معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    محمد وداعة: الجنجويدي التشادى .. الأمين الدودو خاطري    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    شركة توزيع الكهرباء تعتذر عن القطوعات وتناشد بالترشيد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    بايدن يعين"ليز جراندي" مبعوثة للشؤون الإنسانية في الشرق الأوسط    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في كتاب "في الفكر السياسى، ديموقراطية بلا استنارة " .. بقلم: أبو بكر عبد الله ادم
نشر في سودانيل يوم 21 - 02 - 2013


في سبيل الديموستناره ( الديموقراطية- الاستناره )
1-3
تقديم:
لابد من التنويه ابتداء بأن هذه الدراسة حول كتاب الأستاذ عبد العزيز حسين الصاوى ( محمد بشير أحمد ) الصادر عن مركز عبد الكريم ميرغني الثقافياعدت قبل عامين ( نوفمبر 2010 ) بينما صدر الكتاب نفسه في يناير من نفس العام متضمنا مقالات نشرت قبل عام 2009 كما تفيد إشارة المؤلف التقديمية. للاطلاع علي صياغة متكاملة للاستراتيجية السياسية في مواجهة النظام يمكن الرجوع لكتاب الاستاذ الصاوي الصادر مؤخرا عن دار عزه بعنوان : الديموقراطية المستحيلة، نحو عصر تنوير سوداني.
يضم الكتاب موضوع هذه الدراسة مجموعة من المقالات الصحفية التى نشرت خلال العشر سنوات الأخيرة، يغطي موضوعات عديدة تتناول قضايا دولية واقليمية وعربية وسودانية, بجانب موضوعات تسلط الأضواء على ادوار شخصيات عربية وغير عربية (بيتر هولت, معاوية محمد نور، بشير الداعوق وغيرهم). رغم اتساع القضايا التى يناقشها الكتاب فى أكثر من ثمانين مقالا إلا انها جميعا تدوربتناسق كبير حول قطبين محوريين هما الديمقراطية والأستنارة. ان مفهومى الديمقراطية والأستنارةاللذان تم تكثيف دلالتهما بنحت مفهوم " الديموستنارة " هما المنظوروالمعيار لتحليل وتقويم نجاعة العمليات والخطابات والرهانات السياسية, سواء تعلق الأمر بسياسات شافيزبفنزويلا , تقريرى الحزبين الشيوعيين العراقى والسودانى الأخيريين ,عمليات الفصائل الفلسطينية او غيرها . هذا ما منح موضوعات الكتاب درجة عالية من الوحدة والأنتظام فى خطاب سياسى وفلسفى حول ( الديموستنارة ) بالرغم من تباين القضايا وفضاءاتها الفكرية والسوسيوسياسية والجغرافية. مع ذلك يمكن القول ان إشكالية الديمقراطية والاستنارة فى السودان شكلت بؤرة هذا القطب الجاذب ولذلك حظيت بالأهتمام الاوفر. وبتحليله المعمق للمسببات القاعدية لأزمة الديمقراطية فى السودان تبدت للكاتب الجذور المشتركة لهذه المسببات فى أقطار اخري مثل العراق وموريتانيا وباكستان, مما مكنه من استكشاف ارضية لاجراء مقارنات اعطت قيمة اضافية لمقاربته لأزمة ( الديموستنارة ) فى السودان من زاوية امكانية الاستفادة من نتائجها فى مجالات سياسية اخرى.
بالنظر لمركزية موضوع الديموستنارة فى السودان داخل الكتاب ووحدة المنهج فى مقاربة الكاتب للموضوعات الاخري المرتبطة بها ولضرورات عملية ومنهجية, تنحصر هذه الدراسه فى عرض تشخيص الكاتب لمسببات ازمة الديمقراطية ومعوقات استنباتها راهنا في التربة السودانية من جهة . ومن جهة ثانية عرض اطروحتة "نحو عصر تنوير سودانى" التى اثارت اهتماما كبيرا كأحد المخارج الممكنة والعمليةلاعادة تأسيس وسودنة الأرث الديمقراطى. وذلك قبل تقديم بعض الملاحظات النقدية حول الكتاب ومنهج الكاتب واستنتاجاته فى الجزء الأخير من هذه الورقة.
فى البدء لا بد من إبداء ملاحظتين اساستين كمداخل لمعالجة الصاوي لموضوع الديمواستنارة:
أولا يجب التنبيه الى ان مفهوم الديمقراطية التى يعتمد عليها الكاتب فى تحليله هو الديمقراطية السياسية. الأستاذ عبد العزيز حسين الصاوي , الذي يعتبر من أعمدة اليسار السوداني واحد مؤسسي حركة الأشتراكيين العرب التى انبثق عنها حزب البعث فى السودان, قد حسم فى هذا الكتاب بوضوح انحيازه للديمقراطية السياسية على حساب الديمقراطية الاجتماعية, علي الاقل من زاوية اهميتها فى ترسيخ الوعي الديمقراطى فى المرحلة الراهنة. فهو يقول : " لقد ثبت نهائيا الآن وحتى اشعار تاريخى اخر أن الديمقراطية السياسية هى محرك التغيير وان رافعتها هى الطبقة الوسطى" ( ص 56) بل انه يدعم هذا فى موضع آخر بقوله : "الان تغيرت التوجهات فعلا وأصبح الألتزام بالديمقراطية السياسية صادقا وصميميا لدي الجميع بعد ان ساد وتوطد الادراك بأنه لبّ الأزمة نتيجة تجارب محلية وعربية وعالمية واضحة المغزى." رغم ان الكتاب-ربما لكونه مجموعة مقالات نشرت فى الصحف السودانية- لا يتناول مفهوم الديمقراطية السياسية أو الأجتماعية بالتحليل, الا ان الكاتب كنتيجة منطقية لألتزامه بالديمقراطية السياسية, يرىان تركيز القوى الحديثة علي الديمقراطية الاجتماعية على حساب السياسية وترويجها للنماذج السلطوية العربية وغير العربية التى تجسد هذا الفهم قد ساهم كثيرا في تعطيل نمو الوعى الديمقراطى والأستنارى. ليس هناك فى الحقيقة سوى ديمقراطية واحدة -يقول الصاوى-هى الديمقراطية الليبرالية, تتلون فى تفاصيلها وربما مراحل تطبيقها من بلد لآخر ولكنها فى الجوهر نظام يقوم على الحرية وله اسس وقواعد رئيسية واحدة ومعروفة"(ص160)
ُثانيا فى مقاربته لأزمة الديمقراطية فى السودان, لا يعتمد الصاوى على دور الفاعلين السياسيين ورهاناتهم كمحددات رئيسية لأزمتها بل انه يري بانها نتاج مباشر لبنية المجتمع السوداني وتحولاتها التي افرزت ما اسماه ب"ظاهرة انكسار قوة الدفع التحديثي فيه". فهو يري ان العقبة الاساسية امام التحول الديمقراطي تكمن في المجتمع والشروط التي يفرضها الواقع الموضوعي الراهن التي فشل العقل السياسي السوداني في ادراكه وادراك الطبيعة المحددة لتأثيره واولوية هذ التأثير في سياقه الزماني والمكاني المعين . صعوبات التأسيس الديمقراطى السودانى عند الصاوى تعدت كونها أزمة أحزاب أو تدخلات عسكرية لتصبح ازمة مجتمع غير محفز للتنمية الديمقراطية( ص117). وبالتالي بدلا عن البحث عن أمصال معالجة هذه المعضلة في القيادات والاحزاب ونواياها او توجهاتها ورهاناتها يرى الصاوي ضرورة البحث في المجتمع ومستوي الوعي العام فيه( ص27). لان الديمقراطية ليست مجموعة مكونات حكم وانما اسلوب حياة وطريق تفكير وسلوك (ص23) ,وهي بذلك ليست منتجا جاهزا, وانما هى عمليةProcess ومسيرة,هى تكوين ذهنى وشعورى يستزرع إستزراعا ويستنبت إستنباتا لدى الأفراد والجماعات (ص30). ومن هنا انبنى مشروع استراتيجيته لحل العقدة الاجتماعية التي جعلت الديمقراطية عصية علي التحقق على دعوته لعصر تنوير سودانى جديد. ومن هنا يتبدى الترابط الموضوعى فى طرح الصاوى بين الديمقراطية والاستنارة للدرجة التى يمكن فيها احلال احدهما مكان الاخر.
أولا جذور ألأزمة الديمقراطية :
على عكس التحليلات السائدة حول ضعف النظام الحالى وان مصدر قوته الوحيد هو استخدامه المفرط للعنف والترهيب, يرى الصاوى بان وجود النظام واستمراريته ليس فقط لأحتكاره العنف المنظم وغير المنظم بل ان سلطته تستند بقدر اكبر الى قاعدة اجتماعية حية افرزتها طبيعة التطورات الاجتماعية خلال الاربعة عقود المنصرمة. "فالمواقع الأهم لسلطة الأسلاميين تغلغلت فى مكونات المجتمع نفسه وليس سلطة الدولة فقط. بهذا اضحت مستقلة عنها الى حد او آخر ولن تزول بالضرورة بزوالها, بل انها قد تشكل اساسا موضوعيا يعيد انتاجه ( ص312). فالنظام الحالى ليس مجرد دكتاتورية ولا حتى صاحب مشروع سياسى –فكري متكامل فقط, وانما مشروع ذي قاعدة نخبوية وشعبية ديناميكية, كونه كان مركز جذب للقوى الحديثة/التقليدية لعقدين من الزمان تقريبا قبل القفز للسلطة, لان حالة المجتمع, للمفارقة, جعلت الاسلاميين بانواعهم المختلفة التيار السياسى الوحيد النامى ابتداءّ من الجبهة القومية الأسلامية ثم, بعد بداية تصاعدها التنظيمى أواخر التسعينات, الأسلاميون الأخرون." والسؤال الذى يقفز الى الذهن هنا لماذا يتمتع النظام الديكتاتورى الراهن بقاعدة اجتماعية ديناميكية رغم لا شرعيته السياسية وفقره الفكرى والأخلاقى؟
أ‌- المرتكزات الأجتماعية للسلطة الظلامية فى السودان
لتفسير قدرة السلطة الظلامية الراهنه علي جذب دعم شعبى ونخبوي, يقدم الصاوى تحليلا للتحولات الاجتماعية والسياسيةوالاقتصادية التى ولدت هذه القدرة كنتيجة مباشرة لتشويه البنية الأجتماعية, "للدرجة التى اصبحت فيها وسطاً ناقلا للشمولية وليس مجرد مستجيب لأطروحاتها وعقليتها". ويقوم هذا التحليل على استقصاء العلاقة الجدلية بين البنية الأجتماعية لقوي الريف بعقليتها الجماعية مقابل القوى الحضرية الحديثة ولكن الصاوى لا يقوم بضبط هذين البنيتين مفهوميا بشكل كاف مكتفيا بتوضيح طبيعتهما العامة والعقليات التى تتحكم فى سلوكهما وتصوغ مفاهيمها وتصوراتها. ومن اجل تعميق النقاش الذى ابتدره الكاتب سوف تقوم هذه الورقة بتقديم رؤية مفصلة حول هذين المفهومين فى الجزء الثالث منها بالاعتماد على مقاربة تاريخية لكشف جذور تشكلاتها ودورهما فى صياغة الروئ السياسية فى سودان اليوم.
