[email protected] مهما إختلفنا فإننا لا ننكر إن هناك الكثير من الصادقين المخلصين في الحركة الإسلامية وما ترمي إليه بأهدافها التي تترأى إلى الناظرين سامية ونبيلة. ولكن يؤسفني أن أقول بأنهم مغشوشون. فأي إنسان يمكنه مراجعة نفسه بتبسيط مفهوم فكرته ثم مقارنتها بالنتيجة التجريبية أوالمحصلة لكي يعرف حقيقة إن كان مغرر به أم لا. إن إستمرار الخداع ينقلب إلى سذاجة لامعة أحيانا. فالمخدوعين يحاولون تبرير وتقنين فكرتهم بالمراجعات بنفس منطقهم ونظرتهم ولا يدركون بأنهم يعيدون إنتاج الفشل المجرب تجريبا. فبذلك يكذبون الواقع وهم غافلون، ويضيعون زمن الناس معهم وهم لا يشعرون. 1+1=2 أو ببساطة: فشل التجربة يعني فساد الفكرة.. فكر الحركة الإسلامية ببساطة هو إقامة دولة الخلافة وسيادة الإسلام للعالم!. أي فلسفتهم قائمة على ان الإسلام دين ودولة. وهو ليس كذلك فالإسلام دين والدولة شئ آخر، كما بينا من قبل مرارا وتكرارا. فحالما قرنا الإسلام بالدولة فإننا نعني إن الدولة الدينية، والدولة الدينية أثبت التاريخ فشلها ومآسيها. والإسلاميون يأملون لإعادة الخلافة الإسلامية كأيام الراشدين، مع إننا أولا لا يمكننا مقارنة ذاك الزمان بزماننا، ولا يمكن ان نحكم بتاريخ ثلاثة وعشرون عاما زائدا ثلاثون عاما من النضال وتحقيق العدالة الإجتماعية والمساواة، ومن ثم نساويه بتاريخ ألف وأربعمائة عام أخرى لحكم الملوك والسلاطين الذين كانوا عكس ذلك، حيث قهروا المسلمين وكانوا طغاة جبابرة بإسم الدين الإسلامي. وتكمن المشكلة الكبرى في تقديس المنهج، حيث يترسخ للإسلاميين في عقلهم الباطن عقدة الحق الإلهي ويحسبون إنهم يحسنون صنعا. فهم الوحيدون المحقون ليحكموا الناس ولنشر دين الله على أهل الأرض. فلا فرق إذن بينهم وبين هولاكوا وجنكيز خان. فقد كان هذان الغران يؤمنان ينفس تلك العقلية، أي بأن الله مرسلهم لفتح الأرض لإقامة دولة دينية على الناس. لذلك ينعكس النهج على الناس في الإستعلاء والإقصاء للغير وتبرير الوسيلة وإن كانت بسفك الدم. لقد بين فشل التجربة بخراب العديد من الأوطان فشل الفلسفة وفساد الفكرة. فلاتجد بلدا بها مايسمى بالإسلاميين إلا وهو يئن وينزف الدمع السخين ويهراق دم شعبه الثمين. وتجده أيضا يضج بالمشاكل وعدم الإستقرار. والأدهى والأمر يعزي الإسلاميون كل ذلك لإستهداف الإسلام أو لإبتلاء رب العالمين لهم!. واما على صعيد حركتهم نفسها تجد الإنشقاقات والعداوات والخصومات بينهم. وكل ذلك يلقي بظلاله على الإسلام كدين، إذ أنهم يدعون تمثيله، مما جعل كثير من الناس تكره الدين نفسه عوضا عن التجار به. المحبوب عبد السلام.. يثير القيادي "الإسلامي" البارز الأستاذ المحبوب عبدالسلام تساؤلات جادة للحركة الإسلامية نرجو إنها تفضي لتبصيرهم الصواب وإيقاظ ضمائرهم الإنسانية والوطنية. فقد أصدر مؤخرا ورقة تدعو الى إعتذار وإعتزال الترابي [حريات: May 29, 2014]. ويدعو أيضا للإجتهاد الفكري الذي يصل