أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    شمس الدين كباشي يصل الفاو    لجنة تسييرية وكارثة جداوية؟!!    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    المريخ يتدرب بالصالة    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    ياسر عبدالرحمن العطا: يجب مواجهة طموحات دول الشر والمرتزقة العرب في الشتات – شاهد الفيديو    وزارة الخارجية القطرية: نعرب عن قلقنا البالغ من زيادة التصعيد في محيط مدينة الفاشر    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    المؤسس.. وقرار اكتشاف واستخراج الثروة المعدنية    البيان الختامي لملتقى البركل لتحالف حماية دارفور    الداخلية السودانية: سيذهب فريق مكون من المرور للنيجر لاستعادة هذه المسروقات    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يتفقد شرطة محلية كوستي والقسم الأوسط    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    تجارة المعاداة للسامية    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    سوق العبيد الرقمية!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبد العزيز حسين الصاوى : حوارات حول ( الديموقراطية- الاستنارة ) مالها وماعليها
نشر في حريات يوم 23 - 11 - 2014


مع د. حيدر ابرهيم علي و ابو بكر عبد الله ادم
( 1 ) د.حيدر ابراهبم
" الديموقراطية السودانية :المفهوم، التاريخ ، الممارسه،نوفمبر 2013،مركز الدراسات السودانيه ومبادرة الاصلاح العربي"،عنوان كتاب ضخم مبني ومعني أفسح فيه مؤلفه د. حيدر ابراهيم مكانا لبعض الافكار والكتابات العائدة الي صاحب هذا التعليق ( ص 136- 148 ) ضمن تغطيته الشاملة للموضوع. هذه مساحة قد تكون اوسع مما تستحقه المواد المعنية، ولكنها تدل علي ان صاحب المقالات النارية حول الشئون السياسية اليومية أحيانا هو في المقام الاول باحث من طراز رفيع المستوي بدالة عثوره علي تلك المواد وسط الكثير الاهم مما يستحق التغطيه فعلا . أما الاكثر دلالة ، و اللافت للانتباه حقا، فهو نفضه غبار الاهمال عن معلومات تاريخية لها دلالة معاصرة في غاية الاهمية لكونها وثيقة الصلة بقضية قضايانا الراهنه: المركز والاطراف .. يتعلق الامر في هذا الخصوص بشخصية حسين شريف رئيس تحرير جريدة الحضارة/حضارة السودانأوائل القرن الماضي التي تحضر في الذهن العام الان كممثل للعنصرية العربسلاميه، المصطلح الرائج بفضل قوةالدفع التي اكتسبها من التيار السياسي- الفكري الذي صاغه ، بينما تعيد المعلومات المشار اليها تشكيل صورته في الاتجاه المعاكس تماما:أول من استخدم كلمة " ديموقراطيه" وصاحب أفكار يمكن تفسيرها كأرهاص لتأسيس الديموقراطية المستدامة في التربة السودانية من خلال علاقة التفاعل غير الاندماجي مع التجربة الغربية. فلو قدر لهذه الافكاران تتأصل في حياتنا لما اضحت ( ديموقراطيتنا) جسر عبور من شمولية لاخريتبددت معها فرص التنمية وتوزيعها العادل طبقيا و اقاليميا، مما حتم نشوء قضية القضايا بالحرمان الاستثنائي في المناطق المعروفه ( للتفاصيل انظر مقالي بعنوان " إعادة اكتشاف حسين شريف " مارس، 2014) . لو لم يكن هناك سبب اخر غير هذا، فأن اهمية هذا الكتاب، حتي للاكاديميين والطلاب المتخصصين في العلوم السياسية والاجتماعية، تغدو جلية ناهيك عن العاملين في الحقل العام مفكرين وناشطين.
لعل اندراج كتابات صاحب هذا التعليق بنفس المنحي الذي أومأت اليه افكار حسين شريف، مستفيدا منخزين الافكار والنظريات والمعلومات الهائلة التي تراكمت خلال مايناهز القرن الفاصل بين الاثنين ، هي التي حدت بروح الباحث، المفكر في الان نفسه، لدي دكتورحيدرابراهيم لتسليط الاضواء عليها . فهو يقدم عرضا مركزا وسليما لمضمون هذه الكتابات حول موضوع الديموقراطية باعتبارها قائمة في جوهرها علي العلاقة العضوية بين الديموقراطية والتنوير/ الاستنارة كما انتجتها التجربة الاوروبية وكيفية إعادة انتاجها بخصائص الواقع السوداني المختلف زمانا ومكانا من خلال التعليم والمجتمع المدني ، وتتخلل ذلك وتتبعه مجموعة من انتقاداته وتساؤلاته حول الاساسيات وبعض النقاط الأقل اهمية.
في مفتتح العرض ترد الفقرة التالية : " من الواضح الارتباط الوثيق بين الديمقراطية والاستنارة حسب التجربة الاوروبية.أما في السودان،فيري الكاتب أنه بتأثير التفاعلمع مخرجات التعليم الحديث بعد الاحتلال البريطاني اواخر القرن التاسع عشر،انبثقت ارهاصات عصر التنوير والعقلانية السودانية منذ عشرينيات القرن الماضي مرسية أولي لبنات البنية التحتية للديموقراطية وممارسات عملية من خلال مجموعات القراءة في ابوروف ومجلة الفجر والجهد الفردي لشخصية مثل معاوية محمد نور،اتخذت هذه الارهاصات شكلا أدبيا وثقافيا وسياسيا غير مباشر ثم تطورت لقيام مؤتمر الخريجين والاحزاب السياسية،وظهور الفنون والآداب والعلوم العصرية".
في نقده لهذه الرؤية يقلل د. حيدر ابراهيم من استحقاق تقييم النشاطات المعنية لصفة " ارهاصات التنوير " قائلا : " الصاوي كان شديد الكرم في توصيف عصرالتنوير السوداني وكذلك التفاؤل لدرجة تجعل تحليله اقرب الي الرغائبي " . متحدثا من موقع تخصصه الاكاديمي في علم الاجتماع وبناء علي قدر من التحليلمما يدخل في باب العلاقة بين المجتمع والسياسة ( علم الاجتماع السياسي )، يعزو الباحث- المفكر الي غياب الدولة المركزية والمجتمع المستقر، حقيقة ان السودان لم ينجب مفكرين وفلاسفه وان اغلب مثقفيه هم في الحقيقه ادباء، بينما الاستثناء الوحيد ، معاويه محمد نور، كان جزء من المشهد الثقافي المصري وليس السوداني. يمكن ان اضيف مايؤكد ذلك من واقع حصيلة جهد بحثي محدود تحضيرا لمساهمتي في الكتاب الجماعي الخاص بأكتوبر ( 50 عاما علي ثورة اكتوبر،صفحة 217-234 ) ، ان الحجم الكمي للقوي الحديثه المنوط بها مهمة التنوير لم تتجاوز 4.5% من مجموع القوي العامله غداة الاستقلال كما ان حداثة عهدها بالخروج عن التركيبة التقليدية للمجتمع تعني ان نوعيتها كانت محدوده بنفس الدرجه.