الفئات الأجتماعية الريفية : " التى تقوم على روابط جهوية قبلية او دينية تقليدية, صوفية او سلفية"لم تحظى بقدر كاف من التوضيح فى الكتاب. بصفة عامة يمكن القول بانها تلك التى تقوم علاقات افرادها على روابط القرابة والدين وهى تتسم بعقلية جماعية ونسق قيم تنتمى لحقب تاريخية سابقة لا تنسجم مع قيم الحداثة والديمقراطية. والعقلية التى تعكس هذه البنية بأبعادها الأسطورية مشبعة بمفاهيم وتصورات ميتافيزيقية واسطورية تجعلها : "ذات استعداد عالي للتجاوب مع الخطاب الديني الخام المعادي للأستنارة سياسيا كان أو اجتماعيا او ثقافيا " . اما القوى الأجتماعية الحديثة فيعرفها الصاوى بأنها الفئات " الواقعة بين الطبقات الاجتماعية التقليدية والاستقراطية والطبقات الشعبيه، التى افرزتها عملية التحديث النسبى فى عشرينات القرن الماضى من خلال النظام التعليمى الحديث الذى أدخله الأستعمار ". وهى تتكون من "مجموعات المتعلمين وعموما الفئات التى ارتبطت حياتها بالمدن مباشرة أو بطريقة غير مباشرة أو بوسائل الأنتاج المستحدثة, والذين تأثروا بالعالم الخارجى الأكثر تقدما (ص15)). هذه القوى الحضرية المدينية الذي يقوم تعريفها على روابط لا تقوم بالضرورة على الطبقة او القومية او الوعى بهما, شكلت الكتلة التاريخية محركة التطور, بما فى ذلك انشاء الأحزاب وإدامة حيويتها التجديدية ومعها الديمقراطية بركائزها المختلفة.
ويرصد الصاوى تطور العلاقة بين هاتين البنيتين الأجتماعيتين ويقول : " كان للعقل الجماعي الريفي, بقيمه وقواه ,دورا قياديا فكريا وسياسيا خلال المرحلة المهدية قبل ان يبدأ في الأضمحلال مع أفول هذه المرحلة ليفسح المجال لتصاعد دور البيئة الحضرية وقواها الأجتماعية والسياسية وتياراتها الفكرية ليدخل السودان العصر الحديث في كافة مجالات الحياة, من العلوم الطبيعية الي الشعر الحديث، مرورا بالأقتصاد وتطور الفكر والتنظيم السياسيين. هذا الدخول كان متعثرا احيانا وبطيئا احيانا أخري. ولكن الخط البياني للنهضوية السودانية كان علي العموم متصاعدا حتى حوالي النصف الأخير من الحقبة المايوية النميرية (1969-1985)" التي : " احدثت زلزالا في المجتمع السوداني ادي الي تراجع هذا الخط لأول مرة منذ العشرينات" وبالنتيجة اصبحت " الظاهرة الحاكمة لتطور اوضاع السودان (منذ ما يقارب ثلاثة عقود من الزمان) هي ان العقل الجماعي الحضري السوداني يعيش حالة غياب وغيبوبة شبه كاملة تتوصف بكونها تعكس استعداده العالي للتجاوب مع الخطاب الديني الخام المعادي للأستنارة سياسيا كان أو اجتماعيا او ثقافيا.... "
كما سنرى لاحقا فأن عملية التحديث الذى ادخله الوجود الاستعماري كان السبب فى نشوء القوى الحديثة فى عشرينيات القرن المنصرم بعقليتها الأستنارية التى تبدت فى تكوينات ثقافية وسياسة وعسكرية لعبت دورا اساسيا فى تشكيل المجال السياسى وفواعله. وقد اصطدمت هذه العقلية منذ نشأتها بالعقلية التقليدية وقواها الاجتماعية التى ادت الى اضعافها. والصاوى يري إنه رغم بعض الانحناءات فى المد التصاعدى للقوى الحديثة الا ان بداية انحسارها جاءت فى سبعينات القرن المنصرم بسبب زلزال اجتماعى. ولكن ما هو الزلزال الذى أدى الي تشويه البنية الحضرية,حاضنة الديمقراطية, وبالتالى ادى الى انحناء الخط التصاعدى للنهضوية وتراجع دور القوى الحضرية الحديثة وعقليتها لتفسح المجال للعقليات الريفية المضادة للاستنارة بقابليتها للخطاب الدينى الخام والشعوذة والغوغائية وغيرها ؟
ب‌- المسببات الأساسية للأزمة
بالرغم من ان الكاتب اشار فى أكثر من موضع فى الكتاب للمحددات الرئيسية والثانوية لتراجع دور القوى الحضرية ,حاضنة الديمقراطية, الا ان طبيعة هذه المحددات واوزانها النسبية وتوقيت بداية فعلها التدميري غيرواضحة , ذلك ربما بسبب التداخل الكبير والتاثير المتبادل بينها. ودون التقيد بأى ترتيب لهذه المحددات أو اغفال التداخل بينها يمكن تلخيصها بعبارات الصاوى فى:
1) الانهيار الأقتصادى: ان التوسع الكبير فى حجم القطاع الخاص صاحبه تدهور أقتصادي ومعيشي وصل حد المجاعة والحرب الأهلية ولكنه أيضا ركز الثروة القومية فى أقلية صغيرة منهياً الوجود الفعال للطبقة الوسطى وفى الوقت نفسه حول الريف المنتج اقتصاديا الى جيوش جرارة من النازحين نحو المدن(ص15) . وبالنتيجة اصبحت الطبقة الوسطى,الحامل الأجتماعى لأهم شرائح قوى التطور, مجرد شظايا نتيجة حتمية لانفتاح اقتصادى منفلت من أى ترشيد ديمقراطى واجتماعى (ص67).
2) ) تدهور نوعية التعليم: حيث ان التوسع الكبير فى المنظومة التعليمية صاحبه تفريغ كامل لمفعولها الأستنارى من مستوى رياض الأطفال الى فوق الجامعى فالتركيز على الكم التعليمى المفرغ من التدريب على التفكير النقدى المستقل وقابلية التجاوب مع الأستنارة والعقلانية, جعل من مؤسساته المتكاثرة حقولا خصبة لانتشار طرائق التفكير التبسيطية والأستظهارية. وتحولت المنظومة التعليمية الى آلة للحفظ والتلقين تستغل ايضا لحشو الأذهان بمادة دينية خام تطمس جوانب العقلانية فى الأسلام دينا وتراثا وتحوله الى أداة لقتل ملكة النقد والابداع والتفاعل مع الفكر الأنسانى (ص67)
3) الهجرات الريفية الكثيفة الى المدن: مجموعة الأنهيارات المتداخلة التي احدثتها المايوية ادت الي هجرة ريفية واسعة وعشوائية الي المراكز الحضرية وانهكت كافة الطبقات المجتمع السوداني نفسيا وذهنيا وحتي جسديا.
بالأضافة للمسببات القاعدية السابقة يورد الصاوى عوامل اخري ثانوية عديدة لعبت دورا تعقيديا فى ترسيخ الأزمة, منها التدخلات اللا ديمقراطية ,والتى منها الأنقلابية, التى قامت بغلق مجال الممارسة الديمقراطية لفترات طويلة حرمت ألأحزاب السودانية فرصة تطوير تركيبتها الفكرية والمؤسسية. كما ان الاحزاب ساهمت أيضا في خلق الشروط الموضوعية والذاتية المتناقضة مع النمو الديمقراطى بسبب ضعف الأساس الأجتماعي الحديث للحزبية السودانية التقليدية في حزبي الأتحادي والأمة وسيطرة ايدلوجيات اختصار المراحل علي بدائلها الشيوعية ثم البعثية (ص11).بالاضافة للخواص الأقصائية تجاه الأخر والانغلاقية على الذات التى تتسم بها معظم ألأحزاب السودانية "( ص46). كما ان تركيز النخب المثقفة الكلى على الديمقراطية الأجتماعية- كما تمت الأشارة أعلاه- أعجزها عن اكتشاف اهمية الديمقراطية السياسية( ص302) وساهمت بذلك فى تهيئة العقلية النخبوية لتقبل شمولية الاصولية الاسلامية عندما حان اوانها (ص312).
يمكن تلخيص النتيجة التى يتوصل اليها تحليل الازمة الديمقراطية من زاوية النظر الى العوامل المولدة لها فى محور اساسي هو اضمحلال الطبقة الوسطى /القوى الحضرية و غياب او تغييب عقلها الحداثى الذى يزود عملية الديموستنارة بقوة الدفع اللأزمة لسيرورتها, و بالنتيجة انكسرت قوة الدفع التحديثى و انحنى المد النهضوى واصبحت الوجهة العامة للتطور الساسى تتسم بالميل المضطرد والمتسارع للتوازن لمصلحة قوى المحافظة الريفية, كعقلية واسلوب حياة (ص 72 ).
و " بسيادة العقلية الريفية شعبيا ونخبويا تحول زمام الريادة الأجتماعية والسياسية والفكرية الى عقليات تخفى وراء حداثتها الشكلية نزوعات تقليدية غالبة , تتجلى أكثر ما تتجلى فى تجاوبها مع تفسيرات تقليدية للدين, بحكم الحاجة النفسية المتزايدة الي هذا النوع من التفسيرات لدي كافة قطاعات المجتمع, وانخفاض مستوي الأستنارة سودانيا وعربيا. وبذلك توفر الشرط الموضوعى لتقبل الخطاب الدينى الخام الذى ترتكز عليه السلطة الأسلاموية الحاكمة . وفى نفس الوقت كف المجتمع الحضرى منذ فترة عن كونه بيئة صالحة لأحتضان تيارات التقدم والأستنارة في شكلها السلمى ناهيك عن الشكل المسلح الأقدر على اثارة نوازع العنف السلطوى( ص178 ) . وهذا ما يفسر ضعف المعارضة وفشل حركات التغيير الجذرية مثل حركة حق وقوات التحالف السودانى فى استقطاب الدعم اللازم لازالة النظام.
