الأهلي يعود من الموت ليسحق مازيمبي ويصعد لنهائي الأبطال    أرنج عين الحسود أم التهور اللا محسوب؟؟؟    الصناعة.. قَدَر الخليج ومستقبله    شاهد بالفيديو.. ناشط سوداني يهاجم الفنانة عشة الجبل ويثبت غيرتها من زميلتها الفنانة مروة الدولية: (عرس الدولية حارقك وقاطع قلبك والغيرة دي ما حلوة)    قرارات جديدة ل"سلفاكير"    السودان..تحذير خطير للأمم المتحدة    شاهد بالفيديو.. ناشط سوداني يهاجم الفنانة عشة الجبل ويثبت غيرتها من زميلتها الفنانة مروة الدولية: (عرس الدولية حارقك وقاطع قلبك والغيرة دي ما حلوة)    شاهد بالفيديو.. حكم كرة قدم سعودي يدندن مع إبنته بأغنية للفنان السوداني جمال فرفور    شاهد بالصور.. رصد عربة حكومية سودانية قامت بنهبها قوات الدعم السريع معروضة للبيع في دولة النيجر والجمهور يسخر: (على الأقل كان تفكوا اللوحات)    هل فشل مشروع السوباط..!؟    بلومبيرغ: قطر تستضيف اجتماعا لبحث إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا    سوق العبيد الرقمية!    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    أمس حبيت راسك!    راشد عبد الرحيم: وسقطت ورقة التوت    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إقصاء الزعيم!    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفساد في تركيا نهاية ( أردوغان ) أم ( الأردوغانية ) ؟
نشر في حريات يوم 28 - 12 - 2013


( محمد عبد القادر – العربية للدراسات )
قبل أيام قليلة من انقضاء عام 2013 وبداية عام جديد، من المفترض أن تشهد تركيا خلاله أثنين من الاستحقاقات الانتخابية، حيث الانتخابات البلدية في مارس 2014 والانتخابات البرلمانية في أغسطس من العام ذاته، أطلت برأسها سلسلة من الفضائح التي ترتبط بملفات فساد تورط فيها عدد من أهم الوزراء وأكبر الشركات العقارية التركية وأحد أهم البنوك المملوكة للدولة، لتوجه بذلك "ضربة قاسمة" إلى حزب العدالة والتنمية الحاكم منذ نوفمبر 2002، والذي بني مشروعه السياسي برمته على محاربة الفساد ودعم الحريات ومواجهة الفقر، فإذا بتركيا تتحول خلال حكمه لأكبر "سجن" في العالم للصحفيين، ويتورط في ملفات فساد كبرى العديد من رموز نظامه ووزراء حكومته، البعض منهم ظل عضوا ب"حكومات العدالة" طيلة الأحد عشر سنة المنقضية.
ومع أن الأيام القليلة الماضية حملت الكثير من التقارير في وسائل إعلام وصحف تركية تشير إلى تورط أردوغان ذاته في قضايا فساد أخرى تتعلق بمنحه تصاريح غير قانونية لأحد الشركات التابعة لواحد من أصدقائه لإمداد منازل المواطنين في مدن تركية ب"غاز التدفئة"، مما يجعل قضايا الفساد وفواصل الصورة الأردوغانية القديمة والجديدة تمثل تحديا وإرهاصا بنهايته السياسية أو نهاية نموذجه الشائع في العالم العربي والمعروف النموذج التركي، والذي تماهى معه عدد من الإسلاميين العرب وبشروا به رغم رفضهم علمانيته.
إن تفجر سلسلة قضايا أو فضائح الفساد الأخيرة من شأنه أن يعيد فتح العديد من القضايا التي غٌض الطرف عنها سابقا، على نحو قد يشكل تحديا هائلا ليس وحسب لحزب العدالة والتنمية ولكن لأردوغان ذاته، لكونهما معا باتا يواجهان أزمة كاشفة من ناحية لحالة التباعد والصراع السياسي الدائر بين رئيس الوزراء التركي من جانب، وجماعة فتح الله كولن من جانب آخر، وذلك باعتبارها الجماعة التي شكلت أحد محركين أساسيين في نجاحات أردوغان السياسية، ومن ناحية أخرى لكونها أزمة توضح حجم الفساد الذي يتورط فيه بعض رجال الأعمال المقربين من أردوغان، وهم مثلوا بدورهم المحرك الثاني لنجاحاته الاقتصادية.