اتفق مع القول بأن السودان لم ينجب مفكرين وفلاسفه حينذاك وإن كنت اعتبر تصنيف المؤلف،عن د.حمدنا الله عبد الله، لمعاوية محمد نور باعتباره منتميا الي المجال الثقافي المصري دون السوداني، مفتقرا للدقه لكون المجالين الثقافي المصري والسوداني ينتميان الي مجال الثقافة العربية، فالنخب السودانية كانت قادرة علي التفاعل معه حتي ولم يكن بنفس مستوي تفاعل معاويه التشاركي. هناك تحفظ ممكن ايضا فيما يتعلق بحجة تأثير الواقع الاجتماعي وعدم الاستقرار حيث يثور في ذهني غير المتخصص السؤال التالي : هل يمكن تعميم القول بحالة عدم الاستقرار تفسيرا لعدم نشوء بؤر تنويريه، إذا تذكرنا الاستقرار التاريخي السوداني علي ضفاف النيل الذي شكل تربة خصبة لحضارات قديمه؟ هذه واحده، والثانية والاهم ، هي : إذا قبلنا حجة وحقيقة توفر شرط البيئات الحضرية والمدينية العريقه كتفسير لنشوء التنوير الاوروبي وانعدامه في السودان لانعدامها، ألا تصح الاشارة الى أنه كانت هناك مرحلة ماقبل – مدينية وحضرية في اوروبا ايضا مثل السودان ومع ذلك لم تمنع نشوء تلك البؤر؟ ربما الاسلم، علي هذا الاساس، القول بأن مرور اوروبا بعصر التنوير ( الثورة الصناعيه، الاصلاح الديني الخ.. الخ.. ) هو السبب الاول، بما يجعل نشوء المدن والدولة المركزية سببا ايضا ولكنه ثانوي. النظر الي الموضوع من هذه الزاوية مفيد ايضا عندما نفكر في كيفية الخروج من دوامة فشل التأسيس الديموقراطي المزمنة والمدمرة لانه يركز انتباهنا البحثي والتطبيقي علي الاصل وليس الفرع.
مؤدي القول ، علي أساس شقي هذه الملاحظة حول خلفية الواقع التاريخي – الاجتماعي، ان من الممكن الاتفاق مع انتقادات د.حيدر ابراهيم لاستنتاجاتي والاختلاف الجزئي معها. يؤكد هذا التقدير انه لااختلاف بيننا بأن الحكم حول مدي توفر رصيد فكر استناري خلال العشرينات – الثلاثينيات ينبغي ان يأخذ في الاعتبار حقيقة ان النخب المنتجة له ، وهم المتعلمون ،طليعة مجموعة القوي الحديثة في القطاعات الاقتصادية والادارية التي نشات تلبية لمتطلبات الاستعمار، لم يكن عددهم يتجاوز في أعلي مستوياته، وهو كلية غرودن التذكارية، عدة مئات من خريجي تعليم هو ، إلى ذلك، اقرب للثانوي منه للجامعي. كما يمكن توسيع دائرة الاتفاق إذا لاحظنا ان الفقرات التي يوردها المؤلف من كتاباتي حول هذا الموضوع، وفي سائر كتاباتي، تستخدم عبارات مثل "بذور " و" إرهاصات " ومترادفاتها عند الاشارة الي الممكنات التنويرية .
إذا وضعنا مثقفي ذلك الزمان في هذا السياق التاريخي السوداني وأخذنا في الاعتبار ان جوهر تعريف التنويربمقتضياته هو قابلية الانفتاح علي الجديد من الافكار، وليس الغوص في اعماق الفلسفات بشكل منهجي وواسع كما حدث في اوروبا، فأن من الممكن تخفيف حكم د.حيدر ابراهيم دون الغائه كلية بمعني انه كانت هناك إشارات واضحة علي وجود شخصيات تنطبق عليها عباراته المتصلة بتعريفه للتنوير : " يضيفون افكارا جديدة وتساؤلات العقل تجاه الطبيعة والانسان متجاوزين الادب الي الفكر والفلسفة ويعرفوت لغات اخري غير العربيه " . بشئ من التجاوز يمكن هنا إدراج أسماء مثل الامين علي مدني في كتابه ( اعراس ومآتم ) وحمزه الملك طمبل في كتابه ( الادب السوداني ومايجب ان يكون عليه )، ابتدرت توجهات في التجديد الشعري والنقد الادبي والاجتماعي والقضايا الفكريه، مختلفة عن السائد وقتها ولكن لم يقدر لها نضوج اكثر لوفاة الاول في العشرينات من عمره وتوقف الثاني عن الكتابة. فضلا عن ان الادب ليس مفصولا تماما عن الفكر ومن نماذجه السودانية احدي قصص معاويه بعنوان ( إيمان ) التي يطرح من خلالها مبدأ الشك المنهجي الديكارتي وكذلك الامر بالنسبة للشعر حيث نجد في قصيدة ( الصوفي المعذب ) للتجاني يوسف بشير وغيرها نظرات فلسفية، وكلاهما ايضا انقطعت امكانية تبلور انتاجهما الفكري والفلسفي المباشر وغير المباشر بالوفاة المبكرة ( معاوية35 عاما والتجاني 25 عاما ). ليس من قبيل التعسف، والحال هذه فيما يتعلق بالعمر الزمني لهذه الشخصيات الاربعة، ترجيح إمكانية إنتاج أفكار وتساؤلات منتمية الي الصيغة السودانية للتنوير كانت قابلة للنضوج ومضاهاة العربي والاوروبي لو توفر الشرط الاهم لذلك، كما سنناقش أدناه.
مهما كانت درجة ميلي الى ترجيح احتمال وجود قدر أكبر من التنوير بالمقارنة لما يفهم من اراء د. حيدر ابراهيم الا انني، كما يلاحظ فيمقاله، اعتبر المحرك الرئيسي لعجلة التنوير هو الديموقراطية نفسها. في اوروبا كانت الاخيرة الابنة الشرعية للاولي بينما عندنا : " ارتهنت عملية نضوج هذه الشروط ( الاستنارة والعقلانية ) باستدامة النظام الديموقراطي لكونه الوسيلة الوحيدة للتعويض عن انعدامها بتأمين جو الحرية اللازم لازدهار الابداع المادي والمعنوي والتفاعل المفتوح مع الخارج وتراكم خبرات الاجيال المتعاقبه " .هذه الفقرة المستلة من كتابي (الديموقراطية المستحيلة )توحي فعلا، كما يقرر المؤلف ، بدائرية المحاججة. ولكن الامر قد يختلف قليلا إذا نظرنا اليها علي ضوء اعتبارين، الاول : ان تشخيص هذه الدائرية هو في حد ذاته إنجاز ما لانه يدلنا، ربما لاول مرة في زعمي، علي العمق المؤسس لمعضلة الديموقراطية المزمنة بعمر الاستقلال، والتي مامن وسيلة للمضي نحو تفكيكها دون ذلك. والثاني ان الكتاب المشار اليه وكذلك كتاباتي الاخري، وبعضها مجموعة في كتابي ( ديموقراطية بلا استناره ) تذهب ابعد من التشخيص طارحة أفكارا حول كيفية كسر تلك الحلقة المفرغة لإيقاف دوران الحلقة المتفرعة عنها بين الحكومات الانقلابية والمنتخبة، عند الاخيرة. والواقع ان الكتاب الاول يترجم تلك الافكار الى إطار تخطيطي لتطوير حركة المعارضة نحو هذا الهدف محوره استيعاب هدفي التعليم والمجتمع المدني فيها، لكونهما مسارين متفاعلين نحو التنمية الاستنارية. فتاريخ الحداثة/ الاستنارة مهما كان حظنا منها، هو تاريخ تأسيس التعليم الحديث بينما المجتمع المدني، وفق دراسة حول الحركة الطلابية اعدها الاكاديمي محمد بشير حامد ( سودانايل،10 سبتمبر 2014 ، )، " جزء لايتجزأ من الشروط اللازمة لوجود النظام الديموقراطي وصلاحه، أو التمهيد لنشأته إن لم يكن موجودا بالفعل."
