[email protected] الغواية تجليا شيطانيا، بالمعنى الفرويدي الذي يرى في الشياطين (رغبات شريرة مستهجنة تنبع من دوافع مكبوتة). (1) يركب صحفي النظام ومنظريه ألف عفريت كلما طرقت آذانهم أصوات معارضة رافضة لتجربتهم البائسة في الحكم، أو مطالبة بضرورة إحقاق الحق ومحاسبة المفسدين والقصاص من الذين أجرموا في حق الوطن، فيتلبسهم شيطان اسمه "العزل والإقصاء"، ويهرع الرهط -المنقذ لنفسه – بربطة المعلم مسرعا لتدبيج المقالات محذرا ومنذرا من مغبة عزل وإقصاء "الجماعة" في حالما حدث تغير أزال بؤس نظامهم الرسالي، بينما يعمد البعض الأكثر حمق منهم إلى التهديد المباشر من سوء عاقبة مجرد التفكير في هذا الأمر!!. (2) أما الغريب في أمر البعض الآخر منهم فهو الثقة المفرطة والتفاؤل الخطل الذي يدفعهم للإيمان المطلق بأن أي انتخابات حرة ونزيهة قادمة سيكون الفوز فيها من نصيب "الجماعة"، التي تخوض في وحل الفشل منذ ربع قرن مارست خلاله باسم الدين صنوفًا من الفساد والإفساد، أدهشت مردة الجن والشياطين، وحيرت إبليس نفسه، ودفعته مجبرا لاعتزال "الغواية"، وظيفته المحببة التي ظل يمارسها منذ أن طرد من رحمة الرحمن. فقد تولَّ أمرها "الإخوان" عوضا عنه في السودان، وقاموا مقامه اللعين بجدارة وحرفية بزت أحابيله وأفاعيله الشريرة، منذ تلك الليلة المشؤومة من أواخر شهر يونيو عام 1989م. (3) والملاحظ أنَّ حالة الهلع والرعب التي تجتاح كتبة السلطان كلما ورد لفظ المحاسبة على لسان القوى المعارضة، قد زادت وتيرتها وارتفعت درجات حمتها في هذه الأيام التي يشهد فيها الرهط الإنقاذي بأم عينه كيف يحاسب "إخوان مصر"، حساب الملكين، تسديدا لفاتورة عامٍ واحدٍ فقط من الحكم والتمكين، مارسوا خلاله ما طاب لهم من فساد، ما استطاعوا إليه سبيلا من جرم، ولا شك أن "إخوان" السودان حين يرون عسر ذاك الحساب، ويعيدون النظر كرة في حصاد زرعهم خلال ربع قرن؛ يطيش صوابهم فزعا من هول ما اقترفت الأيادي المتوضئة من ذنوب. (4) إذًا مبدأ "المحاسبة" وضرورة إسقاطه من أجندة أي حوار أو تسويات قادمة، هو مربط الفرس وجوهر القضية التي تؤرق وتقلق شيوخ الغفلة اليوم، أمَّا موضوع العزل والإقصاء الذي يتباكى عليه "الإخوان" ويتصدر الطرح، فما هو إلا تكتيك لذر الرماد في العيون، وصرف المعارضة عن الوقوف عند مربط الحساب والعقاب. فالجماعة أعلم بما ارتكبت علانية ومن وراء حجاب "فقه السترة". حيث إننا وإلى اليوم لم نسمع تصريحًا واحدًا من القوى المعارضة يدعو ضمنا أو مباشرة لعزل أو إقصاء أحدٍ، على الرغم من هول الحماقات التي ارتكبتها الحركة الإسلامية في السودان. (5) وجل دعوات القوى المعارضة تتناول أمر تهيئة الأجواء لحوار جاد ومثمر، وتدفع في اتجاه اتخاذ النظام لتدابير منطقية يبدي من خلالها الجدية وحسن النية، مثل وقف إطلاق النار على الجبهات المشتعلة كافة، وإطلاق الحريات وإعمال مبدأ المحاسبة، وتكوين حكومة قومية انتقالية تضمن وضع دستور متوافق عليه، بالإضافة لإنشاء لجنة محايدة مستقلة تشرف على الانتخابات، وهي لعمري شروط غير معجزة، وتفي فقط بالحد الأدنى المطلوب لإنجاح أي حوار وطني جاد، يهدف لحل الأزمة الوطنية العميقة بعد حقبة متطاولة من الإقصاء والانفراد بالسلطة؛ ولكن فيما يبدو أن مبدأ المحاسبة الذي تضعه المعارضة "يحرك الفأر في عب النظام"، ويجعله دائم التحسس واللمس "للبطحة" التي فوق رأسه. (6) ووفقًا لهذه الحالة النفسية التي يعيشها النظام وأقطابه، يتم تأويل أي طرح تتقدم به