الإسلام بالعصر. ويقول صراحة إن التجربة الإنسانية قد بلغت مراحل بعيدة في الفكر والعمل وهي توشك أن تكمل إجتهادها في ترسيخ الديمقراطية سبيلا لتحرير الإنسان وفكره وتمكين حقوق الإنسان في العالم. فمالم يقله الأستاذ المحبوب صراحة بأن الإنسانية أسمى وأرقى من كل حركة إسلامية، ولا أدري متى سيعترف نهائيا بفشل هذه الحركة ويتخلى عن فكرتها تماما. وأن شعارات الإسلام هو الحل، أو جئنا لتطبيق الشريعة لن تصمد أمام الديمقراطية التي توصلت لها الإنسانية. ولكن على أي حال، نشكر للأستاذ شفافيته وصدقه وإجتهاده لما يقوم به من مراجعات والتي ستؤدي إلى إكتشافه بأن الأحزاب التي لا تخلط الدين بالسياسية هي التي يجب أن تعمل في السياسية لمصلحة الوطن والشعب لا غيرها، إن كان الإسلاميون يريدون مصلحة كل وطن وشعب. ويجدر بنا هنا التذكير بتصريحه بما قال من قبل بأنه "أقرب فكريا لليسار والجمهوريين من قيادات بالحركة الاسلامية" [الأهرام اليوم: Aug. 29, 2013]. فقد صوب إنتقادات لاذعة لدعاة وحدة الإسلاميين، دون استصحاب كل القضايا والازمات السودانية المتطاولة. وقال: "إن المنادين بوحدة الاسلاميين يجهلون التاريخ وعلم الاجتماع وان معرفتهم بالاسلام الحضاري ضعيفة جدا، وهذا يجعلهم لا يشخصون المشكلات السودانية تشخيصا صائبا ودقيقا، منوها الى ان الدعوة لوحدة الاسلاميين في ظل تنامي الازمات السودانية تكشف عن شح كبير في بيئة انتاج الافكار، وشدد على ان الصراع بين المؤتمرين الشعبي والوطني اصبح صفحة من التاريخ، وما من داع لان يسجن الفرقاء انفسهم في هذه الدائرة". وقال أيضا: "من الافضل للاسلاميين وللسودان ان تتم مناقشة الوحدة العريضة التي تجمع كل الاحزاب السياسية السودانية". وقال: "ان ظاهرة الاسلام السياسي تحتاج لتفكير شديد، وانا في احايين كثيرة اجد اناسا في حزب الامة وفي اليسار او كانوا في الجمهوريين، اجدهم في الحوار السياسي اقرب لي فكريا من اناس قضيت معهم سنوات طويلة في الحركة الاسلامية. وكما قال نزار قباني ان مناخ افكاري غريب عن مناخاتك، فالمناخ الفكري الذي يتيح لنا الحوار مع اولئك، قد يبدو في احيان كثيرة افضل من المناخ الفكري الذي اسسه ودعا له بعض الناس الذين كانوا جزءا من الحركة الاسلامية، وزرعوا في السودان مشاكل كثيرة انتهت بتقسيم البلد". سلطان العلماء: العز بن عبدالسلام.. ذكرني المحبوب عبد السلام بقصة العز بن عبدالسلام التي يحكيها لنا التاريخ. إسمح لي أن أقصها عليك بإختصار والتي يمكن أن نستشف منها مبادئ متشابهة ما بين السطور والتي قد تفيدنا وتفيد الأول. التاريخ: فى أثناء حرب التتار على بلاد المسلمين عند قصر السلطان قطزحيث يعقد اجتماع كبار العلماء لمناقشة كيفية دعم الجيش ماديا لقتال التتار. السلطان يأمرهم بضرورة حث الناس على المشاركة بأموال التجار، وجمع الأموال من الشعب لتعويض النقص الهائل فى خزانة الجيش. وفي تلك اللحظة يتسابق "العلماء" بالتهليل والتكبير، وجميع