من المفاهيم التي تجد اهتماما خاصا ومشكورا بصورة خاصة من د. حيدر ابراهيم في تناوله للمادة المنسوبة لي ، مفهوم "التراجع او الارتداد التحديثي " لكون " النظريات والفلسفات تقوم علي المفاهيم concepts والمصطلحات كناقلة للافكار ومحددة لمعانيها في كلمات قليله " . وفي الجزء الاخير من المقال موضع النقاش هنا يتابع بدقته المعهودة مظاهر وتوصيفات هذه الحالة كما وردت في الكتابين المذكورين سابقا وفي كراسة أقدم تاريخا بعنوان ( الديموقراطية والهوية وتحديات الازمة السودانية، 2004 ) معتبرا ان نقطة التحول التي قادت للارتداد التحديثي هي : " حين تبنت القوي الحديثة ثقافة القوي التي يفترض ان تحل محلها مثل القابليه للاستجابة للخطاب الديني الخام والطقوسي ( … وان ) العوامل الرئيسية للظاهرة التي اكتملت خلال الحقبة المايوية هي : ذوبان الطبقة الوسطي،الحامل الاجتماعي لعملية التحديث،التوسع الافقي للمنظومة التعليمية علي حساب نوعية التعليم ثم ترييف المدن تحت وطأة الحروب الأهلية ( ….. و) الضغط الباهظ للمعايش اليومية وتداعياته علي السلوكيات الاخلاقية والاجتماعية حيث اصبح الدين ملاذا من مصير مظلم في الدنيا والآخرة ."وبينما يتلخص دور اليسار في تدهور اوضاعنا الي هذا الحضيض بضعف المكون الديموقراطي السياسي في ايديولوجيته وممارساته خلال فترة صعوده في اكتوبر، واصلت مايو، عملية استنزاف الرصيد الديموقراطي-الاستناري. " وكان من الطبيعي أن يؤدي استفراد عناصر الاسلام السياسي بالسلطة الي مضاعفة تأثير عوامل التراجع(الديموستناري) بتصاعد الحرب الاهلية في الجنوب ،وتفاقم الأزمة الاقتصادية وازدياد البطالة".
في تقييمه للمسارين المقترحين ، علي ضوء هذه الخلفية، في تفكيك ظاهرة التراجع التحديثي كمدخل لتأسيس الديموقراطية، يقر د.حيدر ابراهيم بالعلاقة العضوية بين إصلاح النظام التعليمي وتوليد الاستناره كترياق مضاد للظاهره ولكنه يعتبره مهمة صعبة نظرا لعملية الهيمنة الممنهجة للاسلامويين وسلطتهم علي النظام التعليمي. اما فيما يتعلق بمسار تشكيلات المجتمع المدني كهدف ووسيله لتحقيق هدف الاصلاح التعليمي، فأنه يشكك بحسم في جدواها : " فقد صارت عبئا علي الحركة الديموقراطية ( … ) اتخذ كثيرون من المنظمات وسيلىة للارتزاق (..كما إنها ) مزروعة من الخارج ولذلك عجزت عن التوطين والتبيئه ".
مع التأمين علي سلامة هذين المأخذين، يمكن المجادلة بشأن إمكانية حدوث إصلاح تعليمي محدود حتي في ظل النظام الراهن بالاشارة الي التنازلات التي قدمتها السلطة خلال العامين الاخيرين فيما يتصل بتعديلات المنهج والسلم التعليمي وتدريس اللغة الانجليزية. ولايلومن احد من مدعي الاهتمام بأمر التعليم، ومنتسبو المعارضة السياسية جميعهم علي رأس هؤلاء، إلا نفسه علي القصور الواضح في تطبيق هذه القرارات لان مصدرها الاساسي، أي فيما عدا الجهود المشكورة لبعض الهيئات الطوعية، بلوغ تدهور التعليم درجة يستحيل معها الدفاع عنه حتي من قبل اشد الناس حماسا للسلطه. وقد سبق لي إثبات وجود ضغوط من الدوائر المحيطة بالنظام حول هذا الامر ( مقالان في كتاب الديموقراطية المستحيلة، ص 129-139 خلال اكتوبر 2007 ) ولكن حتي بافتراض عدم وجودها: أليس التركيز علي بث الوعي بالعلاقة بين التعليم والديموقراطية المستدامة منذ الان ضربا من اصلاحه إذ يعني ذلك إنه عندما يحل نظام أفضل، سيكون المناخ مهيئا حينئذ للتنفيذ الناجز، ومن ذلك إلزام كافة الحكومات بأولويته ؟
أما بشأن المجتمع المدني فأن من الممكن الانسراب الي تحفظ حول الاقرار بسلامة المأخذ من ثغرة تفتحها كلمة ( كثيرون ) في الفقره المعنية لكونها تعني ان ممارسات الاسترزاق ليست شاملة بل ان بعض هذه الاستثناءات، مثل مركز الدراسات السودانيه، لها دلالة هامة حول مدي فعالية نشاطات المجتمع المدني بأثرها التنويري والسياسي غير المباشر لان اضطرار المركز الانتقال الي القاهرة جاء نتيجة بلوغ ضيق السلطات بنشاطاته حدا اقصي. من ناحية اخري فأن من الضروري التمييز بين دافع الاسترزاق المجرد لدي البعض في اختيارهم العمل بحقل المجتمع المدني، ودور المحفزات المالية المشروعه وغيرها كعامل إضافي لدي اخرين في ظل المحدودية البالغة لفرص العمل. كما إن من المنطقي توقع ارتفاع درجة انتشار وتعمق ثقافة المجتمع المدني، الخطوة الاهم نحو التبيئة والتوطين، نظرا لطول عهد الساحة السودانية النسبي الان بهذه النوعية من النشاطات والمجادلات المستعرة بشأنها، بما في ذلك فضائح الاسترزاق، إلى جانب اتساع نطاق الاحتكاك بالخارج، بينما يمكن بالملاحظة الشخصية المجردة الاستدلال علي انها تشهد ازدهارا ملحوظا. وبحكم الاهتمام بقطاعي التعليم والثقافه لاتصالهما بالمشاغل الفكريه، فان عدد الهيئات العاملة في حقل التعليم يزداد باستمرار ( تعليم بلا حدود، عديل المدارس،اسبقية التعليم الخ.. الخ.. ) بينما بلغ نجاح فكرة " مفروش " الثقافية المعروفة اول ثلاثاء من كل شهر، حداً اصبح معه ارتيادها معاناة، وإن كانت ممتعة، بسبب التضخم المتزايد للحشود.اما الاهم ،في تقديري، بهذا الخصوص فهو افتتاح مكتبات لتسليف الكتب بجهد خاص، وقد تعاملت واتعامل مع اثنتين منها في الخرطوم بحري وامدرمان مباشرة، دعما بكتب انجليزية مبسطه قدر ماتسمح الاحوال، ولدي معلومات مؤكدة عن ثالثة في الخرطوم .
