ü حدثنا ثروت الخرباوي عن أسامة الغزاوي عن الشيخ عبد المتعال الجابري أحد تلاميذ الإمام حسن البنا ورفاقه المقربين، ان المرشد الثاني لجماعة الإخوان المسلمين المستشار حسن الهضيبي، كان قد انتبه بواسطة الشيخ عمر التلمساني وآخرين من قادة الجماعة لما يقوم به الاستاذ سيد قطب في السجن وما يبشر به من أفكار وسط أعضاء الجماعة وشبابها ودقوا له ناقوس الخطر.. فالتقى الهضيبي ذات يوم- من أيامه الأخيرة- وهو في مشفى السجن بسيد قطب، فكان أن سأله: هل تكفِّر المسلمين يا شيخ سيد..؟ فنفى سيد قطب ذلك وقال إنه غير مسؤول عن فهم الناس لأفكاره على غير محلها وعلى غير مقصدها.. فلم يجد الهضيبي أمامه الا أن يخط كتابه الوحيد «دعاة لا قضاة» لمواجهة حلف فريق «النظام الخاص» و «القطبيين». ثروت الخرباوي: «قلب الإخوان» ü عدت إلى هذه الواقعة المهمة، والمواجهة التاريخية التي شهدتها إحدى مستشفيات السجون المصرية بين المرشد الثاني حسن الهضيبي والأستاذ سيد قطب بعد مطالعتي الحلقة الثالثة من المسلسل الفكري الناقد الذي يكتبه الاستاذ المحبوب عبدالسلام بجريدة «الرأي العام» تحت عنوان «خطاب العبرة.. استقطاب أم اتفاق؟». ربما حفزني لهذه العودة إلى كتاب الخرباوي الذي أورد قصة اللقاء لكونه مرجعاً مهماً في تاريخ الجماعة- كآخرين كثر مثله هجروا مرابعها بعد طول مَكْث أو إطلالة يسيرة- ومنهم أعلام في قامة الشيخ محمد متولي الشعراوي والشيخ محمد الغزالي والشيخ سيد سابق واخيراً محاميهم الأكبر الأستاذ مختار نوح، والذي خلفه في قيادة الفريق القانوني للجماعة الاستاذ ثروت الخرباوي ذاته، بعد دخول الأول السجن في عهد الرئيس مبارك.. وللمفارقة أصبح المحاميان نوح والخرباوي أشهر منتقدي الجماعة والأعلى صوتاً في تفنيد مناهجها الفكرية والتنظيمية ومعتقداتها التي رأوا فيها مخالفات للكثير من صحيح الدين ووسطيته الراسخة بحكم الكتاب والسنة. نعود لموضوعنا الأساس، وهو النقد العميق والمؤسس، الذي أخذ يوجهه الاستاذ المحبوب عبد السلام، أحد أقرب تلامذة ومعاوني الشيخ الدكتور حسن الترابي قائد الحركة الاسلامية السودانية الحديثة، للمناهج الفكرية والسلوكية لجماعة الإسلام السياسي السودانية، التي كانت امتداداً ل«الجماعة» في مصر قبل أن تستقل بنفسها وتبتعد عن «التنظيم الدولي للإخوان» بمبادرة من الترابي نفسه الذي أعمل اجتهاده الخاص للتجديد والانفتاح، خلافاً للتجربة المصرية واتباعها المندغمين تحت توجيه مكتب الارشاد المركزي في مصر.. فالمحبوب، من طريق أو آخر، هو امتداد لشيخه الترابي في مجال الاهتمام بالتجديد والانفتاح والاستنارة، امتداد بمعنى الزيادة والتطوير، وليس من قبيل التقليد والنقل والتبعية، خصوصاً بعد اصداره كتابه المهم «العشرية الأولى.. دائرة الضوء وخيوط الظلام»، وبعد المذكرة الشهيرة التي وجهها لقيادة حزبه- المؤتمر الشعبي- ناقداً ومُوصياً «بالنقد الذاتي العلني» لممارسات سابقة- أبرزها الانقلاب- حتى يكون اعتذاراً للشعب على ما حاق به جراء تلك الممارسات، وكمدخل لعهد جديد وبداية تقطع مع الماضي بكل علله وأخطائه التي قادت إلى الواقع الماثل. ü استوقفني في الحلقة الثالثة من سلسلة مقالات المحبوب «خطاب العبرة.. استقطاب أم اتفاق؟» محطات مهمة رأيت أن اضيئ عليها باختصار، لتركيزها في أذهان بعض القراء الذين قد يواجهون عنتاً في لغة المحبوب النخبوية المعتالية، بحكم كونه يطرح معالجة فكرية وفلسفية، لا تكون- عادة- لغتها مفهومة أو مهضومة لدى عامة القراء، كما هو الحال مع «لغة الصحافة». ü في هذه الحلقة يجيب المحبوب- بطريقته- على سؤال كاتبنا الكبير الطيب صالح- رحمه الله- «من أين أتى هؤلاء؟» الممزوج بالدهشة و الاستغراب عندما رأى في «الانقاذ» لأول عهدها عنفاً وتطرفاً وجبراً لا يناسب المزاج العام للسودانيين، فأجاب المحبوب بأن الإسلاميين أو «الانقاذيين» هم أبناء بيئتهم وتاريخ الخلافة والسلطنات الإسلامية المتطاولة التي أشربوا ثقافتها وتوارثوا مناهجها في الحكم والتسلط. ويقول في هذا «وإذا يصور كثير من خصوم الإسلاميين أنهم انما هبطوا بغير سياق تاريخي أو أنهم نبتوا في الأرض ب فعل الشيطان، يبطلون أكبر مزاعمهم التي ترفض كل رؤية لا تاريخية، فهم مثل كل المظاهر والظواهر أبناء بيئتهم وظرفهم الاجتماعي والنفسي، تمضي عليهم سُنن التاريخ بالقدر بالقدر الذي تمضي على أوليائهم وخصومهم»، وذلك استطرداً لشرحه ورؤيته لذكريات التاريخ الإسلامي وخلافته ودوله وسلطناته- التي شكلت ثقافة ووعي الإسلاميين اللاحقين ومنهم اسلاميو السودان- تلك السلطنات والدول «التي قامت كلها بغير شورى ورضى، تعطِّل الإجماع وتقدم لمن ينشدون مثالها في التاريخ ويتوهمون باطلها الحق الذي جاء به القرآن، جوراً من اشتراع الحروب واسترخاص حرمة النفوس وسفك الدماء لطاعة السلطان ذي الشوكة» حيث لم تكن الخلافة تعرف الرحمة أو الرَحِم مع أقرب الأقربين عندما يكون الأمر تنازعاً على الحكم. ü أما عن العسف والملاحقة والتسلط الذي صاحب «سنوات التمكين» الإنقاذية، فيشخص المحبوب ذلك الواقع بلغة لا تخلو من اعتذارية وإن تكن ناقدة، بقوله: إنه بعد عقد من حكم السودان استبان «لقلة من قادة الحركة الإسلامية» لم تغلق السلطة عليهم منافذ البصيرة كلها، فرأوا في «أخذ الناس جبراً بغير حرية»- أي بممارسة التسلط والديكتاتورية بلغة السياسة المعاصرة والصحافة- واقصائهم دون اعترف بحقهم في الوطن، أو التمادي في الغفلة عن بسط السلطة والثروة حكماً اتحادياً لبلد واسع كبير مترامي الأطراف رأوا في ذلك عبرة تجلت بعد عنف شديد وجراحات واضطهاد على المعارضين، ثم في توسع في حرب الجنوب بأكبر من كل ما عرف التاريخ.. تلك الحرب التي تدافع إليها شباب وشيوخ الإسلاميين، تحت تصور أن خصومهم «متوالين على الباطل»- أي أن تحالف