من النتائج التى توصل اليها التحليل السابق, يبدوان امكانية نجاح اى عمل معارض فى ازالة النظام بعمل سياسى او غير سياسى ضئيلة ان لم نقل مستحيلة. وحتى اذا نجح فى ازالة النظام فان امكانية بناء بديل ديمقراطى مستقر معرضة للفشل. ان قناعة الصاوى بصعوبة التغيير الجذرى فى المرحلة الراهنة هى نتيجة : " تصحر الكتلة الحضرية التاريخية بمفعولها الأستنارى أو تبدل طبيعتها مما أدى لجفاف المنبع الذى يغذي نمو الاطر التنظيمية لقوى التغيير والدمقرطة للدرجة التى تمكنها من ازالة النظام اوتوفير الشروط اللازمة لحياة حزبية متطورة وتنمية تشكيلات المجتمع المدنى بانواعها المختلفة: (ص69). امام هذه النتيجة المرعبة كيف السبيل لآستعادة الديمقراطية؟
//////////
في سبيل الدموستنارة ( الديموقراطية- الاستنارة )
قراءة في كتاب " ديموقراطية بلا استنارة " لعبد العزيز الصاوي 2 - 3
أبو بكر عبد الله ادم
ملخص الجزء الاول
أوضح الجزء الاول رأي مؤلف الكتاب من أن وجود نظام الاسلاميين واستمراريته مردهما ليس فقط أحتكاره العنف المنظم وغير المنظم بل ان سلطته تستند بقدر اكبر الى قاعدة اجتماعية افرزتها طبيعة التطورات الاجتماعية خلال الاربعة عقود المنصرمة.حصيلة هذه التطوراتهي اضمحلال الوزن النوعي للقوي الحديثة صانعة التغيير والتقدم التي افرزتها عملية التحديث النسبي من خلال التغييرات التي أحدثها الوجود الاستعماري واهمها تأسيس النظام التعليمي الحديث والقطاعات الاقتصادية والخدمية العصريه. ويعود هذا الاضمحلال في عوامله الاساسية بدء من اواخر السبعينيات، الي تدهور الاقتصاد وماترتب عليه من ذوبان الطبقة الوسطي مع الهجرة الريفية الكثيفة للمراكز الحضرية ثم تدهور نوعية التعليم . وهذا مع عوامل ثانوية اخري ادي الي جفاف المنبع الذى يغذي نمو الاطر التنظيمية لقوى التغيير والدمقرطة للدرجة التى تمكنها من ازالة النظام اوتوفير الشروط اللازمة لحياة حزبية متطورة وتنمية تشكيلات المجتمع المدنى بانواعها المختلفة. امام هذا الوضع كيف السبيل لآستعادة الديمقراطية؟
___________
ثانيا: الديموستنارة كأوالية) ( mechanismلتفكيك السلطة الظلامية
بالرغم من ان تحليله للأزمة انتهي به للنتيجة السابقه, فان الصاوى لا يدعو للاستسلام للنظام ,بل انه على العكس يرسم سبيلا وعراً للوصول لديمقراطية قابلة للحياة والأستمرارية. وهو طريق يبدأ من نقطة استعادة الخصوبة للتربة الحضرية -حاضنة الديمقرطية كثقافة عامة ومؤسسات حزبية وغير حزبية- وينتهى بتفكيك تدريجى للبنى الاجتماعية الداعمة للسلطة الظلامية بطاقة الديموستنارة التى تولدها القوى الحديثة. فالصاوى يرى ان التركيز الكلى على انهاء السلطة الأنقلابية بالمواجهة العنيفة أو نظيرها السلمى, المقاطعة الكاملة, يتجاهل حقيقة انها بنية فوقية لأخرى تحتية هى عدم تجذر الوعى الديمقراطى فى المجتمع الذى يوفر البيئة الحاضنة لبذرة الأنقلابات. أنه تركيز على النتيجة دون السبب (ص30).
اذن مشروع الصاوى لاستعادة الديمقراطية فى السودان ينبنى علىاستراتيجة لتقويض البنية القاعدية للسلطة الظلامية بأعادة الحيوية لقوى المجتمع الحضرى السودانى. و"عملية استعادة حيوية هذه القوى معقدة ومتعددة الجبهات بقدر تعقيد مسبباتها, ولكن جوهرها هو اعادة تكوين العقلية المدينية السودانية, بحيث تستعيد ملكة التّفكير والتصرف المستقل والنقدى التى تحصنها ضد الفكر والسلوك التقليديين( ص63). ولا يكون ذلك الا بتدشين عصر تنوير سودانى يشق طريق العقلية للخروج بها من غياهب العصور الوسطى, كما حدث فى أوربا, لاستحالة الديمقراطية بدون ديمقراطيين وعقلانيين (ص23).
أ‌- نحو عصر تنوير سودانى: الحامل الأجتماعى للتنوير
خطاب التنوير والنهضة ليس جديدا على الفكر العربى الأسلامى فى مسعاه لتجاوز الانحطاط الذى تبدى بقوة مع صدمة اكتشاف الغرب. ولكن كيف السبيل لانتاج عصر تنوير سودانى و ما هى جذوره الوطنية وما هى درجة ارتباطه وقدرته للتفاعل مع تجربة التنوير التاريخية اوروبيا واسلاميا و عربيا ؟ من اين يبدأ المسلسل التنويرى السودانى وعلام يرتكز؟ هل هى دعوة للسير فى نفس المسلسل النهضوى الاوربى قبل أكثر من اربعمائة عام أم هى دعوة استيعاب مكتسبات الليبرالية اينما كان منبعها دون ان نعيش تجربتها؟ هل للتنوير الذى يدعو اليه جذور سودانية يمكن ان يقوم عليها؟ ما هي درجة الارتباط بين مشروع الصاوى و تيارات النهضة والليبرالية التى عرفها الوطن العربى والعالم الاسلامى ومنتجات روادها مثل محمد عبده و الأفغانى والطهطاوى والكواكبى وعلى عبد الرازق وطه حسين وسلامة موسى و قاسم امين و الحصرىو منيف الرزاز وغيرهم من ليبراليين واسلاميين وقوميين ؟
ان تفكيك خطاب الصاوى حول التنوير من خلال مقالات الكتاب التى تناولت هذا الموضوع من اكثر من جانب لا يمكننا من الاجابة على كل التساؤلات السابقة وغيرها الكثير غير انه يكشف لنا معالم الأجابة وبعض مقولاته حول التنوير. ما يدعو اليه الصاوى هو "عصر تنوير سودانى يستجيب الى خصوصيات واحتياجات محلية مستفيدا من عصر التنوير الأوربى وامتداداته الراهنه" ويكون المنفذ اليه تنمية الوعى الديمقراطى السياسى الذى ساهم تركيز النخب على الديمقراطية الاجتماعية على حسابه فى تعطيله كما اشرنا سابقا. و الأستنارة تعنى عند الصاوى "سيادة العقلانية والأنفتاح الذهنى والشعورى,موصولة بعصر التنوير الأوربى خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر بعموده الفقرى وهو الأصلاح الدينى (ص312). وهو ايضا : "التطور نحو اكتساب عقلية وعادات وسلوك حضرية مدينية بتأثير التعليم والمهن الحديثة والأنفتاح الذهنى والنفسى تجاه العالم الأكثر تقدما. وفى هذا السياق يتغلب لدى الفرد, ومن ثم المجاميع, الأنتماء للدولة والوطن على الأنتماء الأثنى والجهوى, وتأسيس قابلية للوعى بحقوقه وواجباته فى المجتمع ككل وهى جوهر العملية الديمقراطية(ص67 ).اذن التنوير الذى يسعى اليه الصاوى لا يكون بالقفز على الواقع بل انه يستجيب لخصوصيات محلية كما انه لا يقوم على استيراد نماذج أوروبية جاهزة يتم بعثها او اجترارها, بل انه يستفيد منها بهدف استزراع وعى ديمقراطى فى البيئة الحضرية السودانية.
يرجع الصاوى جذور الأستنارة سودانيا الى الحقبة الاستعمارية التى فتحت مدخلا " للتحديث الذىشمل البنى الأقتصادية والتعليمية والسياسية بصورة خاصة. فخلال المرحلة الاستعمارية " تشكلت القوى الحديثة كفئات اجتماعية لها مصالحها ورؤاها ومفاهيميها التنويرية المتعارضة مع الفئات التقليدية التى كانت فى الفترة المهدية وما قبلها تهيمن على المجال السياسى والاجتماعى فى السودان. وان تصاعد التحديث " المضطرد افقيا وراسيا بعد هذه المرحلة , كان متوقفا على تبيئة مفاهيم الأستنارة والعقلانية الغربية محليا باضطراد تصاعد الوزن القيادى للنخب غير التقليدية,لكونها أكثر انفتاحا وقادرة بالتالى على التفاعل الأيجابى والنقدى مع هذه المفاهيم,مما يتطلب تراكما للخبرات والمعارف شرطه الأساسى هو التنمية الديمقراطية كثقافة سياسية ونظام للحكم"( ص78). ويرد الصاوى العوامل التى ادت الي اضعاف هذا الشرط فى هذه المرحلة التمهيدية ,الى " فعل مصدرين متناقضين ولكنهما موحدى الحصيلة,هما استمرار النفوذ السياسى للنخب التقليدية الطائفية والميل المتزايد للحزبية غير الطائفية الى ايدولوجيات حرق المراحل ,ثم جاءت الأنقلابات العسكرية لتقوم بتبديد الرصيد الديمقراطى وتوليد عوامل استزراع آلية التراجع التحديثى بالحد من قدرة المجتمع, ممثلا فى قطاعاته الحضرية, على احتضان وتعظيم تيارات الأستنارة النهضوية"( ص78
من خلال هذا التحليل المكمل للعرض السابق حول جذور ألازمة الديمقراطية والتى قمنا بفصلها لضرورات منهجية, يظهر الترابط الموضوعى بين التحديث و الديمقراطية والأستنارة لوحدة حاملها الأجتماعى وهو الفئات غير التقليدية/الحديثة. فمع اختلال التوازن بين القوى الحديثة و التقليدية لصالح الاخيرة تراجع مد التنوير والوعى الديمقراطى . ومنذ السبعينات اصبحت البيئة الاجتماعية غير مواتية لهم حيث ان التراجع الديمقراطى يؤدى لتراجع تنويرى وبالعكس ." القدر المتحقق من (النهضة التنويرية) منذ عشرينات القرن الماضى تبخر كلية تقريبا الآن حتى اصبحت العقليات واساليب الحياة الفردية والجماعية المتفتحة ابتداء من اساليب الترفيه وحتى أكثر الأنشغالات جدية, جزرا معزولة فى بحر من التقليدية ذات القشرة العصرية"
اذن هذه الحالة السودانية البائسة تستدعى بشدة حركة اصلاح دينى تحدث ثورة علمية على مستوى بنية الفكر وتغيير جذرى فى النظام التعليمى كما حدث فى اوروبا والتى ادت بالنتيجة للانفكاك من الافق الابستمى القروسطى غير ان تباين التجربة التاريخية يحد من قيمتها الأقتدائية سودانيا مع ملاحظة انعمليات التحديث المحدودة فى ظل الحقبة الاستعمارية خلقت اطارات ثقافية وسياسية تحمل قيم الاستنارة ولكن هذه القيم لم تتغلغل كعقلية وسلوكيات فى المجتمع الذى كان وما زال مشبعا بقيم تقليدية ساهمت فى تعطيل الاستنارة.