الخلاصة : يجدر التنبيه هنا الي ان مجئ عرض مؤلف الكتاب لنتاجاتي ذات الطابع الفكري في سياق عمل موسوعي للتأريخ لتاريخ الديموقراطية السودانية عموما، يجعل تناول انتقاداته بالنقاش منطويا علي قدر من الظلم له لان الطبيعة المَسْحِّية للسياق لاتتطلب منه العمق والتركيز في عرض ارائه الخاصة بهذه النتاجات او غيرها، كما هو الحال بالنسبة لتفاعلي الحواري معها لكونه محصورا في هذا الهدف. من هنا فأن القيمة الحقيقية لهذه الملاحظات حول ملاحظات د. حيدر ابراهيم ليست في صحتها ان صحت، وانما في صدورها في مجال تحاور مع مثقف واكاديمي قيادي الوزن، لانها بذلك ادعي لاثارة انتباه من هم اكثر تأهيلا مني للخوض في هذا الفصل من الفكر السياسي السوداني تحت عنوان
"العلاقة بين الديموقراطية والاستناره " والمفتقر حقا الي اهتمام أمثال هؤلاء. كما يتعين علي القول- الاعتراف بأنني أتحرك في هذا المجال ، لاشعوريا إن لم يكن شعوريا، متماهيا مع مقولة فيلسوف القرن الثامن عشرالفرنسي فولتير بشأن قضية الاله بما معناه لو لم يكن موجودا لوجب اختراعه، فلو لم يكن التنوير السوداني ( المحدود ) موجودا، كما توحي بعض ملاحظات مؤلف الكتاب، لوجب اختراعه..
/////
( 2 ) أبو بكر عبد الله ادم
محاولة متأخرة أكثر من عامين للتحاور مع دراسة الاستاذ ابو بكر عبد لله ادم لكتابي " في الفكر السياسي السوداني، ديموقراطية بلا استناره " بعنوان " في سبيل الديموستناره، قراءه في كتاب ….. مجرد الاهتمام بالكتاب امر يستحق التقدير، والاعتذار من جانبي علي التأخير، لكونه نادرا بمستوي الشمول والعمق التي اقترن بها في هذه الحالة، ويتضاعف التقدير والاعتذار لكون كاتب الدراسة شاب في زمن انصرف فيه مجايلوه الي اهتمامات بعيدة جدا عن الثقافة والفكر في غالبهم الاعم. في مثل هذا السياق يكون مؤلف الكتاب هو الخاسر الاكبرلانه يهدر فرصة تنشيط وإغناء مخزونه الثقافي بالتفاعل مع مادة غنية.
الدراسة المكونة من 24 صفحه مضمنة في مخطوطة الجزء الثاني من الكتاب المودعة لدي مركز عبد الكريم الثقافي الذي صدر عنه الجزء الاول.وبما انها لم تنشر علي نطاق واسع، إضافة لمضي الزمن،فأن هذه الملاحظات الحوارية معها ستقوم علي ايراد مقتطفات من القسم الاساسي منها،الذي يشكل نصف حجم الدراسة تقريبا، وهو المتعلق بمناقشة ماتضمنه قسمها الاول من تلخيص مستوف للكتاب تحت العناوين التاليه : أولا جذور الازمة الاجتماعيه ( المرتكزات الاجتماعية للسلطة الظلامية،المسببات الاساسية للازمه )، ثانيا الديموستناره كميكانيزم لتفكيك السلطة الظلاميه ( نحو عصر تنوير سوداني، الاستراتيجية والبرنامج " اهداف البرنامج والاستراتيجيه،روافع الاستراتيجيه،ملاحظات نقديه" ). يمكن لمن يرغب في الاستزادة من محتوي الكتاب الرجوع اليه أو إلىالكتاب المكمل المعنون " الديموقراطية المستحيلة، معا نحو عصر تنوير سوداني ".
القوي التقليدية، الاسلام الرسمي والمهديه
" لان طائفة ألأنصار حققت مشروعها السياسى باحتضان القبلية دون تذويبها فى اطار ولائها الأوسع, فقد تداخلت وتعايشت ولاءات ثلاث فى اطار الدولة المهدية (قبلى وطائفى وامّوى،نسبة للامة الاسلاميه). وهذه الولاءات بمرتكزاتها الأجتماعية وعقلياتها كانت وراء مختلف العمليات والرهانات السياسية التى تجرى منذ أكثر من قرن، وحتى الان لم ينفك العقل السياسى السودانى من تأثير هذه الولاءات المتعارضة والمتعايشة فيه ( ……..) وهى ولاءات تتعايش فى كل القوى السياسية التقليدية التى اكتست اطارا حزبية حديثا.( …….. ) المهم فى الحقبة المهدية التى كانت القوى التقليدية تلعب فيها دورا رائدا كان الوزن النسبى لهذه الولاءات يتغير حسب شروط المرحلة, فالولاء الطائفى كان المتغير الحاسم فى مرحلة النقاء الثورى والتأسيس للمهدية ( ….. ) غير ان الغياب المبكر لمؤسس الدولة وشراسة الهجمات الاستعمارية على افريقيا بعد مؤتمر برلين أديا الى تراجع الولاء الطائفى لصالح الروابط القبلية الاكثر رجعية( …… ) واستخدام المهدى لفكرة الأنتساب لال البيت الذى قوى من فرصه وشرعيته كأمام شريف هو ما اعطى للثورة المهدية بعدا عربيا وكان سببا ونتيجة لاندراجها وتأثرها بحركات الأصلاح الدينى التى ظهرت فى القرن التاسع عشر واتخذت عمقا قوميا واسلاميا واضحا . فالحركة المهدية من هذا المنظور ربما يمكن النظر اليها كجزء من حركة النهضة العربية فى مصر والشام سواء من حيث اصول فكرها او اهدافها السياسية او حتى قواعدها البشرية . وهذا التوجه القومى للحركة المهدية أدخل رافدا اخر للعقل السياسى السودانى ( …. ) .بمعنى أن العقل السودانى سيبقى معنيا بقضايا محيطه العربى ومقيدا بالنظام الفكرى السائد فيه ."