ثلاث قضايا أم أكثر ؟
ترجع بداية التحقيقات في قضايا الفساد هذه إلى ما قبل ثلاثة شهور حينما تلقى مكتب مكافحة التهريب والجريمة المنظمة "ملف مجهول" المصدر يكشف ثلاث عمليات فساد ضخمة، تخص مشروعات عقارية وتصاريح بناء في مناطق يحظر بها البناء، وتتضمن معلومات حول تورط عدد من البيروقراطيين الحكوميين رفيعي المستوى ورجال أعمال حققوا أرباحا طائلة من مشاريع عقارية مخالفة للقوانين التركية، بما دفع مكتب مكافحة الجرائم المالية إلى الحصول على إذن من النيابة العامة لملاحقة ومتابعة المشتبه بهم، ومن ثم استطاعت الشرطة التنصت عليهم وتسجيل المحادثات الخاصة بهم.
شملت هذه التحقيقات ثلاث قضايا منفصلة، واحدة منها تعلقت بقيام رئيس بلدية حي الفاتح في اسطنبول، مصطفى ديمير[i]، بمنح تراخيص بناء غير قانونية لشركة "توكي" العقارية التابعة للدولة، وأخرى ارتبطت بمعليات فساد ورشى تلقاها أبناء الوزراء الثلاثة بالإضافة إلى وزير الدولة لشئون الاتحاد الأوروبي، مقابل تسهيل القيام بإجراءات غير مشروعة في عملية البناء غير القانوني أو منح الجنسية التركية لمواطنين أجانب.
وقد ارتبطت القضية الثالثة بالدور الذي لعبه بنك هالك Halk Banksi[ii] في تمرير "صفقات تجارة محظورة" (والمعروفة بتجارة النفط مقابل الذهب) دوليا بموجب قرارات مجلس الأمن بخوص العقوبات على إيران. هذه القضية ارتبطت بالعديد من رجال الأعمال أبرزهم رضا ذراب (رجل أعمال إيراني-أذربيجاني)، والذي لعب دورا مهما في استخدام البنك في تحويل أموال تتراوح ما بين 20 إلى 100 مليار دولار في العامين المنقضيين[iii]. كما أنه متهم بمنح نجلي وزيري الداخلية والاقتصاد رشى مالية لتسهيل معاملات تجارية تتعلق بالتجارة نفسها بين تركيا وإيران وروسيا.
وعلى الرغم من أنه كان من المفترض أن تستمر التحقيقات لفترة أطول بما يكشف العديد من الشبكات المتورطة في قضايا الفساد هذه أو غيرها، غير أن وتيرة التحقيقات قد تسارعت قبل الإعلان عن القبض على المتهمين بسبب استشعار النيابة العامة والمدعى العام السابق في اسطنبول، زكريا أوز، الذي رأس لجنة التحقيق، وتولى ملف القضية منذ يومها الأول، بأن الحكومة في طريقها لمعرفة تفاصيل القضايا، وهو ما جعله يصدر أمرا فوريا بالقبض على المتهمين.
ومع أن ذلك كلف الرجل منصبه، غير أن ثمة العديد من الصحف التركية المعارضة التي وجدت في ذلك فرصة سانحة لتخرج ما لديها من معلومات في لحظة ضعف استثنائية لم يشهدها "الحكم العدالى" من قبل، حيث أشارت العديد منها إلى أن المدعى العام السابق أبعد عن التحقيقات قبل الكشف عن المزيد من ملفات الفساد، حيث كان يمتلك أدلة جنائية وتسجيلات صوتية لعدد آخر من الوزراء.
وقد أشارت صحف وقنوات إعلامية معارضة عديدة إلى امتلاكها وثائق وأدلة بشأن عمليات فساد أخرى، وتسجيلات صوتية تدين وزير الداخلية المستقيل معمر غولار في قضايا لم تتعرض لها التحقيقات، كما أعلنت إحدى المحطات الفضائية عن امتلاكها تسجيلا مصورا يرصد مشاهد لأقارب وزراء يعترفون بتلقى رشى[iv].