فالسودان- يقول الصاوى- لم يقدر له توفير البيئة الملائمة لتنمية الديمقراطية عقلية وتصرفات تلقائية حتى بمقياس الحدود الضيقة التى شهدت فيها مصر ما يشبه عصر النهضة والتنوير". ويضيف " فى غياب هذا الشرط الموضوعى سودانيا اصبح الدور الأهم موكلاّ للارادة الذاتية ممثلة في المجموعة التى شكلت نواة ما عرف فى الفكر السياسى السودانى بمصطلح القوى الحديثة وارتبط نشوؤها بالحاجة الأستعمارية لادارة جهاز الدولة واستثمار موارد البلاد لمصلحتها "( ص313)
تدشين مسلسل التنوير سوف يعتمد على الارادة الذاتية للقوى الحديثة لكونها الاكثر تأهيلا للاضطلاع بهذا الدور باعتبارها : "الفئة الأجتماعية التى استفادت من عصر التنوير الاوروبى بامتداداته فى السودان من خلا التحديث الذى ادخله الأستعمار". وبأرادة هذه القوى يمكن تهيئة الارضية الملائمة لتوليد الديموستنارة والتى بدورها تعطيها قوة دفع فكري واجتماعى عن طريق التغذية الأسترجاعية. ويحدد الكاتب استراتيجية محددة المعالم عبرها فقط يمكن لهذه القوى تحقيق ذلك واعادة المشروع الديمقراطى. وتقوم الأستراتيجية من جهة على وقف تأثير الزلزال الذى دمر فئات الطبقة الوسطى وتعطيل مفعوله من خلال اصلاح النظام التعليمى وتفعيل المجتمع المدنى بتنميته. ولتحقيق هذين الهدفين واهداف التغيير الاخري تنبنى الاستراتيجية على حاملين اثنين هما التحالف مع الغرب من جهة وبعض الاسلاميين من جهة ثانية.
ب‌- نحو عصر تنوير سودانى: الأستراتيجية والبرنامج
أولا أهداف وبرنامج الأستراتيجية:
تقوم استراتيجية الصاوى على هدفين مركزيين متلازمين يجب ان تكون لهما الأولوية ضمن منظومة العمل المعارض و هما اصلاح النظام التعليمي وتنمية المجتمع المدنى:
فيما يتعلق بالهدف الأول يقول الصاوى : بما "ان المصدر الأساسى لتطور العقلية السودانية التقليدية نحو الحداثة ونشوء الكتلة التاريخية كان النظام التعليمى العصرى, فان أهم مدخل –بل المدخل الذى لا مدخل غيره لأستعادة هذه العقلية استناريا ومن ثم اعادة بناء قوى التغيير وأجوائها، هو اصلاح النظام التعليمى كمناهج ثم كمكونات اخرى للعملية التعليمية( انظر ص70 وص33 وص162). ولذلك يعطى الكاتب أولوية قصوى لهدف التركيز على المنظومة التعليمية كمحدد اساسى لأستراتيجية المجتمع المدنى السياسى الحزبى وغير السياسى تشتق منه كافة التكتيكات...(ص18). ان ما يركز عليه الكاتب فى هذه المرحلة هو اصلاح لا تغيير النظام التعليمى. وبالرغم من ان الكاتب يعترف بان " المدخل الأهم لمعالجة ازمة قوى التحضير والاستنارة هو التغيير الجذرى للمناهج التعليمية بكافة مستوياتها والبيئة التعليمية عموما" الا انه يرى ان ذلك غير ممكن حاليا لاختلال ميزان القوى لصالح السلطة الظلامية. واصلاح النظام التعليمى هو الوسيلة الممكنة لغرس بذور العقلانية الذى يمكن هذه القوى من تجاوز ازمتها بالعودة التدريجية للانتعاش بوتائر متزايدة. ويحدد الكاتب بتفصيل كيفية تحقيق الاصلاح التعليمى بتحويله لقضية رأى عام بابتكار وتنفيذ اساليب لنشر الوعى والتعبئة.
ولكن ما الثمن الذى على قوى التغيير دفعه حتى يسمح النظام بأدخال اصلاحات قد تؤدى الى زرع بذور الاستنارة التى تتعارض مع طبيعتها الظلامية وتفك قبضتها على المجتمع؟ الصاوى يرى ان : "الثمن سيكون تنازلات سياسية للحكومة القائمة,مقابل فك قبضتها على المنظومة التعليمية. وعلى الصعيد الخارجى سيكون تحالف ثقافي-سياسي مع الغرب الأمريكى والأوروبى (ص101)23).
اما الهدف الثانى فهو تنمية المجتمع المدنى اللا سياسى باعتباره المصدر الأساسى المتاح حاليا للتدريب العملى على السلوك والوعى الديمقراطيينلكونه" معهد تدريب على اهم مقومات البنية التحتية للوعى الديمقراطى, وهى استقلالية التفكير ومحاسبة القيادات " ص66 . ولانه "أقدر حاليا من الأحزاب على اجتذاب الجمهور العام, وعلى اتاحة الفرصة لعدد أكبر منه لممارسة الآنتخابات ومساءلة القيادات وغيرها من مقومات تنمية استقلآلية الرأى والعقلية النقدية, اساس الوعى الديمقراطى." ( ص 34) ويوضح الصاوى هذه النقطة بالقول : "كما هو الحال بالنسبة لهدف الاصلاح التعليمي فأن تحويل موضوع المجتمع المدني الي قضية رأي عام يقتضي أبتكار وتنفيذ مختلف الوسائل اللازمة لتنظيم حملة تثقيف وتعبئه فعاله للتعريف به والكيفية التي يؤدي بها دوره الحيوي بدء بكوادر المعارضه نفسها باعتبارهم رأس الحربه للحملة .
.يرى الصاوى ان شرط نجاح هذين الهدفين يكون فى "تسليمه لقوي المجتمع المدني ونزع اي صفة او تصرف يجعل منه جزء من المعركة السياسية ضد السلطه" وبنجاح البرنامج يتم اصلاح العطب الذى اصاب قوة الدفع التحديثى مما يولد قوة ضغط تتخذ على المستوى السياسى الصرف شكل حياة حزبية متطورة, وعلى المستوى غير السياسى تشكيلات المجتمع المدنى بانواعها المختلفة. و "بمرور الوقت المصحوب بعمل جاد ومثابر ومدروس ستتكاثر هيئات المجتمع المدني وتتحسن نوعيتها ويتعاظم الاثر الايجابي للطبيعة الاختيارية للروابط بين اعضائها في تطوير العقلية والسلوك، وهي تمارس نشاطها من خلال علاقة الاقناع والضغط مع الدوله كأجهزة بيروقراطيه و حزب حاكم وقياده رسميه حول المسألة التي تتبناها الهيئة المعينه. وبالرغم من لاسياسية هذه الهيئات فأن كون طبيعتها تنمي قابلية التفكير والتصرف الايجابي والمستقل توفر المناخ الملائم لانتاج نوعية راقية وفعاله من العضوية الحزبيه تعيد الاعتبار للعمل السياسي الحزبي في نظر الجمهور الواسع ومن ثم الاقبال عليه".
ثانيا: روافع الاستراتيجية:
وتحقيق البرنامج الاصلاحى باهدافه المحددة اعلاه يتطلب بالاضافة للتعبئة العامة رافعة خارجية هى التحالف الثقافى –السياسى مع الغرب الاوربى الأمريكى ورافعة داخلية هى التعامل مع النخب الأسلامية كمصدر لتوليد استنارى. ومن التأثير المشترك لفعل هاتين الرافعتين ستتولد الدفعة الاولى اللازمة لاطلاق الدينامية النهضوية والاستنارية الذاتية( ص327)
فيما يتعلق بالتحالف مع الغرب يقول الكاتب ان استخدام مصطلح تحالف يعود ضمن اسباب اخرى : "الى حاجتنا للاعتراف الصريح, دون لجلجة او تحفظات, بحاجتنا الماسة الى الغرب وبالتحديد لتقليد تجربته الديمقراطية من بين المكونات العديدة لأرثه الحضارى، نظرا لحاجتنا المصيرية لاستنبات التقاليد والثقافة الديمقراطيتين فى التربة المحلية كترياق لا ترياق غيره ضد التشرذم والانفجار الوشيكين." ص327
التحالف المقصود تحالف ثقافى ذوهامش سياسى, بما فى ذلك سياسى رسمى. وهدفه " تحقيق الهدف الانقاذى وطنيا بالذات حول التعليم والاقتصاد والتكنولوجيا, وليس الصراع حول قضايانا السودانية والعربية المشروعة معها. نحاول التوازن بين الأثنين. اما المواجهة فسيأتى اوانها عندما نصبح على قدر مسؤليتها, اى بقدر ما يترسخ النظام الديمقراطى لدينا. النموذج الذى يصلح للاقتداء هنا هى التجربة التركية.."( ص328 ),
بالرغم من المحاذير التى يراها البعض حول التحالف مع الغرب الا اننا نراه منسجما مع اهداف التنوير ورؤية الكاتب القائمة على الاستفادة من التجربة الغربية حيث كان احد المداخل للتنوير الغربى هى الاعتماد على الاخر العربى الاسلامى لأعادة اكتشاف الفكر اليونانى. ولولا انفتاح الغرب على الفكر اليونانى برافعة عربية اسلامية لما تاتى له النهل من منابع العقلانية الارسطية. غير ان المحاذير المشروعة هى فى تحديد نوعية وكيفية التحالف الرسمى مع الغرب خاصة ان الكاتب يركز على هامش تحالف رسمى فى ظل نظام السلام الامبراطورى الامريكى والامبريالية المتوحشة.