الحضور يهزون رؤوسهم للدلالة على الموافقة والدعاء للسلطان وجيشه بالنصر المؤزر لينتصر الإسلام. ولكن كان هناك رجل واحد لم تأخذه الحماسة ولم يدعي بأنه يريد نصر الإسلام. بل وقف ثابتا في وجه السلطان رافضا لما يريد به مصادرة أموال الناس. فقال: "إنه من الجائز أيها السلطان أن تأخذ من شعبك ماتشاء وتستعين به على الجهاد فى سبيل الله، ولكن بشرط أن لا يبقى فى بيت المال شىء، وأن تبيعوا أنتم الحكام والقادة أوانيكم المذهَّبة وآلاتكم النفيسة، ويقتصر ما لكل جندي على مركوبه وسلاحه، ليتساوى مع عامَّة الشعب، ثم خذ ما تشاء بعدها من شعبك كله بلا تفرقة". وفي ذاك المجلس من المؤكد سمع من يريد ان يثنيه عن ما قال بأنه مثبط، ويشق الصف وحتى عمالته أو خيانته للإسلام والوطن أو بلاد الإسلام. ولكنه لم ينثني عن قول الحق، ورغبته فى تطبيق المساواة على الجميع بلا استثناء، قبل مواجهة أي عدو. ولكن المدهش فعلا إن السلطان قطز لم يستمع لرأي الأغلبية بل إستمع لما قال هذا الرجل. فأحضر كلُّ أمراء وكبراء البلاد مع كل نفيس لديهم، وتَخلّص جنود الجيش من كل ما زاد على خيولهم وسيوفهم. فعندما شاهد العز إقامة العدل بشرهم بالنصر. وبالفعل انتصر انتصارا ساحقا، وانتهت أسطورة التتار على يد السلطان قطز، وعلى يد صلابة هذا الرجل الذي قال كلمته أمام غثاء الكلمات الرنانة والجمل الخائبة. والعز بن عبد السلام هو الصورة الباهرة فى تاريخنا لعالِم الدين الذي لا يكتفى بتعليم الناس الصلاة والصوم والعبادة ليبسط سيطرته الفكرية وآرائه الفقهية على الناس. وإنما العالم الذي يقول قول الحق ولا يخشى في الله لومة لائم. وقد كانت له مواقف أخرى لا نريد الإطالة بذكرها هنا. ولكن نقول إن كلمة الحق لا تنتظر موعدا، ولا تتوقف على مواءمات سياسية ولا اتفاقات تحت المناضد ولا فوقها، ولا مصالح، ولا تتغير بتغير المواقف، إنها تأتى فى أى وقت ليميز الله بها أهل الحق من أهل الضلال، أهل الدين من أهل استغلال الدين. ستجد فى عصرنا كثيرًا من علماء السلطان والزعماء السياسيين، يتماهون من أجل مصالح حزبية وشخصية خاصة. ومثال لذلك غض النظر عن الحديث عن الإنتهاكات الإنسانية التي تحدث هنا وهناك من قتل وإغتصاب وتشريد للمدنيين، وعن الفساد المستشري في كل النواحي، وعدم إرجاع كل ذلك للفساد السياسي والذي هو رحم كل أنواع الفساد الأخرى. والأنكى عدم الحديث عن التشويه والتلاعب بالدين نفسه بصياغة مخارج فقهية ما أنزل الله بها من سلطان لتبرئة ذممهم، كفقه الضرورة والسترة والتحلل. المراجعة الحقيقية هي الفصل بين الدين والدولة.. لعل دأب الأستاذ المحبوب عبدالسلام في مراجعاته المتكررة سيوصله في نهاية المطاف للتخلي عن فكرة حركة إسلامية. فالإسلام دين وأجل من أن يحصر داخل حركة، وأن يشوه بأفعال فئة تلصق إسمها فقط به. فقد ظلم الإسلاميون أنفسهم والمسلمين الآخرين كثيرا مما سيسألهم الله تعالى ويحاسبهم عليه حاسبا ثقيلا. لذلك إن الدعوة