ملاحظات نقاشيه
هناكبالفعل، كما توحي الدراسة،أساس لاعتبار الكيانات الطائفية مرحلة اعلي من القبليه لان العلاقات التي تنشأ بين قبائل متعدده في اطار طائفي واحد ( التعارف المتبادل، ووحدة الصيغة الصوفية المعينة للعقيدة الدينية ) تذيب خطوط التمايز القبلية الي حد ما. علي ان سر الردة نحو القبلية، في افتراق عن تفسير الدراسة، يكمن بصورة أساسية في إن عملية التذويب لم تكن ناتج عملية تحديث للبني المادية مترافقة مع تحديث البنية الثقافية/ الذهنية، لذلك لم تكن عميقة بدرجة تمنعحدوث الردة حتي في وجود المهدي.كانت ستتأخر قليلا بحضوره وتحد ث بصورة اكثر تدرجا مماحدث، ولكنها كانت حتمية.كما ان المواجهة مع العدو الخارجي كانت ادعي لتمتين الترابط القبلي داخل الطائفة وفي اطر اوسع منها اي بين الطوائف ايضا، لو ارتبطت العلاقة في حيز الطوائف بالتحديث.ماتسجله الفقرة عن ظاهرة التراجع نحو القبلية في القرن ال21 تؤكد صحة هذا التفسير بعكس الانطباع الاول لان مرد ذلك هو مجموعة الظروف التي خلقت المفارقة بين ارتفاع درجة التحديث الذي شهدته البنية التحتية المادية، لاسيما بالمقارنة للحقبة المهدوية، والتراجع المريع في مستوي الوعي العام حتي وسط النخب المدينية، اي في البنية العقلية/ الثقافية، باعتبارها موئل التحديث الحقيقي الايل للحداثه. نتيجة وقوع البلاد تحت سيطرة الانظمة الشمولية طوال فترة مابعد الاستقلال تقريبا، تحققت عملية تحديث لبعض جوانب الحياة المادية وفي الوقت عينه، وباتجاه معاكس، عملية إبطال لأثرها الحداثي بتعطيل ملكة التفكير النقدي المستقل ( تنمية غير بشريه ).
في الجزء الاخر من الفقرة يرد الكاتبتقيد السودان بالنظام الفكري السائد في المحيط العربي الي اندماجه فيه، بناء علي مؤشرات معينة . بذلكاجد نفسي مدينا للاستاذ ابو بكر ايضا بتمكيني من شرح تطور طرأ علي رؤيتي بهذا الصدد كما وردت في الدراسة المعنونة " الابعاد العربية للثورة المهدية ( كتاب " الثورة المهدية مشروع رؤية جديدة، 1987)" فيما يتعلق بأدراج الثورة المهدية ضمن حركات النهضة العربية في مصر والشام مفادها ان هذا الاندراج كان زمنيا وليس مضمونيا.فالواقع ان الثورة المهدية تنتمي اليزمن ثقافي متأخر كثيرا عن الزمن الثقافي لهاتين المنطقتين، مايجعلها اقرب للنموذج الليبي السنوسي. فمصر تعرضت لتأثيرات اوروبية تنويرية مباشرة منذ الحملة الفرنسية في اواخر القرن التامن عشر وبعدها من خلال اصلاحات عهدمحمد عليفي النصف الاول من القرن اللاحق بحيث شهدت عصر نهضة في الفترة المتزامنة مع الثورة المهدية تروج لمفاهيم متصلةبالاجتهاد الاسلامي وحول حقوق المرأة والتعليم ونظام الحكم بقيادة شخصيات مثل محمد عبده والافغاني وقاسم امين تتجاوز كثيرا مفاهيم وسياساتالثورة المهدية رغم التعاطف المسجل بينهما، لان البيئة السودانية لم تتعرض الي تأثيرات نهضوية.علما بأن البيئة المشرقية، بالوزن المسيحي العددي والثقافي، الاكبر فيها، تعرضت الي نفس التأثيرات والتفاعلات النهضوية التي تعرضت لها البيئة المصرية .
الاستعمار والقوي الحديثة
في هذا الجزء تتطرق الدراسة في سياق تحاورها مع الكتاب الي موضوع مصادر وعي القوي الحديثة مسجلة اختلافا مع تحليله الذي يعزو هذا المصدر الي التأثير التحديثي للحقبة الاستعمارية بينما تعزوها الدراسة الي اكثر من مصدر علي النحو التالي : " فالاستعمار قد قام بتحديث البنيات الأجتماعية والسياسية والاقتصادية لضروراته الذاتية, ولكنه مع ذلك كان غير مستعد للقبول بالنتائج المنطقية لعملية التحديث. فالتحديث افرز فئات اجتماعية حديثة غير ان وعيها الديمقراطى هو نتاج لعوامل اكثر تعقيدا من المدخل التحديثى الذى انبنت عليه اطروحة الصاوى. فهو من جهة نتاج تصادمها مع الوعى التقليدى بعد تحالف القبلية والطائفية ومن جهة ثانية نتاج الصراع مع الاستعمار وحلفائه من القوى التقليدية من اجل التحرر . كما انه ايضا نتاج للتفاعل مع حركات التحرر الوطني المصرية والتحولات الدولية. بمعنى اخر ان التحديث الاستعمارى وفر دعائم الديموستنارة من تعليم حديث ومهن عصرية واحتكاك مع الخارج (…). ولكن هذه الدعائم لم تكن كافية لتفجير وعى ديموستنارى ( ديموقراطي – استناري ) قادر على خلق تيار وثقافة جديدة بالرغم من ومضات مضيئة ظهرت فى عشرينات القرن الماضى من خلال منتديات وخطابات القوى الحديثة (…) ووصل لحد رفع "مطالب الشعب السودانى" وتفجير ثورة اللواء ألأبيض عام 1924. ان انحسار هذه القوى وتراجعها منذ السبعينات لم يكن نتاج الزلزال الاقتصادى والاجتماعى والسياسى الذى تحدث عنه الصاوى واوردناه فى الجزء الأول، بقدر ما هو نتاج لضعف تكوينها الذاتى الذى كشفة الزلزال. فالقوى الحديثة بفئاتها المختلفة لم تستوعب مقولات الاستنارة وتتمثلها للدرجة التى تجعلها قوى تغيير جذرى فى المجتمع لانها كانت وما زالت تعتمد على القوى التقليدية. ولذلك اصبح عقلها مشبعا بمقولات الخطاب التقليدى الذى كشفنا بعض جوابه سابقا."
