[email protected] وفق أي معايير قيمية وأخلاقية نطلق صفة اللصوصية على أفعال تتشابه في كونها سرقة؟!. هل نحتكم إلى النتائج؟ أم النوايا؟. هل نحن في حاجة إلى إعادة النظر في المفهوم؟ أم بحاجة إلى إعادة النظر في المنظومة القيمية المتوارثة؟. هذا ما انتهينا إليه في حديثنا السابق. وسأضع بين يديك نماذج يمكنك أن من خلالها أن تعيد التفكير في هذه المسألة. * هناك من يسرق ليسد حاجته المادية، وهؤلاء عطِّل الخليفة الراشد عمر ابن الخطاب حدَّ السرقة الشرعي في حقهم عام الرمادة نظراً لحاجتهم، وكان عام جوع. ومن أصحاب الحاجات هؤلاء من تكون حاجته نفسية لعِلة نفسية، وكثيراً ما سمعت أو قرأت عن مليونيرات يسرقون ملاعق وشّوك طعام زهيدة الثمن مع قدرتهم على شراء المحل بكاملة (ومعه العاملون أيضاً)!. وهؤلاء يحالون إلى عيادات الطب النفسي على الأرجح. * وهناك فئة ممن يحاربون ويقاتلون في سبيل الله وفي سبيل إعلاء كلمته وإنفاذ مشيئته في الأرض لإقامة العدل وإسعاد البشرية وإعمار الأرض، ولعلهم صادقون في نيتهم هذه (لا أعلم!)، وفي سبيل هذا الهدف النبيل لا يتورعون، ليس عن السرقة، بل والاتجار بالحشيش واختطاف المدنيين الأبرياء لأخذ الفدية. وقد قالت الحكومة الأمريكية إن التنظيمات الإرهابية جمعت فدى قيمتها 120 مليون دولار على مدى السنوات العشر الماضية وذلك في معرض إشادتها بقرار من مجلس الأمن الدولي يحث الدول على عدم دفع فدى في حالات الخطف. وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية جين ساكي إن الإرهابيين يستخدمون أموال الفدى "في تمويل جميع أنشطتهم بما في ذلك دفع الرواتب والتجنيد وتدريب الأعضاء الجدد(الاقتصادية بتاريخ 28/1/ 2014م). وهؤلاء مثلما يموتون في سبيل الله، فباسم الإله الخالق نفسه أيضاً يسرقون ويختطفون ويتاجرون بالمخدرات، وهم على يقين بأنهم وحالما يموتون سيدخلون الجنة مكافأة لهم على ما فعلوا!. * كما وهناك من يسرق لاختلاط مفهوم الحقوق في وجدانه. وهذا ما اعترف به رجل سرق دراجة ذات محرك صغير في النمسا قبل 25 عاما أرسل خطابا مغفل التوقيع إلى الشرطة يعترف فيه بجريمته وكتب في رسالته "في ذلك الوقت لم يكن عندي أي فكرة عن النطاق المادي وغير المادي لمثل هذه الجريمة ربما لافتقاري إلى النضج آنذاك". وأرفق بالخطاب 1400 يورو (1769 دولارا) كتعويض لضحيته. وأوضح الرجل أنه إذا لم تتمكن الشرطة من العثور على صاحب الدراجة السابق لتعطيه التعويض فيمكنها التبرع بالمبلغ لمؤسسة اجتماعية محلية.. ومن الواضح أن الرجل كان يعبث حينما سرق الدراجة لافتقاره إلى النضج كما قال في رسالته، ولا أجد ما يدعو إلى تكذيبه، إذ حالما أدرك بأنه تجاوز الخط الأخلاقي والقانوني لعمليته أعاد الدراجة ومعها مبلغ تعويض لصاحبها، مع رسالة اعتراف وتوضيح قد يُقبل أو لا يقبل تبريرا لفعلته. * وأخيراً هناك النوع الأكثر شيوعاً في مجتمعاتنا