديمة وحتى في تاريخنا الحديث فقد حركت كلمات (مهيرة بت عبود) القبيلة للتصدي للغزاة، كما في حاضرنا نجد أن بيد (الحكامة) تحريك رجال القبيلة حتى لو أدى الأمر لهلاكهم وكلنا في استعداد كامل لنمتطي سروج الغزو لو سمعنا (الخواف لبدوه لمن تمشوا وتجوه) فإذا أخذنا مثلاً آخر للأثر الوجداني للفن فلنرى آثر إيقاع (النوبة) لدي المتصوفة في إدراكهم لما وراء الوجود أي في منح المتصوف المنفذ لأدراك الغياب عن الوجود المادي وتوصيله إلى السمو الذي يرمي له في حالة متيفزيقية (Metaphysics ) كاملة إذ أن الفن هو القدرة على تحريك الجمود وإنشاء المعنى من الفوضى والغموض، وفيه تبني للحاضر وتنبئ بالمستقبل فهو اقتحام للمجهول والضبابي، فلو نظرنا للثورات الضخمة في العالم أو الحضارات العظيمة نجد أن الفن والأدب أصحاب الأثر الصارخ في التحريك إليها أو الموثق الجيد الذي حفظها وأرخ لها فلقد عرفنا الحضارات الفرعونية العظيمة من خلال الفنون التي خلفتها تلك الحضارات بل وفي واقعنا الأقرب لقد عرف شباب اليوم عظمة (ثورة أكتوبر) عبر ملحمة (قصة ثورة) لهاشم صديق ومحمد الأمين وخليل إسماعيل وأم بلينة السنوسي وعثمان مصطفى والآخرون، أكثر مما يعرفون عنها من كتابات التاريخ وقد لا يعلم أي من الشباب غير الذين عاصروا ثورة مارس ابريل شيء عن الكتب الكثيرة التي كتبت عنها ولكن متى ما أدرت صوت وردي في (يا شعباً لهبك ثوريتك) سوف يشير بنان أي منا نعم هكذا قد كنا وكان شعبنا في هبته المجيدة في 1985م فما قاله محجوب شريف في هذه الكلمات البسيطة منفعلاً بالثورة جعلها كلمات ينفعل بها كل الناس حتى اليوم. لقد أدرك عراب انقلاب حزب الجبهة القومية الإسلامية د. حسن عبد الله الترابي الأثر الخطير للفنون في المجتمع فعمل على تدميرها حتى يتمكن من السيطرة الكاملة على السودان في توطئة لتوسيع السيطرة قارياً (تصدير الثورة) ونجد أن الطيب إبراهيم محمد خير (الطيب سيخة) مبعوث انقلابي حزب الجبهة القومية الإسلامية لإنهاء النهب المسلح بدارفور وكي يسيطر على الناس قد عمل بسن أمر محلي (مستغلاً قانون الطواري) بأن منع عدداً من الرقصات الشعبية منعاً كاملاً مثل رقصة (الكشوك) لقبيلة الفور والتي كانت عقوبة من يرقصها الجلد والغرامة والسجن، بل وكان جزاء (الحكامة) التي تمجد حكمه مبالغ كبيرة من المال، لكن ما لم يكن قد فطن إليه الترابي أن العالم قد كان في حينها في بدايات ما يسمى بعصر ثورة الوسائط المعلوماتية (The info-media revolution) أو ثورة (الإنفوميديا) والتي أتاحت حرية البث الفضائي رغم القيود التي فرضت في بادي الأمر على أطباق الاستقبال الفضائي (Satellite dish) مثل الجمارك الباهظة ورسوم التصديق العالية جداً بل والغرامات المجحفة للذين لم يدفعوا هذه الرسوم، لكن التطور في هذه التقنية أدى لصغر حجمها ورخص أسعارها مما ساعد على تهريبها والتوسع في استخدامها وبالتالي قد فلت الشعب السوداني من السندوتشات الرديئة التي فرضها التلفزيون السوداني والذي لقب لدى بعض العرب (بالقناة العسكرية السودانية) كما أصبحت الأهازيج التي ينتجها مقاتلي برنامج (ساحات الفداء) هي البديل لأعظم الأغاني السودانية فكنا نسمع عدة مرات في اليوم (الطاغية الأمريكان ليكم تسلحنا) ولكن قد يمر عام ولا نسمع (أنت يا نيل يا سليل الفراديس) بل وصل الأمر في إصرار معتوه على ترديد كلمات ركيكة بالحان فقيرة جداً (دفاعنا الشعبي ياهو ديل) بينما منع الشعب السوداني وبأمر القانون من الاستماع إلى (يا لها من طهارة تبعث التقديس في مهجة الشقي العنيد)، فأصبحت القنوات العربية مهرباً حقيقياً للشباب والذي قد وصل مرحلة أن يكونوا لا يعلمون من هو محمد الأمين أو الكاشف بقدر ما يعرفون (وائل كافور، إيهاب توفيق، مايا نصري..