هذا فيما قام نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري أوموت وهران إلى الإعلان عن رغبته في إثارة قضايا مسكوت عنها في البرلمان التركي، وشكلت تابوهات مغلقة، وتتعلق بطائرات هبطت في مطار أتاتورك باسطنبول محملة بشحنات ذهب ولم تكن تمتلك الوثائق المطلوبة والدقيقة حول حمولاتها، ومع ذلك سمحت لها سلطات المطار بالمغادرة إلى بلدان مجاورة، بعد المكوث في المطار لعدة أيام، وهو ما أشارت إليه العديد من الصحف التركية ومنها صحيفة Haber Türk، والتي أشارت إلى أن أحد الطائرات كانت محملة بنحو 1.2 طن من الذهب وكانت قادمة من غانا.
مواقف الأطراف المختلفة
على الرغم من أن أردوغان وصف عملية القبض على المتهمين والتي تمت فجر السابع عشر من الشهر الحالي دون علم السلطات السياسية في البلاد ب"العملية القذرة"، متهما أطرافا داخلية وخارجية بالتورط في محاولة القضاء على تجربة حزبه التي نهضت بتركيا، وأن هذه القضايا تمثل "حرب نفسية" هدفها إسقاط حكومته بعد أحد عشرا عاما من حكما وسم بالناجح في تركيا.
بيد أن ما أثار جدلا محليا تعلق بإعادة أردوغان تكرار نفسه عبر اللجوء السريع إلى "نظرية المؤامرة" التي يؤمن بها، إذا حمل حديثه إشارات ضمنية إلى كل من الولايات المتحدة وإسرائيل في الخارج وجماعة فتح الله كولن في الداخل التركي، وهى جماعة تضم مجموعات متنوعة من المواطنين المحافظين ويطلق عليها Hizmet أو "الخدمة".
ومع أن أردوغان لم يقدم أي دليل حول اتهاماته والتي حملت إشارات ضمنية حول دور الجماعة في "ضرب" الاستقرار التركي، إلا أن ذلك أوضح أن ثمة توجها لمحاولة "دفن القضية"، وهى إستراتيجية عبر عن ملامحها عبر إقالة العشرات من قادة الأجهزة الأمنية في العديد من المدن التركية كأنقرة واسطنبول وأنطاليا وأزمير، هذا إضافة إلى منع الصحفيين من دخول مديريات الأمن، كما أصدر تعديل قانوني يمنع المدعيين العاميين من القبض على المتهمين قبل الحصول على توقيع المحافظ أو المسئول الإداري في البلديات.
ومع أن ذلك ربما يكشف عن عدم الثقة في نزاهة القضاء التركي، إلا أنه يبدو منطقيا أيضا وفق نمط الإدراكي لأردوغان، الذي توترت علاقاته مع جماعة "الخدمة"، وذلك بسبب ملفات توتر عديدة تصاعدت مؤخرا لتفضي إلى فض شراكة سياسية دامت طيلة سنوات، وارتبطت نهاياتها بمحض التخلص من "دولة الوصاية العسكرية"، حيث استخدم أردوغان جماعة الخدمة بنفوذها الواسع في مؤسستي الشرطة والقضاء في ملاحقة العشرات من جنرالات الجيش التركي، واستخدمهم وظيفيا لدعم نفوذه وتفرده بالسلطة.
ومع اتساع نفوذ الحركة ودورها الفاعل في القضاء على العسكر عبر سلسلة متلاحقة من الدعاوي القضائية، فقد تزايد قلق أردوغان، لاسيما أن جماعة كولن بعدما قامت لم تكن على وئام مع "رجله الأول"، هاكان فيدان، مدير جهاز الاستخبارات التركية (MIT)، بما دفعها إلى محاولة التخلص منه في السابع من فبراير 2011، عبر استدعائه للتحقيق في تهم تتعلق بما سرب وقتذاك من معلومات حول لقاءات سرية بالعاصمة النرويجية أوسلو بين أعضاء في الاستخبارات وعناصر من حزب العمال الكردستاني، المصنف كحزب إرهابي وفق نصوص القانون التركي.