فيما يتعلق بالرافعة الداخلية ,فان غياب الشروط الموضوعية للديموستنارة وتعويل الصاوى على قوة الدفع الذاتى للنخب قاده للتنقيب عن مولدات لها فى كل مكان بما فى ذلك صحراء الاسلاميين. بالرغم من : "ان فكرة التنقيب عن مكامن الاستناره في اوساط الاسلاميين تبدو غريبه للوهلة الاولي بلومنفرة للمجال اليساري الذي ينتمي اليه". ولكن كيف يستقيم فكرا ومنطقا ان تتولد الاستنارة من نخب تنتمى لفكر ظلامى تشكل عقلها داخل النسق الدينى الفقهى وشكلت الخطاب السياسى بمقولاته ومفاهيمه التى تتعارض بالضرورة مع الاستنارة على الاقل فى اطاره الغربى الذى يقوم خطاب الصاوى عليه.؟
تبريراً لامكانية الاعتماد على بعض الاسلاميين كمولدات ذاتية للاستناره ان وجدوا, يعطى الصاوياسبابا فكرية وعملية. فكرياًً يقوم بمراجعة نقدية للتعريف الطبقى الذى يعتمد عليه الفكر اليساري لتعريف القوى المحركة للتغيير. فهو يري ضرورة إعادة تعريف هذه القوى " بغير المنبت الطبقي سواء كأنتماء او وعي به وانمابالتكوين الذهني الشعوري الملائم للتجاوب مع متطلبات تحديث المجتمع، بعبارة اخريالنخب المستنيره بالتعليم الراقي والمهن العصريه والتفاعل مع العالم المتطور". ومن هذا التعريف ان المقومات الضرورية التى يجب ان تتوفر فى قوى التغيير فى اتجاه الديموستنارة ليست بالضرورة الانتماء والوعى الطبقى او القومى او غيرها بل ( 1) : التعليم الجيدخاصة اللغات الاجنبيه والعلوم الحديثه ( 2) مهن عصرية وحد معقول من الحياة المادية, واخيراً ( 3) الاحتكاك المباشر وغير المباشر بالغرب الاوروبي- الامريكي بتكوينهالحضري المتمدن.
اما من الناحية العملية, وكما يقول الصاوى : "منالبديهي، بناء علي هذا التعريف، كون المجال الارحب لنشوء النخب المستنيرة في سوداناليوم هو اوساط أهل السلطة والثروه ومشايعيهم والدائرين في فلكهم العقائدي بما فيهمالمختلفين معهم سياسيا وفقهيا، أي الاسلاميين عموما، ومن هنا جاءت فكرة البحث عنالرافعة الداخليه فيها". "معني ذلك ان دافع البحث عن الرافعة الاستنارية في هذاالوسط ( غير المستنير ) اضطراري لان الوسط الاخر ( غير الاسلامي ) أقلية ضئيلةعدديا ونوعيا. الاخير لايحتاج لبرهان لان مؤشراته هي المقاييس الاولية والخامللاستناره المذكورة سابقا وهذه لاتوجد بقدر ملموس الا حيث توجد الثروه والسلطه. اماالوزن العددي فأن القراءة الامينة لنتائج انتخابات جامعة الخرطوم تبرهن عليه." (ص330 ).
بناء على التعريف الذى يمنحه الكاتب لقوى التغييروالمقاييس الاولية والخامللاستناره فان المجال الارحب للتنقيب عن الاستنارة هو وسط الاسلاميين خاصة اذا ما اخذنا بعين الاعتبار بعض الشروط الموضوعية التى تعطى قوة دفع اساسية لعملية البحث عن مولدات للاستنارة وسط الاسلاميين "اهمها التصدعات التي لحقت بالمكون الاكبر في الصف ( الاسلامي ) نتيجة فشل التجربةالتطبيقيه رغم الظروف المواتية حتي الان التي جعلت منه ككل اغلبية نوعيا وعدديا. هذا يجعل سواد المؤيدين للتجربه عرضة للتشكك فيها يتطور لدي بعضهم الي شكوك حولالاساسيات الفكرية لتيار الاسلام السياسي التقليدي ويجعلهم بالتالي اكثر انفتاحاتجاه العقلانية والاستناره. تدفع في هذا الاتجاه ايضا حقيقة ان تجربة الاسلاميينالوحيدة الناجحه هي التجربة التركيه التي تقدم دليلا قاطعا علي ايجابيات مثل هذاالانفتاح كذلك فأن اضطرار المؤتمر الوطني الحاكم للتساكن سلطويا مع حركةعلمانية لابد ان يؤثر علي بعض منتسبيه " (ص331 ).
اذن "عجز المجتمع السوداني راهنا عن توليد نوعية القوي والعقليات المؤهلة لكسر دائرةازماته المتداخلة نحو التداعي الكامل" والبحث المشروع عن مولدات للديموستنارة التى بدونها لا يخرج السودان من هذه الدائرة، قادت الصاوى للتنقيب عن استنارة فى صحراء الاسلاميين . علي ان هذه صحراء لا تصلح مياهها الجوفية ولا ما يتراءى كمياه على سطحها لتوليد تيارات تؤدى الى عقلية تتعارض مع بنية العقل الاسلامى وأواليات ( (MECHANISM اشتغالها، كما سنرى فى الجزء الاخير من هذه الورقة
//////////
في سبيل الدموستنارة ( الديموقراطية-الاستنارة )
قراءة في كتاب "ديموقراطية بلا أستنارة " لعبد العزيز الصاوي " 3– 3
أبو بكر عبد الله ادم
الجزان الاول والثاني شرحا رؤية الكاتب حول الجذور العميقة لازمة التطور ممثلة في تضعضع الوزن النوعي للقوي الحديثة صانعة التقدم والديموقراطيه، ومن ثم هيمنة الاسلاميين علي المجتمع والسلطه، اساسا بسبب تدهور الاقتصاد والنظام التعليمي. بناء علي هذا يقترح عبد العزيز الصاوي استراتيجية تقوم علي ضرورةتضمين العمل المعارض للنظام مكونات بأتجاه بعث الحياة في هذه القوي في مجالي الاصلاح التعليمي وتنمية المجتمع المدني باعتبار أن المصدر الأساسى لتطور العقلية السودانية التقليدية نحو الحداثة ونشوء الكتلة التاريخية كان النظام التعليمى العصري . اما المجتمع المدنى اللا سياسى فأهميته ترتبط بكونه المصدر الأساسى المتاح حاليا للتدريب العملى على السلوك والوعى الديمقراطي. وبالنظر لعمق الازمة وتشعبها فأن مؤلف الكتاب يري ان قوي التغيير الديموقراطي تحتاج الي روافع مساعدة خلال المرحلة الاولي من عملية احياء القوي الحديثة وتفكيك البنية التحتية للنظام الحالي وهما التحالف الثقافي مع الغرب والتواصل مع بؤر الاسلاميين التي خرجت موضوعيا واحيانا فعليا من المجري الرئيسي للحركه .
ثالثا: ملاحظات نقدية:
فى الصفحات السابقة حاولنا قدر الامكان تقديم قراءة استنساخية لمضمون كتاب الاستاذ عبد العزيز الصاوى ( محمد بشير ) والذى احتوى على افكار جريئة اثارت مناقشات هامة فى الوسط السياسى والفكرى . وهو بذلك يعتبر مساهمة حقيقية فى توليد الاستنارة بغض النظر عن قراءتنا الخاصة لمضمون الخطاب السياسى الذى ينطوى عليه الكتاب. فى هذا الجزء الاخير سوف احاول ابداء بعض الملاحظات حول خطاب الصاوى فى ثلاث جوانب متكاملة: منهج التحليل وفرضياته, المضمون السياسى للخطاب واشكاليته.
من حيث المنهج يلاحظ ان مقاربة الكاتب السوسيولوجية لازمة الديمقراطية قد مكنته من لمس المسببات القاعدية للازمة مما سمح بالتوصول الى نتائج صحيحة ولكنها مرعبة حول العمق الاجتماعى للسلطة. وهى نتيجة يدعمها حال العمل العام فى الجامعات والمجتمع المدنى كما اوضح الكاتب فى مواضع عديدة فى الكتاب وان كانت لا تروق للمعارضة لانها تمنح السلطة مبررا لادعاء شرعية سياسية باعتبار ان الأخيرة فى التحليل النهائى ما هى الا في القبول بحكم الشعب. الواقع يؤكد ما خلص اليه الكاتب فى ان القوي الحضرية الحديثة زادت كما وتقلصت كيفا واصبحت ارضاً خصبة للاسلام الخام بعد ان كانت ركيزة للحركات اليسارية وتيارات التجديد فى أحزاب الوسط واليمين( ص16).
وبالرغم من ان مقاربة الكاتب اتسمت بالعمق فى التحليل كما ان استخدامه القوى التقليدية والقوى الحديثة كمفاهيم تحليلية هى فى تقديرى اكثر تعبيرا عن طبيعة المجتمع السودانى مقارنة بمفاهيم اخريشائعة فى الخطاب اليسارى مثل المفاهيم الطبقية وغيرها , الا ان عدم التحديد الكافى لبعض المفاهيم وعدم ربط المحدد السوسيولوجى بتحليل النظام الفكرى والثقافى الذى يكشف الافق الابستمى الذى يحدد صياغة الرؤى والتصورات حرم القارئ من ابعاد هامة فى مسببات الازمة.
من اجل المساهمة فى النقاش الذى فتحه الكتاب وخطابه المسيطر نحاول تقديم رؤية حول تطور البنى الاجتماعية التى شكلت العقل السياسى السودانى فى نقطة اولى قبل تناول الافق الابستمى الذى يحدد مقولاته ويصوغ مفردات خطابه .