الخ) مما أضطر انقلابي حزب الجبهة القومية الإسلامية لمحاولة التعويض بمنتج غنائي محلي وفي حينها لم يكن في الساحة إلا ما يسمى بفنانين (قدّر ظروفك) وفتحت لهم قناة فضائية بمساعدة مستثمر عربي وبرعاية تلفزيون السودان الذي لم يستطيع التنازل 180 درجة ففتح الباب على مصرعيه للبدائل الجديدة من فنانين (قدّر ظروفك)، وقد قادة قناة النيل الأزرق هذا الاتجاه بنوع من الغلو وقد تبعتها بعض القنوات التي قلدتها سعياً وراء إدرار الإعلانات وخاصة إعلانات شركات الاتصال وعلى ما اذكر أن أحدى هذه القنوات قد قدمت برنامج لمدة ساعتين كاملتين عن (حنة) ندى القلعة بينما لا يجد محمد الأمين أو شرحبيل أحمد أو زيدان إبراهيم ساعة واحدة كاملة. وفوق هذا الإقصاء المدبر إن للانحطاط أدأبه الخاصة، فكما أشرنا سابقاً أن الأدب والفنون مكونات ضمن نسيج المجتمع، وبما أننا نعاني من استبداد واحتكار السلطة والثروة من قبل شريحة طفيلية على حساب طبقات المجتمع الأخرى لا مكان لأدب أو فن رسمي سامي فهو منحط كانحطاط سادته، الذين عملوا على محاربة المبدعين وتجوعيهم وبالمقابل لم يستطيع أدبهم وفنهم خلق مساحة ولو ضئيلة في الخارطة الجمالية السودانية وبلغة السوق (أصبح السوق كاشف) للغث وهذا من مبررات إحساس الشباب بالغربة وتقوقع الكبار في الماضي وأصبح الحاضر فارغ يغري بتوالد الذباب. في وضع كهذا لا يمكن أن ننتج ثورة غافلة عن حواس المجتمع الجمالية أو مستدعية عقل ومنطق مرتبطان بظروف حراك خارجي دون الالتفات لثقوب النسيج الاجتماعي، وثورة كهذه فهي ثورة ذات مفهوم (أعرج) تعمل على تغير نظام (regime) وليس نظام (system) وكأننا في لعبة كراسي طويلة ومملة لذا الثورة التي نرجوها ثورة خلاقة أي ثورة منهجية ثورة في المقاييس في التعليم في الفنون أي ثورة يمكن أن تحقق الانقلاب الجزري لبنية النظام ال(system) وليس الأشخاص أو النظام السياسي ال(regime) (عسكري أم مدني نيابي أو مدني احتكاري…الخ) وكي نحقق تلكم الثورة يجب أن نلتفت للعلل التي أوصلتنا إلى المرحلة الراهنة، وبمعنى مبسط لو تأملنا الإجابة على سؤال لماذا نحتاج لثورة؟ فقد تأتي إجابة رائعة وسريعة (كي نبني سودان جديد) فهذه إجابة جيدة لكنها عجلة فقد تصطدم بالسؤال عن تفاصيل هذا (السودان الجديد) تماماً مثلما لم يستطيع انقلابي حزب الجبهة القومية الإسلامية من تحديد ملامح محددة (للتوجه الحضاري) وحتى بعد أكثر من ربع قرن من الحكم، لذا علينا أن نعمل في إنتاج سودان جديد من الآن وليكون سودان جديد في الإدارة في التعليم في الفنون …..الخ، وبما أننا نتحدث عن الفن الغنائي تحديداً فلتبدأ ثورتنا في الفن الغنائي منذ الآن من خلال فتح المجال واسعاً أمام التجريب في الموسيقات والإيقاعات السودانية التقليدية والتعامل معها بانفتاح يستوعب الخصوصيات الاجتماعية والطقسية والمعتقدات وغيره. ومن التجارب الرائعة تجربة أغنية شعار مسلسل امونة وحسن من كلمات عادل إبراهيم محمد خير وألحان د. محمود ميسرة السراج وغناء على الزين وسليمان محمد، فالأغنية قد أتت محمولة على إيقاع الدليب، في لحن غني جداً رغم بساطته فجاء كالسهل الممتنع ندي ناعماً أما السهل الممتنع حقيقة فقد جاء في كلمات الأغنية حيث سطر عادل إبراهيم كلمات بسيطة لكنها عميقة ذات دلالات ضخمة ولم تأتي فجة كي تقترح حلول جاهزة لكنها أتت من عالم يغري بسبر أغوار الحقيقة المدلوقة بين أسطر الواقع المر، وتعتبر هذه الأغنية مثالاً حي للتجريب الموسيقي لإيقاع سوداني تقليدي فمثلاً جاءت المقدمة الإيقاعية مصاحبة لصوت رزم جيتار داعماً إيقاع الدليب ومعمق وصوله لإحساس المستمع وفي ذلك تم كسر الألفة لدى المستمع الذي ارتبط عنده هذا الإيقاع بصوت (الطمبور) والصفقة وبالتالي أدى الإيقاع بعداً جديداً ليمكنه من استيعاب مساحة أكبر ويمكن أن يطبق المثل مع بقية الإيقاعات والموسيقات السودانية التقليدية ومن هنا يجب أن تبدأ الثورة، فقد عانت الثقافات السودانية من الظلم الجائر على حساب ثقافة الوسط هذه الثقافة التي امتلكت (الإذاعة السودانية) وسوف نفرد مساحة أخرى لهذه الجزئية، أما مثل هذا النموذج فيمكن تطبيقه على العمارة، والتجارة والإدارة وكل مناحي الحياة وعلينا أن نصر فيها على الاعتراف بالأخر ونزين حديقة حياتنا بألوان تنوعنا الزاهية وبذا نكون قد أنجزنا مفهوماً جديداً للثورة يذهل العالم كما فعلنا من قبل.