من السرقات والأكثر شهرة من اللصوص، ويشيع هذا النوع بين الطبقات الحاكمة في منطقتنا. وهؤلاء (يا عافاك الله) يسمحون لأنفسهم بنهب موارد الدولة ويطلقون أيديهم وأيدي أسرهم وحاشيتهم والمسبحون بحمدهم في خزانة المال العام. وبعد الربيع العربي أخذت الصحف الأجنبية تكشف حجم ثروات بعض الزعماء المخلوعين وثروات زوجاتهم. وقد قدرت صحيفة "يو إس توداي" الأمريكية في هذا السياق ثروة صفية فركاش زوجة الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي بنحو 30 مليار دولار، بما يجعلها تتفوق على نفوذ وثروة ليلى طرابلسي زوجة الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي إذ تملك فركاش وفقاً للصحيفة شركة الطيران "البراق"، بالإضافة إلى مخزون من الذهب يقدر ب 20 طنا وتطالب الحكومة البريطانية إلى جانب الفرنسية ضم اسمها إلى اللائحة السوداء، بالإضافة إلى عددٍ من الشركات التي يتخوف المجتمع الدولي من ضخِّها أموالا لحساب قوات القذافي. وأما ليلى الطرابلسي زوجة الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي، فهي أكثر زوجات الرؤساء العرب نفوذا، إذ استطاعت أن توجه نفوذ زوجها السياسي لمصلحة أفراد عائلتها و سيطرت إلى جانب بعض أفراد عائلتها وحاشيتها على أهم التوكيلات التجارية والمؤسسات الاقتصادية للدولة، حتى أن البعض ذهب في وصفها وحاشيتها ب"المافيا". وحتى في السودان الذي يهدد شبح الجوع شعبه ويتذيّل اقتصاده قائمة الدول الأشد فقراً أزكم الفساد المالي لزوجة رئيسه الثانية وداد بابكر أنوف السودانيين جراء تنامي ثروتها وثروة عائلتها التي كانت تعاني الفقر، مثلها في ذلك مثل أشقاء الرئيس نفسه. هذه نماذج مختلفة ومتنوعة من أعمال تجمعها جميعا صفة السرقة ويوصف أصحابها باللصوص. فهل الأمر هو كذلك بالفعل؟ نعود إلى معيار النوايا ، ونسأل هل نواياهم جميعا واحدة؟ هل دوافعهم واحدة؟. * أحدهم سرق لأنه استشعر الظلم الذي يقع على فقراء وأطفال أفريقيا فسرق ليتبرع بالمال لهم. * وآخر سرق ليسد حاجته من الضرورات الحيوية للكائن الحي. * وغيره سرق لأنه يؤمن برسالة إلهية ما تدعوه لمحاربة العالم وأن يُعدّ لحربه المقدسة عدتها. * وهناك من سرق وهو لا يحتاج لما سرقه لعِلّة نفسية. * وأخيرا هناك من سرق ما أؤتمن عليه ليصير غنياً هو وأهله، ويموت أصحاب الأمانة جوعاً. فهل تجدهم متماثلون في دوافعهم؟. أم تجد بينهم من لم سرق لمصلحته .. وهناك من ارتكب فعل السرقة لمصلحته الذاتية؟. هل تتساوى أضرار أفعالهم؟. أم هناك من تضرر منه شخص واحد؟ وهناك من تتضرر من جرمه شعب بأكمله؟. دائما كان يصرّ الكاتب عباس محمود العقاد على تحري البواعث، فإذا عملنا بنصيحته : ما هي بواعث كل واحد منهم، رغم تشابه أفعالهم؟. حينها نستطيع تقييم فعل كل واحد منهم. وسنعرف من النبيل بينهم والجدير بالاحترام ومن هو الوضيع الجدير بالازدراء والاحتقار.