أ- السياق التاريخى لتشكل البنى التقليدية والحديثة
بالنسبة للمفاهيم يلاحظ ان الصاوى اعتمد على مفهومى البنية التقليدية الريفية والبنية الحضرية المدنية والطبيعة المتعارضة لهما ولعقليتهما. ولاهمية هذين المفهوميين فى كشف جذور أزمة الديموستنارة نقوم بتحديدهما ومضامينهما السياسية والفكرية باعتماد مقاربة تاريخية لتشكلها وصيرورتها .
1- جدلية البنى القبلية والطائفية :
البنى التقليدية الريفية بمرتكزيها الطائفى والقبلي تتمايزان من حيث طبيعة الروابط بين اعضائها كما انهما كانتا تاريخيافى حالة تعارض وتصادم اذ ارتبط ظهور الطوائف بتخلخل الروابط القبلية القائمة على النسب والدم وإعادة صياغتها فى روابط اوسع تقوم على الولاء الدينى الشعبى او الصوفى كما هو موضح ادناه.
تاريخيا كانت الوحدة الرئيسية للتنظيم الاجتماعى والسياسى حتى القرن الخامس عشرهى الوحدات القبلية حيث كانت كل منها تشكل وحدة اجتماعية سياسية تحمل قيمها الخاصة وثقافتها "ايديلوجيتها" وعقليتها المتميزة. كانت التناقضات فى وبين وحدات المجتمع القبلى تتحدد وتحسم من خلال الصراعات والتسويات . و التراتبية داخل القبيلة الواحدة، او الأتحادية القبلية، الناتجة عن توزيع السلطة والثروة بها, تاتى فى درجة ثانوية لا تسمح بالحديث عن تناقضات جوهرية بين ابناء القبيلة الواحدة على اساس طبقى بالاعتماد على علاقات الانتاج وادواتها. وبالتالى تتحدد القيمة الأجتماعية ومكانة الأنسان فى سودان المجتمع القبلى حسب قوة القبيلة ومكانتها بين القبائل الأخرى لأن العلاقات الأجتماعية مبنية على الولاءات والقرابة انطلاقا من "ايديولوجيا" ألانتساب الى جد واحد وان العالم فى عقل القبلى جد محدود اذ لا يتعدى دياره وقبيلته ومن ثم فهو لا يعى الا بيئته التى لا يستطيع انفصالا عنها حتى ذهنيا, فليس للاخر وجود لديه بل ان الفرد نفسه لا يستمد تقييمه لذاته من حيث هو فرد ولكن لمجرد كونه عضوا لجماعة ينتمى اليها و يتماهى معها ويلتمس حمايتها. فهو بذلك يذوب فيها. هذا على المستوى الاجتماعى، اما على مستوى النظام الفكرى السائد فان البنية القبلية تسود فيها العقلية الجماعية وتشتغل على أوالية ( ميكانيزم ) الاقصاء والأحتواء وهى عقلية تقوم فى بنيتها العامة على الاسطورة والخرافة. أما السلطة السياسية داخل هذا النسق الاجتماعى السياسى فهى باترومونيالية سلالية يندغم فيها الدينى احيانا ولكن فى الغالب يتمايز هذا الأخير الذى كان يحتكره ممثل الاله أشيك او الكجور او الشيخ والفكى او غيرهم.
وبسبب التطورات السياسية والأجتماعية فى السودان منذ القرن الخامس عشر التى حركها تزايد انتشار الاسلام والهجرات العربية عبر البوابة الغربية بدأ التمايز بين الجنوب- الذي حافظ لحد كبير على بنيته القبلية سياسيا واجتماعيا -والاجزاء الشمالية التى ظهرت فيها ممالك قبائلية مركزية (فور. مساليت. فونج ...) تجاوزت سلطتها والمجال الجغرافى لممارساتها القبيلة الواحدة. وكما بدا منذئذ المجال الدينى والرمزى يستقل اكثر واكثر عن المجال السياسى بسبب ضعف التكوين الدينى للقيادات السياسية على مستوى جهاز الدولة والزعماء القبليين الشئ الذى أدى الى بروز دور فقهاء السلطة مركزيا وفقهاء الكرامات والشفاعات على المستوى الشعبى. ومع تزايد جاذبية الممالك السودانية لرجالات الدين من العالم الاسلامى فى تلك المرحلة التى شهدت انحدار الحضارة الأسلامية فى مراكزها, بدأت بنى اجتماعية جديدة تتشكل منبنية على الدينى وتعمل على زحزحة البنى القبلية وثقافتها وعقليتها . فقد وجد مشايخ الطرق الصوفية من الأحترام والتأييد ما مكنهم من بسط نفوذهم خارج الأطر التقليدية للقبائل ليخترق الولاء الصوفى الولاءات القبلية وبالتالى تمتد سلطات الشيخ الى افاق جديدة خارج التقيسيمات القبلية التقليدية الشئ الذى ادى الى ظهور تجمعات طائفية اساسها الولاء لشيخ الطريقة "فى اطار العقيدة الأسلامية والمذهب المالكى". ومن ثم كان الولاء للطريقة ارحب من الولاء القبلى الضيق. وقد حايث هذا التغيير على المستوى الأجتماعى تحولات فى دلالات بعض الرموز الاجتماعية كما بين ذلك د. يوسف فضل فى دراسته حول الشلوخ. والاهم من ذلك حايثها تغيير فى العقليات و الافق الابستمى العام. هكذا افرزت حركة التطور التاريخى انذاك فواعل اجتماعية ذات طموح سياسى تعتمد على المقدس كمصدر مادى ورمزى تسعى به لتقويض رابطة القرابة القبلية رغم انها قد تلونت بمحيطها القبلى وتشبعت منذ تشكلاتها الاولى بمحتوى قبلى واقليمى واضحين كما هو ظاهر حتى الان فى الخارطة الطائفية السودانية. فالطوائف بذلك شكلت وحدات اجتماعية اكثر تطورا من القبيلة حين وضعت الولاء الدينى بديلا عن القبلى الشئ الذى يسمح بالقول ان الطائفية الدينية فى عمقها ومنطقها الداخلى هى تجاوز ونفى للقبلية ورابطها. وكان من الممكن ان يحسم هذا التناقض لصالحها لولا تسارع الأحداث بتأثير خارجى منذ العقد الثانى من القرن الثامن عشر لتحول دون نضوج شروط هذا التناقض وحل عقدته اجتماعيا ثم سياسيا بقيام دولة صوفية او شرفاوية كما حدث فى ارجاء اخرى من العالم الأسلامى مثل مغرب القرن السابع عشر.
ومع تزايد انتشار الطُرقية والطائفية الذى تزامن مع ظهور فئات التجار كفئات بدأت تستقل نسبيا عن كل من الطائفية والقبلية ولكن دون الانفكاك عنهما, بدأت السلطة المركزية فى سنار تتفكك قبل انهيارها النهائى عام 1821. فالطائفية نجحت فى نشر الاسلام وتوطين ايديولوجيا كشفية باطنية توافق الديانات المحلية التى تؤمن بوجود قوى خفية غامضة تسير حياة المجتمع(روح دينج عند الدينكا وروح الاسلاف التى يتقمصها الكجور عند النوبة...الخ). وبذلك نجحت فى طرح التفكيك فى روح القبيلة تمهيدا لطرح التركيب البديل ولكن قبل ذلك انهارت دولة الفونج كبرى الممالك القبلية السودانية تحت ضربات الغزو التركى المصرى الذى تزامن مع الحمية الأستعمارية النامية فى اوربا التى انقشعت عنها الظلامية وكذلك بسبب تزايد النشاط التجارى فى السودان مع افواج "الجلابة" الوافديين.
وبقيام الحكم التركى المصرى بمفاهيمه وقيمه السياسية والدينية التى تجاوزت الولاءات التقليدية بطرح ولاء دينى رسمى، دخل التطور الاجتماعى مرحلة جديدة انطوت على تغييرات اجتماعية واقتصادية هامة. فقد وفر الكيان المركزى القوى ارضية مواتية لتزايد النشاط التجارى المتزاوج مع التبشير الدينى الاسلامى الرسمى وبالنتيجة ظهور فئات اجتماعية اصبحت زبناء موضوعيين لبعض الطرق الصوفية التى استطاعت بهيكليتها وبعض مظاهرها الجذابة ان تستقطبهم اليها لتدعيم نفوذها الدينى, كما وجدت فيها هذه الفئات سندا لتدعيم مراكزها الأجتماعية والأقتصادية. وقد ساهم التنافس الأقتصادى والتجارى فى ترسيم خارطة الولاءات الطائفية فى بعض أرجاء البلاد وبامتداد النشاط التجارى الى تجارة الرقيق وجدت اولى العقبات امام تفاعل العقل السياسى الجنوبى مع الممكنات التوحيدية المتعلقة بالشخصية العربية الأسلامية والتى يبدو أن جهود الوحدة فى سودان تكسرت عندها الان مع ظهور دولة فى الجنوب ومناورات الكونفدرالية التى ينادى بها بخجل بعض الفواعل فى دارفور وغيرها.
2- , القوى التقليدية, ألاسلام الرسمى والمهدية:
ومع توطد الحكم التركى وتمأسسه ظهر بجانب الاسلام الشعبى - بطرقه المختلفة- اسلام رسمى بمؤسساته ومجالاته(مؤسسة دينية من العلماء, مجلس افتاء بالخرطوم ومجالس قضائية محلية) وبالنتيجة ظهر تمايز بين العقلية الباطنية الصوفية والعقلية السنية السلفية. غير ان هذا التمايز لم يصل فى بدايات العهد التركى الى تناقض واضح بين المجتمع وايديلوجيته الباطنية الكشفية والسلطة المركزية بايدلوجيتها السنية السلفية. وقد حاولت الطائفية الدينية استثمار النظام الابستمى الذى وفر لخطابها زبناء اجتماعيين وسياسيين لحل التناقض لصالحها عندما دعا الشيخ السمانى محمد شريف نور الدائم الى تأسيس سلطة بديلة عن الاتراك وتأسيس كيان سودانى صوفى بعد توحيد صفوف قادة الطرق الصوفية. ولكن المحاولة فشلت بسبب نشوء الصوفية على الأستلاب الغيبى الكامل لذوات اعضاءها مما جعلهم زاهدين عن السلطة والزعامة السياسية.