المعارضة، وقراءة أي تصريح يبدر من قادتها ويسرع "الإخوان" بعده مباشرة فزعين دون تدبر إلى الشارع، يتخبطهم شيطان المحاسبة، خوفًا من أن يجد هذا المبدأ القبول، ليمارسوا ضغطًا مضادًا على الجماهير باسم الدين؛ محذرين من طرح المعارضة الهادف لمحاربة الإسلام وتصفية دولة الشريعة "!!". الشريعة التي لا يذكرها "الإخوان" إلا في الملمات، وتغيب عن الذكر عند تحصيل المغانم، حتى لا يكاد الشارع يسمع لها ركزا طوال ربع قرن. (7) إن معظم الشعب السوداني متدين، وشديد التمسك بعقيدته الإسلامية، وليس هناك عاقل في قوى المعارضة يستطيع القول بغير هذا، أو يجرؤ على التفكير في هدم هذه القناعات أو المساس بها. والحركة الإسلامية في السودان تعلم أكثر من غيرها هذه الحقيقة، ولكنها تصر على نهج اللعب بالمشاعر الدينية، وتعمد بوعي وإدراك خبيث يخدم مصالحها إلى مغالطة التماس العواطف وتحويل العقيدة السمحة إلى سلعة تباع وتشترى في سوق السياسة المُوحل. (8) فمحاولة حصر واحتكار الإسلام في جماعة والمتاجرة به ،هو بدعة تكشف عوارها للجميع، والمتابع لتاريخ الحركة الإسلامية في السودان -التي تلونت كالحرباء في كل منعطف من منعطفات السياسة، ولبست لكل مقام لبوسه اسما ورسما- يجد أنها طوال تجربتها لم تمارس السياسة وفق المفهوم المتعارف عليه؛ بل ظلت دومًا تختلق معارك في غير معترك، وتثير الأزمات في الساحة السياسية، ويكفي كمثال أن نذكر جريمة حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه المنتخبين من البرلمان بغير حق، والتي نسجت خيوط مؤامرتها بخبث ابن سلول عام 1968م وإعادة البلاد من جديد لنفق الانقلابات العسكرية. (9) لقد ارتكبت الحركة الإسلامية في تاريخها منذ النشأة حتى اليوم أخطاء وجرائم كبرى، ختمتها بجرم الانقلاب العسكري على السلطة الشرعية المنتخبة، وحين دانت لها السلطة منفردة أمعنت في ظلم الشعب، وترويع أهل السودان بالاعتقال السياسي، والتشريد، والقتل، وارتكاب مجازر عنصرية شهد على فظاعتها العالم، ورغم هذا لم يعمل أحدٌ على عزلها، أو مجرد التلويح بإقصائها من الساحة السياسية، وجميع الأحزاب والقوى السياسية تجمع على ضرورة عقد حوار وطني حقيقي، يشملها ولا يستثني أحد من أجل الخروج من عنق الزجاجة، والمحافظة على ما تبقى من الوطن. فمالي أرى أقطاب الحركة الإسلامية وكتبتها يتدافعون بالمناكب رفضا لتهيئة أجواء الحوار وتفعيل مبدأ "المحاسبة"؟؟ أوليس هذا المبدأ من صلب العقيدة المفترى عليها؟؟ أم أن للمشروع الحضاري مبادئا أخرى غير تلك التي تنزلت على خاتم الأنبياء والمرسلين؟؟. (10) إن مبدأ محاسبة كلِّ من ثبت ضلوعه في الجرم والفساد مبدأٌ ربانيٌّ وأجب النفاذ، وسيظل وأحدًا من أهم مطالب قوى المعارضة، رغم أنف كتبة السلطان ومنظريه، ولا دخول في حوار عقيم لا يؤسس على مثل هذا المبادئ، أوْ لا يستقيمُ على مفاهيم العدالة. والجماهيرُ التي طال ليلُ انتظارها قد ملَّتْ الحواراتِ الخصيةَ، والتجمعاتِ العاقرةَ التي فقدت القدرة على الحبل وإنجاب مخرجات حقيقية تعالج آس الأزمة الوطنية. والمطلوب اليوم ليس عقد حوارٍ أعرج، وعصب الجرح المتقيح كيفما أتفق على عمى؛ بل المطلوبُ فتحَ الجرحِ المتقيحِ مهما كان ذلك مؤلمٌ وتنظيفه وتطهيره من القيح ليبرأ مرة واحدة والى الأبد. ويكفي ما أُهدِر من وقت في المماحكة وسياسة شراء الوقت، فلم تعد العُصابة المتسخة تكفِ لإيقاف نزيفِ الوطنِ. ** الديمقراطية قادمة وراشدة لا محال ولو كره المنافقون. تيسير حسن إدريس04/04/2014م