ملاحظات نقاشيه
في التعاطي مع هذا التفسير يمكن القول بأن هناك درجة من استناد عوامل الصراع مع القوي التقليدية ومع الاستعمار ومن التفاعل مع الحركة الوطنية المصرية،علي عامل التحديث الناتج عن إفرازات الحقبة الاستعمارية في مجالات التعليم وغيره، مايجعلهامصادر ثانوية بالمقارنة للاخير فيما يتعلق بأطلاق تأثيراتهما. بمعني ان الصراع والتفاعل ماكانا ليحدثان لولاالوجود المسبق للقوي التي احدثتهما. القول بأولوية التأثير الاستعماري بالمقارنة للعوامل الثلاثة الاخري لاينفي، مع ذلك، الاتفاق مع الاستاذ ابو بكر في رأيه بضعف الوعي الديموقرطي والاستناري للقوي الحديثة، مع عدم مشاركته الرأي بسريان مفعول تداخلها مع القوي التقليدية حتي السبعينيات تفسيرا لتراجع مستواه. ماحدث وفقا لرؤية الكتاب ومؤلفه إن هذا المفعول كان قد ضعف كثيرا كما اثبتت ثورة اكتوبر 64 حين اضطرت هذه القوي الي التدخل العنفي لاسقاط حكومة الثورة وحل الحزب الشيوعي. لذلك فأن للتراجع سببا اخر هو الزلزال الاقتصادي الاجتماعي المشار إليه، إلى جانب عوامل أخري مثل تدني جاذبية التيارات الفكرية والسياسية العلمانية بعد هزيمة نموذجها الناصري الابرز في حرب 67 .
الاستنارة ومعوقات النظام الفكري السائد
في هذاالجزء من الدراسة ينطلق الكاتب من أوللة عامل علاقة القوي الحديثة بالقوي التقليدية قبل وقوع الصراع بينهما نتيجة التحالف القبلي- الطائفي، ليشخص معضلة ضعف وعيها الاستناري علي النحو التالي : " ان القوى الحديثة التى تشكلت فى السنوات الأولى من الحقبة ألأستعمارية لم تتمكن من خلق قطيعة مع العقل التقليدى بأفقه الدينى الفقهى او تصفية الحساب مع ركام التصورات والفعاليات الذهنية التقليدية القبلية والطائفية. فالنظام الفكرى التقليدى الذى كان سائدا كعقل مكوّن بالمعنى الذى يعطيه له اندريه لالاند هو الذى كان وما زال يوجه القوى الحديثة وليس التصورات الاستنارية التى اتت مع الاستعمار. واغفال هذا الجانب فى تحليل الأزمة فوت على الكاتب اداة تحليلية هامة لكيفية تشكل العقل السياسى للنخب السودانية وتشيكل الياته فى انتاج خطاباته. والنظام المعرفى فى ثقافة ما-كما يقول الجابرى- هو بنيتها اللاشعورية التى تشكل لدى المنتميين لهذه الثقافة اللا شعور المعرفى الذى يوجه,بكيفية لا شعورية رؤاهم الفكرية والاخلاقية ونظرتهم لانفسهم وغيرهم. هذا اللاشعور المعرفى له زمنه الخاص وهو زمن متداخل ومتموج يمتد على شكل لولبى الشئ الذى يجعل مراحل ثقافية مختلفة تتعايش فى نفس الفكر وبالتالى فى نفس البنية العقلية ( ….. ) يمكن لتصورات او معتقدات او مفاهيم تنتمى الى مراحل سابقة ان تعيش فى مرحلة تالية مع مفاهيم جديدة لتشكل الهوية الثقافية للمرحلة الجديدة، حيث ان الافق الابستمى او النظام الفكرى الذى كان وما زال سائدا يخلق شروطا تعجيزية فى انتاج فكر تنويرى ( …… ). فالنظام المعرفى الذى يعبر عن البنية الفوقية للتحولات الاجتماعية التى تابعناها سابقا كانت منذ بدايات القرن المنصرم وحتى الان تتعايش فيه تصورات طائفية وقبلية وسلفية جنبا الى جنب مع الافكار التنويرية وهو ما جعل عقل القوى الحديثة ليس عقلا حديثا بل هو عقل تقليدى مغلف ومطعم بمفاهيم ( ….. ) افرزتها حقب ثقافية وتاريخية سابقة ( …… ) " هذا ما يمكن ملاحظته بتحليل مؤتمر الخريجين وانشقاقاته وتحالف بعض رموزه مع الطائفية وكما يمكن تأكيده من استمرارية الاحزاب الطائفية (الحديثة) كاهم فواعل الحقل السياسى السودانى. و هذا ايضا ما يفسر قدرة الخطاب الاسلامى الخام علي استقطاب قطاعات واسعة وسط النخب المتعلمة (…. ….. ) ان تكوين عقلية الفئات الحديثة ونخبها هو المسبب الرئيسى للأزمة ولا يمكن الخروج منها الا بكشف العقدة الذهنية وحلها. دخول السودان دوامة الأزمات ليس كما يرى الصاوى نتاج لتعطل دور النخبة التطويرى للمجتمع نتيجة استنزاف وقودها التنويرى( ص326 ) بل ان النخبة السياسية لم تتمكن اصلا من امتلاك عقل مستنير يقطع مع التقليد والسلفية الدينية ( ….. ) "
ملاحظات نقاشيه
هذاالتشخيص الذييفّصل معني علاقة القوي الحديثة بالتقليدية بناء علي مقولات وأبحاث المفكر المفكر المغربي المعروف محمد عابد الجابري، يشكل العمود الفقري للدراسة، ويمكن تناوله نقديا من زاويتين احداهما مستعارة والثانية غير ذلك. فالمعروف ان مقولات الجابري وحتي مصادره، بما فيها لالاند، التي يستند اليها التشخيص، تعرضت الي نقد جذري من المفكر السوري جورج طربيشي في سلسلة من المؤلفات. وسواء صحت هذه الانتقادات او لم تصح فأن الاعتراض الاخر الممكن علي التشخيص انه يقوم علي افتراضسكونية تكوين العقل،أو علي الاقل تعايش الحديث والتقليدي فيه بشكل دائم، وانعدام قابليته للتطور اعتمادا علي نوعية المؤثرات التي يتعرض لها عبر الزمن، مما يلغي ايضا دور الارادة البشرية في التغيير. هنا ايضا لانختلف مع الكاتب في الخلاصة المتعلقة بضعف مستوي الوعي الديموستناري ولكننا نلاحظ ان التكوين العقلي للقوي الحديثة تحرر بخطوات متزايدة من مؤثرات الاطر التقليدية علي طريق التحرر الكلي منها، او علي الاصح الرجحان الحاسم للحديث علي التقليدي فيه. اما التعايش بين مؤثرات النمطين فأنه، وفق هذه الرؤية، مرحلة وليس وضعا دائما.. مع الاقرار بأن من الممكن رجحان التقليدي علي الحديثولكن في الحالتين ينتفي عنصر الديمومة بمعني ان ظروفا محددة قابلة للتغيير هي التي تتسبب في التطورات ايا كانت طبيعتها او اتجاهها. وإذا كان في الاقرار بصحة المعلومة التاريخية الي وردت في الفقرة عن انشقاقات مؤتمر الخريجين وتحالف لعض رموزه مع الطائفيه واستمرار التأثير السياسي للاخيره حتي الان، مايسند وجهة نظر الكاتب حول عدم وقوع انقطاع معرفي بين القوي الحديثة والتقليديه عموما، فأن في حقيقة نشوء حركات سياسية حديثه منبتة الصلة بالهياكل الموروثة، وهو ماينطبق حتي علي الحركة الاسلامي ناهيك عن اليسارية، ما يشكك في صحتها المطلقة.