وبفشل فكرة تحقيق اجماع قادة الطرق الصوفية كان العقل السياسى مطالبا بأستثمار القوة الروحية- ولكن بتجاوز سلبية الأستلاب الغيبى- بصياغة مقولات نابعة عن المجتمع وقادرة على تدشين عملية التغيير السياسى الذى نضجت شروطه الأجتماعية والفكرية والسياسة. وهو ما قام به الأمام محمد عبدالله المهدى بعد ان تمكن من التقاط فكرة المهدى المنتظر من المخيال الاجتماعى السودانى وصياغتها برنامجا وشعارات, وتقديمها للناس, ثم تولى توجيه الأحداث وادارة الصراع. وبذلك نجح فى تجسيد الوعى المجتمعى وطرح ايدلوجيته. وخاضت الثورة المهدية صراعا أيدلوجيا مزدوجا, ضد الأسلام الرسمى من جهة, وضد بعض الطرق الصوفية من جهة ثانية. وباستخدامه لايدولوجية باطنية فى معركته الأولى استطاع الأمام المهدى أخذ زمام المبادرة من العلماء الرسميين فى مجتمع مشبع بالغيبيات والروحانيات الصوفية والأستشراف .وبالأعتماد على مقولة الجهاد بمضامينها الثورية فى بيئة نضجت فيها شروط الفعل الثورى كسب الأمام رهانه ضد الطوائف السلمية والمتعاونة مع الأتراك والمتشككة فى مهديته. وبذلك تحولت الثورة المهدية الى حركة ثورية تعتمد على ولاء الأنصار الدينى. وبعد اعادته لانتاج الرمزية النبوية-كما تفعل كل الحركات المهدوية-بهجرته الى الغرب ونجاحه فى كسب ولاء قبائله, تمكن المهدى المنتصر من التوجه شرقا وتقويض السلطة التركية وتاسيس دولة مركزية فى السودان. ولأن طائفة ألأنصار قد حققت مشروعها السياسى باحتضان القبلية دون تذويبها فى اطار ولائها الأوسع, فقد تداخلت وتعايشت ولاءات ثلاث فى اطار الدولة المهدية (قبلى وطائفى وامّوى،نسبة للامة الاسلاميه). وهذه الولاءات بمرتكزاتها الأجتماعية وعقلياتها كانت وراء مختلف العمليات والرهانات السياسية التى تجرى منذ أكثر من قرن، وحتى الان لم ينفك العقل السياسى السودانى من تأثير هذه الولاءات المتعارضة والمتعايشة فيه, حيث انها تغذيه وتفسر وصف ألأستاذ الصاوي للعقل السياسى الراهن بانه "عقليات تخفى وراء حداثتها الشكلية نزوعات تقليدية غالبة"(ص178) وهى ولاءات تتعايش فى كل القوى السياسية التقليدية التى اكتست اطارا حزبية حديثا. المهم فى الحقبة المهدية التى كان القوى التقليدية تلعب فيها دورا رائدا كان الوزن النسبى لهذه الولاءات يتغير حسب شروط المرحلة, فالولاء الطائفى كان المتغير الحاسم فى مرحلة النقاء الثورى والتأسيس للمهدية كما يتضح من شروط الأنصارية وقاعد تسمية الخلفاء واوالياتتداول السلطة. غير ان الغياب المبكر لمؤسس الدولة وشراسة الهجمات الاستعمارية على افريقيا بعد مؤتمر برلينأديا الى تراجع الولاء الطائفى لصالح الروابط القبلية الاكثر رجعية ، وان كان الخطاب السياسى لا يحمل مفردات قبلية صريحة على الأقل عند مقارنتها بما يقال فى سودان اليوم. اما بالنسبة للولاء الأمّوى فقد تمثل فى خطاب الدولة لتوحيد الأمة الآسلامية تحت راية المهدية من السودان كقاعدة للفتح الاسلامى ومنذئذ بدأت النزعة السلفية للعقل السياسى السودانى التى تحولت تدريجيا الى عقل سائد انبنى عليه الخطاب السياسى للنخبة الحاكمة اليوموالذى لامس فى نفس الوقت اوتارا حية لدى الطائفية الدينية والسياسية وقياداتها بما فيهم قيادات حداثوية نهلت الحداثة من ينابيعها الأساسية فى أوكسفورد والسوربون وهارفارد وغيرهم .
ولتقعيد الاحداث والخطابات فى سياقاتها لا نتردد فى القول بأن النزعة السلفية فى السياق السودانى عندئذ كانت نزعة ايجابية اذا ما تم النظر اليها فى سياقها التاريخى العام. فالمهدية جاءت ضمن الأنحدار الحضارى الأسلامى العام وفى وقت ما زالت فيه تجربة الدولة ألاسلامية حقيقة حية. فقد حاولت من خلال ايدلوجيتها السلفية الاصلاحية تجاوز الحركات الصوفية وايدلوجيا الاسلام الرسمى برهان ذكى على قيادة الأمة وتوحيدها ( دلالة اختيار السنوسى الليبى خليفة ثالث لمهدى), واستخدام المهدى لفكرة الأنتساب لال البيت الذى قوى من فرصه وشرعيته كأمام شريف هو ما اعطى للثورة المهدية بعدا عربيا وكان سببا ونتيجة لاندراجها وتأثرها بحركات الأصلاح الدينى التى ظهرت فى القرن التاسع عشر واتخذت عمقا قوميا واسلاميا واضحا . فالحركة المهدية من هذا المنظور ربما يمكن النظر اليهاكجزء من حركة النهضة العربية فى مصر والشام سواء من حيث اصول فكرها او اهدافها السياسية او حتى قواعدها البشرية (ثقافيا لا اثنيا). وهذا التوجه القومى للحركة المهدية أدخل رافدا اخر للعقل السياسى السودانى سيبقى تأثيره متزايدا منذئذ وحتى الآن. بمعنى أن العقل السودانى سيبقى معنيا بقضايا محيطه العربى ومقيدا بالنظام الفكرى السائد فيه كما يتضح بتصفح الخارطة السياسة والأيدولوجية للفواعل التى تتسرب من الخطاب القومى والخطابات المتعارضة او المتناقضة معه.
3- الاستعمار والقوى الحديثة:
مثلما حال الغزو التركى المصرى دون نضوج شروط التناقض وحله ذاتيا, كذلك حالت الصراعات والمؤامرات الخارجية دون وضوح وتكريس نموذج الدولة المهدية وتحقيق مقولاتها على أرض الواقع. فالاستعمار البريطانى أدى الى تقويض عملية التطور الاجتماعى ومن ثم تشويه العقل السياسى بقدر ما إنه ساهم فى توفير الشروط اللازمة لظهور القوى الحديثة حاضنة التغيير بتعبير الأستاذ الصاوى. ففى المرحلة الاولى عمل الاستعمار على تقويض ركائز الطائفية التى كانت تقود المعارضة بالحركات المهدوية والعيسوية(نسبة للنبى عيسى) التى ظهرت فى العقديين الاوليين للحقبة الأستعمارية,, وذلك قبل ان يعود للتحالف معها- اى الطائفية - التى تحالفت بدورها مع القبلية عندما بدأت ارهاصات صعود القوى الحديثة منذ عشرينات القرن السابق كما يؤكد الصاوى فى اكثر من موضع فى الكتاب . فالاستعمار قد قام بتحديث البنيات الأجتماعية والسياسية والاقتصادية لضروراته الذاتية, ولكنه مع ذلك كان غير مستعد للقبول بالنتائج المنطقية لعملية التحديث. فالتحديث افرز فئات اجتماعية حديثة غير ان وعيها الديمقراطى هو نتاج لعوامل اكثر تعقيدا من المدخل التحديثى الذى انبنت عليه اطروحة الصاوى. فهو من جهة نتاج تصادمها مع الوعى التقليدى بعد تحالف القبلية والطائفية ومن جهة ثانية نتاج الصراع مع الاستعمار وحلفائه من القوى التقليدية من اجل التحرر . كما انه ايضا نتاج للتفاعل مع حركات التحرر الوطنية المصرية والتحولات الدولية. بمعنى اخر ان التحديث الاستعمارى وفر دعائم الديموستنارة من تعليم حديث ومهن عصرية واحتكاك مع الخارج ( ثلاثية الصاوى التى سوف نعود اليها فى الفقرات الاحقة). ولكن هذه الدعائم لم تكن كافية لتفجير وعى ديموستنارى ( ديموقراطي – استناري ) قادر على خلق تيار وثقافة جديدةبالرغم منومضات مضئية ظهرت فى عشرينات القرن الماضى من خلال منتديات وخطابات القوى الحديثة (الاتحاد السودانى, اللواء ألابيض, جمعية ابوروف, الفجر, المسرح الخ) ووصل لحد رفع "مطالب الشعب السودانى" وتفجير ثورة اللواء ألأبيض عام 1924. ان انحسار هذه القوى وتراجعها منذ السبعينات لم يكن نتاج الزلزال الاقتصادى والاجتماعى والسياسى الذى تحدث عنه الصاوى واوردناه فى الجزء الأول بقدر ما هو نتاج لضعف تكوينه الذاتى الذى كشفة الزلزال. فالقوى الحديثة بفئاتها المختلفة لم تستوعب مقولات الاستنارة وتتمثلها للدرجة التى تجعلها قوى تغيير جذرى فى المجتمع لانها كانت وما زالت تعتمد على القوى التقليدية. ولذلك اصبح عقلها مشبعا بمقولات الخطاب التقليدى الذى كشفنا بعض جوابه سابقا.