وقد اعتبر أردوغان أن هذا التطور يعد مؤشرا خطيرا على تجاوز جماعة كولن الحدود المسموح بالتحرك بينهما، بما يجعلها تشكل "دولة داخل الدولة"، خصوصا أنه لا ضمانات بعدم ملاحقة أردوغان نفسه حال سادت مساحات الافتراق واختفت ساحات الاتفاق، والتي بدت تغيب تدريجيا مع إدراك أردوغان أن انتهاء معركته مع جنرالات الجيش يستوجب الالتفات إلى "الأخطار المحتملة" بعد التخلص من "الأخطار القائمة". لذلك وفي خطوة استباقية لجأ أردوغان إلى تعديل تشريعي يمنع استدعاء أيا من عناصر الاستخبارات قضائيا دون إذن مسبق من رئيس الوزراء.
وقد كان التطور الدراماتيكي في هذا السياق ما أشارت إليه صحيفة طرف التركية عن أن لديها وثائق تثبت سعي مجلس الأمن القومي إلى القضاء على حركة فتح الله كولن في عام 2004، وأن هذه الوثائق تعتبر الجماعة خطرا على الأمن القومي، وهو ما خلق مساحات للتوتر غير محدودة تصاعدت مع اتجاه أردوغان لسن تشريع يلغى بمقتضاه شرعية وجود ما يعرف في تركيا بالمدارس التحضرية" أو الدرسانا[v]، وهو ما رفضه كولن وعلق عليه بقوله : " أنهم يريدون إغلاق كل شيء حتى أبواب الجنة يريدون غلقها.. على الأقل أتركونا نحن ندخل الجنة"، مشبها أردوغان بقادة الانقلابات التركية السابقة، ونفى كولن أي ارتباط بين جماعته والتحقيقات الجارية معتبرا أن "إعلان الحرب ضد الحكومة وصفات خيالية".
على جانب آخر فإن المستفيد الأكبر من الافتراق الكبير بين أردوغان وجماعة Hizmet كانت أحزاب المعارضة التي تشير العديد من استطلاعات الرأي أنها "الرابح الأكبر" من أحداث ميدان تقسيم في شهري مايو ويونيو الخاليين، لتأتي هذه الأزمة لتضاعف من مشكلات الحزب الحاكم، على نحو يعزز من فرصها الانتخابية قبل أشهر ثلاث من الانتخابات البلديات.
وقد وظفت أحزاب المعارضة جميعها الأزمة لتطالب بإسقاط الحكومة والدعوة لانتخابات نيابية مبكرة، ورفض أية تعديلات حكومية، باعتبار أن التعديل الوزاري الأخير لا يستهدف إلا "تجميل وجه الحكومة ورئيسها"، الذي وصفه زعيم حزب الشعب الجمهوري بأنه أصبح "كالبطة العرجاء".
أردوغان ونهاية "النموذج"
ربط أردوغان بين عملية التنمية في تركيا اقتصاديا وتحقيق الاستقرار السياسي في الدولة والانفتاح على الغرب وإعادة الاعتبار إلى علاقات تركيا بدول الشرق الإسلامي، خصوصا العربية منها، وذلك انطلاقا من الرغبة في إعادة الاعتبار للدولة التركية وميراثها التاريخي (الإسلامي)، هذا في وقت أخذ فيه فيلسوف السياسة الخارجية، أحمد داوود أوغلو، التنظير إلى هذه السياسية بنظريات سياسية وفلسفية حول "البيوت الخشبية" و"العمق الإستراتيجي" و"صفر مشاكل"، وغيرها لتفسير صعود الدور التركي إقليميا ودوليا، وبينما كان الحديث المتواتر في المنطقة العربية يتعلق بمحركات ظهور تيار إسلامي معتدل على غرار "النموذج التركي العدالي" الذي يؤمن بالديمقراطية وينفتح على الغرب ولا يجد غضاضة في حكم نخبة إسلامية دولة علمانية بمقتضى نصوص الدستور.