حدود استراتيجية الصاوى
" ان الاستاذ الصاوى ( ….. ) مستعد لتقديم اى ثمن من اجل استعادة ديمقراطية راسخة ومتجذرة شعبيا. غير ان طبيعة هذا النظام (….. ) تمكنه من قبض الثمن بدون تقديم اى شى بالمقابل. ان مقاربة الصاوى لموضوعة التغيير تقوم على فرضية وجود دعائم اجتماعية قوية للنظام ولذلك صاغ خطابا اصلاحيا لا جذريا كما انه يسكت عن المعوقات التى تفرضها السلطة القائمة. وهى من جهة ثالثة تقوم على فرضية ان التحول الديمقراطى يمكن ان يتم بالتدريج عن طريق تنمية الوعى الديمقراطى فى ظل النظام الراهن. (…..) والصاوى يرى بصعوبة او استحالة ازالة النظام الراهن بالاعتماد على اساليب التغيير السابقة بسبب تغلغل السلطة الظلامية فى المجتمع. (…… إلا ان ذلك قابل للنقاش لان ) نفس البنى الاجتماعية المشوهه ونظامها الابستمى الذى وفر القاعدة للسلطة الظلامية المعتمدة على الدين الخام المشبعة بتصورات وقيم تقليدية، عادت بقوة الى الحقل السياسى ووفرت قاعدة لقوى معارضة (…. ) كما يظهر جليا فى الحركات المسلحة فى ارجاء البلاد الاربعه. ان قدرة هذه الحركات علي زعزعة سلطة النظام سياسيا واجتماعيا لا يمكن انكارها مما يعنى ان حيويتها الاستقطابية عالية. (……) وتعامل السلطة مع هذه الحركات بجدية اكبر من تعاملها مع القوى الديمقراطية السلمية يعبر عن درجة التهديد الذى يشعر به النظام. وفى ظل النسق المعرفى السائد لا غرابة ان تكون ابرز مهددات النظام هي حركة العدل والمساوة التى يتشكل خطابها من توليفة خطاب دينى خام ولاء قبلى ضيق وانغلاق جهوى واضح( ……..). ( إذا قبلنا ان النظام … ) متجذر اجتماعيا تصبح مقاربة الاصلاحية المعلنة للتغيير والتى تقوم اساسا على اصلاح التعليم وتنمية هيئات المجتمع المدنى عبر التعبئة العامة ( ….) مستحيله ( ……… ) قوة استراتيجة الصاوى وضعفها فى نفس الوقت هى انها استراتيجية مكشوفة تسمح لها من جهة بتحقيق بعض اهدافها التنويرية بمجرد الاعلان عنها ولكنها من جهة اخرى تنبه السلطات الى مصادر الخطر الاتى وتمكنها من استخدام كل ترساناتها الفكرية والسياسية لاجهاضها. هذا ومن جانب اخر ان عدم تورع النظام فى استخدام العنف بكل اشكاله يجعل اى محاولة لتغيير النظام من الداخل مهما كانت محدودة مغامرة ( ..) ان المقاربة الاصلاحية لتغيير النظام والتى يبدو ان معظم القوى السياسية قد ركنت اليها تؤدى فى النهاية الى شرعنة النظام legitimization لا تقويض شرعيته.صحيح ان هناك بعض التجارب الأصلاحية الناجحة فى العالم الثالث ولكن صحيح ايضا ان طبيعة الانظمة العقائدية تحول دون اى انفتاح سياسى سلمى يؤدى الى اضعافها"
ملاحظات نقاشيه
يبدو لي ان الفقرة الاولي من هذ الجزء يشوبها بعض التناقض فهي تبرهن علي عدم تجذر الطبيعة الظلامية لايديولوجية التدين الخام التي تتبناها السلطة، او مايدعوه الكاتب بالنظام الابستمي، في المجتمع بأيراد دليل علي وجوده هو مايتمثل في إشارته إلى ظهور حركات معارضة مسلحة تستقي من نفس الايديولوجيه، فلو لم يكن التجذر امرا واقعا بل ومتزايدا لما حدث ذلك. هذا من ناحية، ومن ناحية اخري ،ومع صحة القول بأضعاف هذه الحركات لقوة النظام المادية، إلا ان الملاحظ هو انتقال حالة تجذر الايديولوجية الى مرحلة اكثر خطورة وهي انتشار التيارات السلفية التكفيرية وغير التكفيرية. ومما يشدد علي صحة المحاججة المضادة لحجة الدراسة، ان هذا الانتشار يتم رغم ان الحركة المسلحة المعنية ( العدل والمساواه ) تخلت عن التوليفة الفكرية التي تتقاسمها مع النظام خلال الفترة اللاحقة لكتابة الدراسة في سياق انضمامها الي الجبهة الثورية بمواثيقها العلمانية التوجه.
علي هذا فان الاصلاحية ليست خيارا ، ومع مايعنيه ذلك من القول بأنها مفروضةبحكم الواقع، فأنها في حقيقة الامر الوسيلة الوحيدة لاحداث التغيير تحت اي ظرف، علي ذلك فأنها تغدو ثورية، إلا إذا كان للمصطلح الاخير معني اخر. يبدو لي، من ناحية اخري، إن التشكيك بسلامة استراتيجية التغيير القائمة علي ساقي التعليم والمجتمع المدني، وهي الموصوفة بالاصلاحيه ويمكن الاطلاع علي تفاصيلها في كتاب " الديموقراطية المستحيلة " المشاراليه في مفتتح هذا المقال، عائد الى سوء سمعة غير مستحقهلمصطلح ( الاصلاح ). يعود هذا بدوره الي أمرين اولهما إيحاء البطء الذي ينطوي عليه والثاني استخدامه في الاوساط العلمانية واليسارية كمضاد للثورية التي توحي بالسرعة والحسم، مع ان استراتيجية التغيير التدريجي إذا قامت علي تحليل سليم لحقيقة المعضلة هي الوحيدة التي تضمن جذرية الحصيلة النهائية وكذلك الاستخدام المنتج للزمن…هي في الواقع اختصار للزمن بينما البدائل إهدار له. وهي بهذا لاتتجاهل قدرات وخطط النظام التعويقية، حسب ماتقول الدراسة، بل العكس لان قيامها علي تشخيص مصدر قدراته الحقيقي وتحديد كيفية إضعافها يجعلها أكثر فعالية بمراحل سواء في مواجهة هذه الخطط أو في الازالة الكاملة للنظام، أي كتجسيد للشمولية وليس النسخة الانقاذية منها كما تفعل الاستراتيجية التقليدية المتبعة حاليا. فهذه تفتقر للفعالية علي الصعيدين لافتقارها الي التشخيص المذكور مما يمكن النظام من الاحتفاظ بقدراته التعويقية حتي إذا فقد سلطة الدولة ومن ثم تخريب المرحلةاللاحقة وتمهيد الارض للانقلاب التالي او، علي الارجح هذه المره، لانهيار هيكل البلاد بمجمله.