للفصل بين الدين والدولة هي الأمثل. فالدين منهج حياة يرتقي بالشخص إذا كان صادقا ومخلصا، أي بحرية إختياره. وإذا تحققت تلك الحرية في مجتمع ما إرتقى أيضا. فلا يمكن أن نفرض الدين فرضا ونغصبه على الناس لنسيطر به عليهم. فالله تعالى لم يخلق الناس كلهم في بيئة معينة لينشأوا جميعا مؤمنين به، لتكون لله دولة والكون كله ملك له سبحانه. ولم يسمح سبحانه حتى لنبيه عليه أفضل الصلاة والسلام بالسيطرة على الناس. إن الخلط بين الدين والدولة جاء بمصطلح ما يعرف بالإسلام السياسي. وإذا إعتبرنا مجازا تلك التسمية فإن "الإسلام السياسي" هو السبب في تفتييت الأوطان وإشعال الحروب بين الشعوب التي تعيش في رقعة أرض واحدة. فالإسلامي ببساطة يحسب أن فلانا أخوه في الإسلام، في بلد آخر، هو أحق بالأخوه من أخاه في الوطن الذي يختلف عنه سياسيا. ولذلك فإن الإسلام السياسي خطر على قضية "المواطنة" و"الهوية" واللتان ترتبطان بإنسان الوطن. فإذا كان ميزان المواطنة والهوية مختل لدي المواطنين فيعني قلة العطاء والتضحية وغياب عامل التنمية الأساسي، وعلى البلد السلام. لقد حاول أهل الإسلام السياسي في البدء تجهيل وتسفيه مفهوم الوطن ليحل محله الدين والإسلام والأخوة فيه. وهكذا التقليل من الإنتماء للوطن والوطنية وتضييع حقوق المواطنة. فقد كان إسمهم في البدء الأخوان المسلمون ثم غيروه ليكون الجبهة الإسلامية القومية. ثم غيروه ليسحبوا كلمة إسلامية/إسلامي لتكون مرجعية مبطنة بإسم الإسلام فسموا أنفسهم المؤتمر الوطني والآخر المؤتمر الوطني الشعبي. أي إنهم إعترفوا بخطر التسمية ليصيروا أقرب لكلمة وطني. ورغم ذلك إلا أنهم مستمرون في نفس النهج بإدعائهم تطبيق الشريعة والإسلام. وقد تلاحظ إن الإسلاميين في مختلف الأقطار الأخرى –كليبيا "المؤتمر الوطني"- غيروا أساميهم أيضا مما يدل على إن إرتباطهم عالميا أكبر من إرتباطهم بأوطانهم. يجب أن لا تكون المراجعات سطحية بتغيير المصطلحات فقط، بل بتغيير الأفعال والمنهج. فالأسامي تغيرت ولكن يزال المنهج الإقصائي والإستعلائي قائما. لقد تعرى منطق الإسلاميين أمام مرآة الوطن وكشفت عور منهجهم تماما من نتائج الفشل المتتالي والفساد المستشري. لذلك نرجو من الأستاذ المحبوب عبدالسلام تقديم مكاشفات وليس مراجعات تكون أكثر شفافية وتركيزا في جانب الوطن وليس في جانب الحركة الإسلامية وبغية إصلاحها. فالحركة الإسلامية وأذرعها لن تنصلح مادام إنها تريد السيطرة وتدخل في الأوطان سياسيا. وحبذا لو كان هناك إنشقاق صريح منها كما فعل في مصر الأستاذ كمال هلباوي وثروت الخرباوي وكتابه "سر المعبد" الذي كشف به خبايا تنظيم الإخوان الدولي وممارساته اللاإنسانية في سبيل غاياته اللاوطنية. كل ذلك سياسعد على كشف الحقيقة والمساهمة في التخلص من تزييف الوعي ليرتقي الشعب بثورة فكرية وإجتماعية يحيد بها عن الفشل والفكر الباطل. فاللإسلام رب يحميه، ولكن من للوطن غير شعب يذود عن حياضه ويبنيه؟.