بيد أن أردوغان سرعان ما بدا انحيازه إلى تيارات الإسلام السياسي بعد اندلاع ثورات "الربيع العربي"، التي راهن عليها لإعادة تشكيل توازنات القوى الإقليمية، بما يصب لمصلحة أنقرة، غير أن سقوط حكم الإخوان في مصر وتحول الحرب الدائرة بين المعارضة السورية والنظام البعثي في بعض وجوهها إلى حرب بين المعارضة وبعضها البعض، حول تركيا من "الرابح الأكبر" إلى "الخاسر الأبرز"، بسبب الرهانات الخاسرة، وفيما كان الاستقرار السياسي الذي حققه "الحزب العدالي" على الصعيد السياسي نموذجا يمكن الاستفادة منه، غير أن أحداث ميدان تقسيم كشفت عن أن نظام أردوغان لا يختلف كثيرا عن الأنظمة العربية التي استخدمت الوسائل القهرية لفض المظاهرات والاعتصامات السلمية، وهو ما يعني فقدان عنصر "الجذب السياسي" بهذا النموذج.
ومع ذلك ظل نموذج التنمية الاقتصادية، الذي ارتكزت عليه عملية الصعود تركيا الإقليمي، يحتل مرتبته المتقدمة، بالنظر إلى التطورات الاقتصادية الهامة التي شهدتها تركيا على مدى الأحد عشر عاما المنقضية، هذا إلى أن ظهرت موجة فضائح الفساد الأخيرة، والتي دفعت أردوغان إلى اتخاذ إجراءات كفيلة بمضاعفة التشكك في مسار نزاهة التحقيقات في قضايا الفساد، التي اعتبرها في خطابه الأخير أمام نواب حزبه، محض "فبركة" من قبل المعارضة، ليجري بعد ذلك بساعات التعديل الوزاري شمل وزير الداخلية الذي منح الفرصة قبل الاستقالة لتغير العديد من هيكل القيادات الشرطة في العديد من المدن التركية.
استنتاجات ختامية
ثمة العديد من الملاحظات والاستنتاجات الختامية حول مسار العلاقات والتطورات بين أطراف الأزمة المتفاقمة في تركيا، والتي يبدو أنها في طور تشكل مشهدها الرئيس وليس في معرض نهايته.
* مستقبل أردوغان السياسي على المحك" إن هذا التطور الدراماتيكى في مسار "أردوغان" ونموذجه المفترض بات يستجلب صعوبة التوصل إلى توافقات وحلول وسط بشأن القضايا الخلافية مع أحزاب المعارضة حول دستور جديد لتركيا، لتتحول بمقتضاه من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، ليغدو أول رئيس ينتخب من قبل الشعب التركي مباشرة، ويحظى بكافة الصلاحيات التنفيذية.
يزيد من مأزق أردوغان أن اللائحة الداخلية للحزب تمنع أي مسئول تنفيذي من تولى منصبه لأكثر من ثلاث ولايات متتالية، وهو ما يجعل العام المقبل العام الأخير بالنسبة لأردوغان ليكون بين خيارين.
فإما أن يقوم بتعديل اللائحة الداخلية ليشبه الحكام العرب الذين عدلوا القوانين والدساتير للبقاء في الحكم، أو خوض الانتخابات الرئاسية، وهو ما يتطلب دعم مختلف شرائح المجتمع التركي ليحصل على قرابة نصف أصوات الناخبين للفوز بالمقعد، بيد المشكلة تتعلق بشعبية عبد الله جول، الرئيس الحالي، الأكثر اعتدالا وتواصلا مع كافة الأحزاب السياسية وأكثر قبولا شعبيا وفق استطلاعات الرأي، وهو أمر قد يدفع باحتمال إصراره على خوض السباق الرئاسي.
* فشل إستراتيجية "دفن القضية"- إستراتيجية ملاحقة القاضي بدلا من ملاحقة "الجاني"، لم تعد تجدي نفعا ذلك أن أحزاب المعارضة ووسائل إعلامها، خصوصا بعد أن التقت مصالحها مع جماعة فتح الله كولن بمؤسساته الإعلامية الكبرى، ستسعى جاهدة إلى استغلال الأحداث وفق ما يعرف في العلوم الاجتماعية ب"اقتراب الفرصة" لإسقاط حكم أردوغان، لذلك فإن توالي الاستقالات من قبل نواب الحزب في البرلمان قد يشكل عنصرا ضاغطا حتى بعد قيام أردوغان بإجراء تعديل وزاري يستبعد بموجبه عشر وزراء منهم الوزراء المتهمون بالفساد، ذلك أنها مقاربة لن تجدي نفعا في إقناع "تحالف المعارضة الجديد".