وفيم يتعلق بالفقرة التي تعود فيها الدراسة للاسهاب في موضوع التعويق أتصور، بعكس فحواها، إن الالتزام باستراتيجية للعمل المعارض، سواء اسميناها إصلاحية او ثورية، مشتقةٍمن الاطروحة السليمة حول المكامن الحقيقية لنشوء النظام واستمراره، يعني ان مرور الوقت لايعمل لصالحه مهما كانت استفادته من عنصر المعرفة المسبقة بها، بعكس الحال فيما يتعلق بأسلوب المعارضة الحالي كما تشهد 25 عاما من بقائه رغم سياساته الكارثية.وبالمناسبة استراتيجية المعارضة الحالية كانت مكشوفه أيضا مما يعني إن الامر متعلق بالفعالية وليس بالانكشاف او عدمه. كذلك الامر بالنسبة لحجة العقائدية فهذه تفقد فعاليتها في تقوية تماسك النظام لانها، كما هو الحال مع كافة الانظمة العقائدية اللاديموقراطيه، تخلي مكانها بمرور الوقت وافلاس سياساته للاحتفاظ المجرد بالسلطة طمعا في غنائمها أو/ و إتقاء لعقاب يستجره غيابها.
مهما استخدم النظام من اساليب خشنة او ناعمة لاجهاض مفعول الاستراتيجية الصحيحه فانه يخوض معركة خاسرة علي المدي الابعد لان سلامتها تعني في حد ذاتها، اي حتي قبل ان تثبت نجاعتهابصورة ملموسة للكافه، قدرتها علي استثارة قبول متزايد في اوساط النخب ذات الاهتمام الجدي بالعمل العام السياسي وغير السياسي لكونها تخاطب العقل وليس العاطفه المجردة. التاريخ يقول باستحالة هزيمة فكرة سليمه، للفكر حياته المستقلة عن حياة الذين ينتجونه او يعتنقونه وعن عوامل الفناء او الافناء التي قد تلحق بهم. ويعني ذلك من الناحية العملية إن هذه النوعية من النخب تشكل خميرة نشاطات فردية وجماعية متنوعة معظمها غير حزبي وغير سياسي بالمعني المباشر، لاسيما ناشطو المجتمع المدني، قابلة للنمو والانتشار حتي عندما تتخذ طابعا سياسيا حزبيا او غير حزبي، بما في ذلك المسلح. مصداق هذا التصور يمكن استنتاجه من حقيقة ان الاستراتيجية المغايره المتبعة منذ89 والقائمة علي فهم قاصر وتقليدي لاصل المعضلة، أدت الي تشرذم الاحزاب القديمة والجديدة نتيجة ضمور اهتمام الاوساط النخبوية، ومن ثم الشعبية، بالعمل العام كلية او انصرافها الي نشاطات متطرفه فيها من صدق العاطفة والاستعداد للتضحية اكثر من الفعالية في تنمية العمل المعارض. واخيرا، إذا سلمنا بان اساس الاستراتيجيةالفكري سليم، وهو مالايعترض عليه الاستاذ ابو بكر بقدر اعتراضه علي عدم تصنيفه وفق اطروحات الجابري، يضحي الالتزام بما يقتضيه من حيث خطط للعمل علي المديات الزمنية المختلفة حسب الاستراتيجية هو الخيار الوحيد غض النظر عن مدي صحة القول بتأثير انكشافها امام النظام علي فعاليتها. فالملاحظ في هذا الصدد إن التطور الذي طرأ علي العمل السوداني المعارض، علي اهميته بالمقارنة لما سبق، لازال قاصرا مفهوميا لانه يتعلق بأعداد برامج تفصيلية والاتفاق علي بعض قضايا الخلاف مثل الدين والدوله إذ تخلو من اي سياسات تركز علي تفكيك معضلة المعضلات وهي كيفية تنمية قوي ديموقراطية مستنيره، ضمانا وحيدا لعدم تكرار تجارب الانهيارات الماضية ولتنفيذ البرامج الموضوعه.
وأخيرا
يسبغ مفتتح الجزء الاخير من الدراسه أوصافا ايجابية علي مايسميه " مشروع الصاوي "، رغم تحفظاته عليه. والشاهد إنه حتي لو اقتنع قارئ هذا التداخل علي الدراسة بعدم صحة هذه التحفظات، تظل التسمية أوسع كثيرا من الموصوف والدليل الاوضح علي ذلك ان الكتاب المعني هو مجموعة مقالات وليس عملا فكريامنهجيا محيطا بمستوي يجعله مستقرا بارتياح في هذه التسمية. واقع الامر إن الدراسة هي التي تضفي علي الكتاب قدرا معينا من المنهجية، لانها عبارة عن إعادة تركيب لاجزاء متعددة تتلمس خطوطا مشتركة بينها. أقصي مايطمح اليه انتاج المؤلف أن يفتح الباب لنقاش يقدر له "ان يستقطب قطاعات المثقفين بمواردهم الفكرية المختلفة "، كما تقول الدراسة.
تتطرق الدراسة بعد ذلك الي مفهوم التنوير وتطوره في التجربة الاوروبية بما يضاهي في حصيلته، ضمن التجربة العربية، تحرير العقل العربي من النظام المعرفي الاسلامي الفقهي، حسب المقولة الجابرية. وسواء صحت هذه المقولة او لم تصح وفق ماشرح سابقا، فأن الاعتراض الذي يثيره الاستاذ ابوبكر علي استخدام مفهوم " استنارةالاسلاميين " في جهود تحرير العقل، ولو جزئيا، لتناقضه مع هذه المهمة فيما يتعلق بهم لكونهم تجسيدا للنظام الذي تشير اليه المقولة، يعني في الواقع استحالة تغيير خيارات الانسان الفكرية حتي لو توفر لديه الاستعدادوالحوافز علي ذلك. فالمفهوم المشار اليه، وأثار انزعاجا لدي أصدقاء صاحبه الفكريين والسياسيين، يتلخص في ان قطاع النخبة السودانية الاسلامية التوجه اتيحت له ظروف افضل كثيرا من الظروف التي اتيحت لمجايليهم من غير الاسلاميين بحكم توفر قدر من الثروة، ثم لاحقا السلطة، اكبر بما لايقاس مما أتيح للاخرينوخلال فترة تجاوزت الثلاثة عقود. ومن الطبيعي ان فرص التعليم الجيد والمهن الحديثة والانفتاح علي العالم الخارجي التي ترتبط بمثل هذه الظروف يتبعها اتساع نسبي أكبر بنفس المقدار في افاق المعرفة والمقدرة علي إعمال الطاقة الفكرية نقديا تجاه اي قضية بما في ذلك معالجة النصوص الدينية والاسس الفكرية والسياسية التي يقوم عليها النظام الراهن. قد يصح القول بان تحرر عقل الاسلاميين عملية اكثر تعقيدا من تحرر عقل العلمانيين حتي مع توفر هذه المزايا، بالنظر الي قوة تأثير الدين في تشكيل عقل الانسان، ولكن الذهاب مع الدراسة الي ابعد من ذلك للقول باستحالته تماما غير ممكن لانه يفترض ان قناعات الانسان، حتي إذا قبلنا مقولة النظام المعرفي الجابرية، موروثات جينية لاإرادة له في تغييرها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.