المعارضين والمقاتلين في الحركة الشعبية هو حلف الباطل والشيطان المستقوي بتدخل القوى الأجنبية والإقليمية. ü يعرج المحبوب، من ثم، على المفاصلة وأسبابها التي يعيدها إلى خروج طائفة من الإسلاميين ترفض أخذ الناس بالقوة والعنف على رأسهم الأمين العام للحركة (حسن الترابي) حين تمحور الصراع حول القضايا الأصولية الكبرى ، وفي مقدمتها «بسط الحريات العامة»، حرية التنظيم والتعبير والحكم الاتحادي لينتخب شعب الولاية حكامه ونوابه في المجالس التشريعية المحلية بالاضافة إلى احترام العهود والمواثيق- في اشارة «لاتفاقية الخرطوم»- التي وقعها النظام مع المنشقين عن الحركة الشعبية. في ذلك الوقت رفضت فيه غالب قيادة الدولة والحزب هذه التوجهات مستعصمة بتراث «السياسة الشرعية» لفقهاء السلطان ذي القوة والشوكة كما اوضح المحبوب. ü يذهب المحبوب في حلقته الثالثة أيضاً، ليؤكد على بعض العظات والعبر المستخلصة من صراعات الإسلاميين السودانيين وخلافاتهم، وفي مقدمتها أن «الحرية أصل من أصول الدين» وكبتها- يقول قبضها- لا يُورث إلا النفاق والفساد. وليؤكد على روح التسامح السودانية التي استقبل بها المعارضون قادة «المؤتمر الشعبي» وزعيمهم الترابي، برغم علمهم المسبق بدورهم في ما حاق بهم من محن وجراحات واضطهاد، متجاوزين الماضي بالعفو والصفح والتطلع إلى المصالحة، ما سهل على قادة المؤتمر الشعبي التقدم نحو «الطرف الأبعد في الصراع الممتد» والتحالف مع خصومهم السابقين. وفي هذا يورد المحبوب واقعة مذكرة التفاهم بين «المؤتمر الشعبي والحركة الشعبية» بقيادة جون قرنق (2002م) التي صدمت مشاعر المراقبين، ورأى فيها المحبوب فتحاً جديداً وتعبيراً عن نضج ظل يتقدم ويتسع ويثمر علاقة طيبة بين الإسلاميين وبين مكونات الساحة السياسية السودانية الأخرى. ü جذرية النقد الفكري والسياسي للمحبوب، تؤكد رسوخ قدمه في الاستنارة المتجاوزة لمناهج وأطر الإسلاميين التقليديين الضيقة، وهي جذرية تمتح من منابع التسامح الصافية لبيئة التدين الصوفي السوداني المتقبل للآخر بكل اخطائه وخطاياه وزلاته لأجل الأخذ بيده والسير معه نحو الخلاص والتطهر، لكن يبقى صوت المحبوب خافتاً ومبحوحاً وهو يردد العظات والعبر وسط أمواج متلاطمة من الزاعقين بالتطرف والتكفير، ظاهراً ورياءً، المستبطنين لمصالحهم في التمكين والانفراد والاقصاء أو أولئك المؤمنين حقاً «بفقه السلطان ذي الشوكه».. وأخشى عليه من ذات نتائج المواجهة التي جرت بين المستشار حسن الهضيبي وسيد قطب بمستشفى السجن، التي انتهت بتقوية حلف المتشددين الذي استشرى وتوالد حتى انتهى ب«القاعدة» واضرابها التي انتشرت خلاياها «الناشطة والنائمة» في كل ربوع المعمورة. ü ومع هذا فإننا- كما المحبوب- نعول على أثر البيئة السودانية السمحة والمعتدلة التي ترطب أجواءها أذكار أهل الله الصالحين برغم هجيرها الغائظ وشموسها اللاهبة.