* المؤشر الحقيقي ليس الانتخابات البلدية – على الرغم من توقع حدوث انخفاض في نسبة تأييد حزب العدالة في الانتخابات البلدية المقبلة، غير أن المؤشر الحقيقي سيرتبط بالانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلتين، ذلك أن الانتخابات البلدية ترتبط بشخصية المرشح، وليس بطبيعة الحزب المنتمي إليه، فضلا عن أن هناك توجه لدى بعض القطاعات الشعبية لاختيار مرشح الحزب الحاكم، حتى يستطيع أن يقدم الخدمات المطلوبة.
ومع ذلك تظل انتخابات بلدية اسطنبول الأهم، حيث أن هناك مقولة تقول بأن "رئاسة الوزراء تمر عبر مدينة اسطنبول". انعكس ذلك في خيارات مرشحي حزب الشعب الجمهوري الذي اختار السياسي الشهير، ساري غول، هذا فيما تراجع العدالة والتنمية عن الاستعانة بقادر طوباش في منصب وزاري حتى يستطيع أن يحسم بقاء البلدية تحت سيطرة الحزب.
* تأثر الأوضاع الاقتصادية بنمط الأحداث السياسية – ثمة تداعيات خطيرة لأزمة فضائح الفساد على استقرار الاقتصاد التركي، الذي يجاهد من أجل الحفاظ على مستوى متدني من النمو لا يتجاوز 3.6 بالمائة. وقد أشارت العديد من التقارير إلى أن التقديرات المبدئية لخسائر تركيا في أيام الأزمة الأولى تصل لنحو 20 مليار دولار، خصوصا بعدما تراجعت قيمة العملة التركية (الليرة)، وتراجعت قيمة الأسهم في البورصة التركية، فضلا عن إعلان العديد من المستثمرين الأجانب التوقف عن ضخ مزيد من الأموال في مشروعات استثمارية جديدة في ظل ما يسميه البعض منهم "الغموض السياسي" القائم.
* تضرر القاعدة المحافظة باعتبارها "الكتلة الصلبة" – تشكل ملفات الفساد المثارة "ضربة قاسية" بالنسبة لجماهير حزب العدالة المحافظة. فقد شوهت الصورة الايجابية عن وزراء حزب العدالة والتنمية، فمن الآن لن تكون قيم "المحافظة" قادرة على الدفاع عن حزبهم أو أن تكون كفيلة بنفي قاطع لعلاقة الحكومة بالفساد. ولن يغفر لأردوغان ومسئوليه المعرفون ب"المحافظة" بسهولة تهم الفساد، وهو ما قد يدفع بفقدان العديد من الأصوات خلال الانتخابات المقبلة.
* الاحتمال المرجح حدوث انشقاقات حزبية – إن استقالة عدد من نواب حزب العدالة في البرلمان من الحزب الحاكم، وتقديم وزير البيئة المستقيل الدعوة لأردوغان بالاقتضاء به وتقديم استقالته، فضلا عن ابتعاد الرئيس التركي، عبد الله جول، عن المشهد، بالإضافة إلى تصريحات نائب رئيس الوزراء بولنت أرنيج الأكثر اعتدالا، جميعها تعزز التقارير الخاصة بوجود انقسامات حادة داخل الحزب، لا سيما أن هناك تيار سياسي داخل الحزب يحمل أردوغان المسئولية عما تشهده تركيا من أزمات سياسية وتداعيات اقتصادية بسبب عدم الاستماع لرفاقه الذين يعملون معه منذ ثلاثون سنة خالية، وتفضيله مستشاريه الشباب قليلى الخبرة، والأكثر دعما لنزعته الاستبدادية وتعزيزا لنزعته السلطوية.
* تضرر الصورة النمطية لتركيا خارجيا – كشفت ملفات الفساد الأخيرة أن تركيا ليست ببعيدة عن نظيرتها العربية، كما أوضحت هذه العملية أن تركيا أضحت واحدة من محطات "غسيل الأموال"، حيث هناك تقديرات تشير إلى Halk Banksi قد تلقى نحو 100 مليار دولار و"غسلها" في تركيا والعديد من الدول الأخرى، وهو ما يشكل ضربة كبيرة لصورة تركيا على الصعيدين الإقليمي والدولي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.