ب- ألاستنارة ومعوقات النظام الفكرى السائد
الخلفية التاريخية التى اطلنا فى تحليلها ضرورية لمعاينة مسببات الأزمة التى تمثلت فى فشل النخب الحديثه وعجز عقلها السياسى المشدود الى الماضى عن قراءة الواقع فى حركيته والعمل على تجاوزه بصياغة رؤى وخطاب سياسى استنارى قادر على التغيير فى اتجاه الديموستنارة. وهى ايضا مقدمة اساسية للوقوف على البنى الفكرية والثقافية التى افرزتها وشكلت نظاما معرفيا حال دون توليد تيار استنارى. ان القوى الحديثة التى تشكلت فى السنوات الأولى من الحقبة ألأستعمارية لم تتمكن من خلق قطيعة مع العقل التقليدى بأفقه الدينى الفقهى او تصفية الحساب مع ركام التصورات والفعاليات الذهنية التقليدية القبلية والطائفية. فالنظام الفكرى التقليدى الذى كان سائدا كعقل مكوّن بالمعنى الذى يعطيه له اندريه لالاند هو الذى كان وما زال يوجه القوى الحديثة وليس التصورات الاستنارية التى اتت مع الاستعمار. واغفال هذا الجانب فى تحليل الأزمة فوت على الكاتب اداة تحليلية هامة لكيفية تشكل العقل السياسى للنخب السودانية وتشيكل الياته فى انتاج خطاباته. والنظام المعرفى فى ثقافة ما-كما يقول الجابرى- هو بنيتها اللاشعورية التى تشكل لدى المنتميين لهذه الثقافة اللا شعور المعرفى الذى يوجه,بكيفية لا شعورية رؤاهم الفكرية والاخلاقية ونظرتهم لانفسهم وغيرهم. هذا اللاشعور المعرفى له زمنه الخاص وهو زمن متداخل ومتموج يمتد على شكل لولبى الشئ الذى يجعل مراحل ثقافية مختلفة تتعايش فى نفس الفكر وبالتالى فى نفس البنية العقلية كما تتعايش فى غياهب اللاشعور النفسى الرغبات المكبوتة المختلفة الراجعة الى ازمنة نفسية وعقلية وبيولوجية مختلفة يمكن لتصورات او معتقدات او مفاهيم تنتمى الى مراحل سابقة ان تعيش فى مرحلة تالية مع مفاهيم جديدة لتشكل الهوية الثقافية للمرحلة الجديدة(الجابرى:تكوين العقل العربى ص41). حيث ان الافق الابستمى او النظام الفكرى الذى كان وما زال سائدا يخلق شروطا تعجيزية فى انتاج فكر تنويرى بشروط انسانية قادر على وضع مفاهيم وتصورات قيمية وثقافية تضبط علاقات المجتمع على مستواه الأفقى بدرجة اكثر عدالة وفى نفس الوقت قادر علىتوازن السلطة رأسيا. فالنظام المعرفى الذى يعبر عن البنية الفوقية للتحولات الاجتماعية التى تابعناها سابقا كانت منذ بدايات القرن المنصرم وحتى الان تتعايش فيه تصورات طائفية وقبلية وسلفية جنبا الى جنب مع الافكار التنويرية وهو ما جعل عقل القوى الحديثة ليس عقلا حديثا بل هو عقل تقليدى مغلف ومطعم بمفاهيم وقيم قبلية وطائفية واسلامية سلفية افرزتها حقب ثقافية وتاريخية سابقة. هذا ما يمكن ملاحظته بتحليل مؤتمر الخريجين وانشقاقاته وتحالف بعض رموزه مع الطائفية وكما يمكن تأكيده من استمرارية الاحزاب الطائفية (الحديثة) كاهم فواعل الحقل السياسى السودانى ماضيا وحاضرا. و هذا ايضا ما يفسر قدرة الخطاب الاسلامى الخام لاستقطاب قطاعات واسعة وسط النخب المتعلمة. ان تعايش التصورات والقيم التقليدية مع القيم الحداثية فى المجتمع وعقل فواعله ونخبه دون حدوث قطيعة ابستمولجية تفتح المجال لتيار استنارى هو ما يفسر سودانيا ظاهرة ما اسماه الجابرى "الترحال الثقافى و "المثقفين الرحلالذين يرحلون عبر الزمن الثقافى من المعقول الى اللا معقول ومن اليسار الى اليمن بسهولة تكاد لا تصدق". باعتبار ان ترحالهم خطى "ومن كتبت عليه خطى مشاها"
صحيح ان نخب اليسار السودانى التى استفادت من التحديث قطعت اشواطاً هامة فى سبيل تمثل الاستنارة منذ بداياتها الأولى غير انها لم تكن خطوات كافية لخلق تيار استنارى يخلق قطيعة مع النظام السائد كما يظهر من تردداته وتذبذباتها الفكرية . وقد ساهم تحالف القوى التقليدية مع قطاع هام من المتعلمين، بجانب التدخلات اللا ديمقراطية وضغوط الأنظمة العسكرية،في اجهاض الممكنات التنويرية لدى هذه النخب. والصاوى يشير الى ذلك بقوله : " فى ظل واقع متخلف تاريخيا اصلا,اى لم يمر بمخاض تنوير نهضوى جذرى يصحح علاقته بتراثه,تفضى تراكمات هذه النوعية من الضغوط(= ضغوط الأنظمة الاحتكارية) الى تجريد الأنسان من أهم مكتسبات الوعى الحديث, وهو قابلية التحرر من اسر التقليديه,فتنحل عقلية وسلوكيات اغلبية النخب نفسها تدريجيا وبمرور الزمن الى اطرها القبلية والطائفية. هذا هو تفسير ما حدث ويحدث فىالعراق والسودان لا سيما عندما اضيف الى هذه الضغوط ضخ المادة الدينية فى الفضاء العام بكثافة (ص250). 1
ان تكوين عقلية الفئات الحديثة ونخبها هو المسبب الرئيسى للأزمة ولا يمكن الخروج منها الا بكشف العقدة الذهنية وحلها. دخول السودان دوامة الأزمات ليس كما يرى الصاوى نتاج لتعطل دور النخبة التطويرى للمجتمع نتيجة استنزاف وقودها التنويرى( ص326 ) بل ان النخبة السياسية لم تتمكن اصلا من امتلاك عقل مستنير يقطع مع التقليد والسلفية الدينية، والاستنارة كانت دائما امكانية وحلم ولم يكن واقع . كل ما توفر هو ممكنات تنويرية وتحديثية بفضل التعليم والبنى الحديثة والقطاعات المرتبطة بهما. لقد كانت النخب اليسارية هى الأكثر تأهيلا للتفاعل مع هذه الممكنات غير ان النظام الفكرى السائد كان من القوة التى تمنعها من الدفع بوعيها الاستنارى وافقها التغييرى لنهاياتها المنطقية. وبالرغم من وجود افراد مثل " معاويه محمد نور استوعب منتجات الفكر الغربي بأفقإيجابي ونقدي معا" لم يظهر تيار حداثى ذو ملامح واضحة تدفع فى اتجاه الليبرالية السياسية, " النظام الفكرى المتكامل الذى تكون فى القرن السابع عشر والثامن عشر والذى حاربت به الطبقة البرجوازية الاوروبية الفتية الأفكار والأنشطة ألاقطاعية." ولكن مع ذلك نرى حل الأزمة هو كما فى طرح الصاوى لعصر تنوير سودانى يتم تدشينه بتفجير الممكنات الديموستارية فى الفئاات الحديثة من خلال ثورة علمية على مستوى بنية الفكر, بمعنى تحولات ابستمولوجية تقوم بخلخلة ثم تقويض النظام المعرفى السائد. وكذلك اجتماعيا بتنشيط وتطوير منظمات المجتمع المدنى واصلاح النظام التعليمى وتوسيعهما افقيا من اجل تنمية وعى ديمقراطى لأن الديمقراطية تقتضى ان يكون الشعب متنورا من خلال طرق واساليب معينة كالتعليم والمناقشات العامة. وبذلك تكون المهمة مزدوجة فمن جهة الحاجة ملحة لتفكيك الاسس التى يقوم عليها العقل السياسى السودانى ومن جهة ثانية تدشين مرحلة جديدة قائمة على العقلانية.
ج- حدود استراتيجية الصاوى :
ان الاستاذ الصاوى بحكم سيطرة الهم الديمقراطى بمفهومه الليبرالى على خطابه يبدو انه مستعد لتقديم اى ثمن من اجل استعادة ديمقراطية راسخة ومتجذرة شعبيا. غير ان طبيعة هذا النظام الذى استفاد من كل التجارب السابقة,البرلمانية والعسكرية بدرجة من المكر تمكنه من قبض الثمن بدون تقديم اى شى بالمقابل. ان مقاربة الصاوى لموضوعة التغيير تقوم على فرضية وجود دعائم اجتماعية قوية للنظام ولذلك صاغ خطابا اصلاحيا لا جذريا كما انه يسكت عن المعوقات التى تفرضها السلطة القائمة. وهى من جهة ثالثة تقوم على فرضية ان التحول الديمقراطى يمكن ان يتم بالتدريج عن طريق تنمية الوعى الديمقراطى فى ظل النظام الراهن.
يقول الصاوى بأمكانية العمل فى نطاق الشرعية السياسية الراهنة من اجل تقويضها تدريجيا بسحب القاعدة الاجتماعية التى يعتمد عليها النظام عند نجاح عملية الديموستنارة فى اعادة الحيوية المفقودة للقوى الحضرية المدينية. والصاوى يرى بصعوبة او استحالة ازالة النظام الراهن بالاعتماد على اساليب التغيير السابقة بسبب تغلغل السلطة الظلامية فى المجتمع. بالرغم من القابلية العالية للخطاب الاسلاموى المشبع بمكبوبات تقليدية بسبب النظام الفكرى السائد الذى يتغذى بالخطاب الاسلامى ويغذيه بشكل استرجاعى الا ان تغلغل السلطة الاسلامية فى المجتمع قابل للنقاش. ان نفس البنى الاجتماعية المشوهه ونظامها الابستمى الذى وفر القاعدة للسلطة الظلامية المعتمدة على الدين الخام المشبعة بتصورات وقيم تقليدية عادت بقوة الى الحقل السياسى ووفرت قاعدة لقوى معارضة عزفت على هذه القيم التقليدية كما يظهر جليا فى الحركات المسلحة فى ارجاء البلاد الاربع. ان قدرة هذه الحركات فى زعزعة سلطة النظام سياسيا واجتماعيا لا يمكن انكارها مما يعنى ان حيويتها الاستقطابية عالية. وليس صحيحا القول بان هذه القوى تعتمد على الفئات الريفية فقط حيث ان قاداتها وكوادرها بالاضافة لجزء مقدر من قواعدها هم من الفئات المدينية التى حظي البعض منهم بتعليم جيد ووظائف عصرية بالاضافة لاحتكاكهم بالخارج بدرجات متفاوتة. فسياسة التجهيل والتفقير التى مارستها السلطة الظلامية بقدر ما انها جففت منابع القوى الديمقراطية قد فجرت مكبوبات الروابط التقليدية التى شكلت هويات واطر تهدد وجودها. وتعامل السلطة مع هذه الحركات بجدية اكبر من تعاملها مع القوى الديمقراطية السلمية تعبر عن درجة التهديد الذى يشعر به النظام. وفى ظل النسق المعرفى السائد لا غرابة ان تكون ابرز مهددات النظام هو حركة العدل والمساوة التى يتشكل خطابها من توليفة خطاب دينى خام ولاء قبلى ضيق وانغلاق جهوى واضح.
اذا ما جانبنا الصواب فى تقدير قوة النظام واتفقنا مع الصاوى بانه متجذر اجتماعيا تصبح مقاربة الاصلاحية المعلنة للتغيير والتى تقوم اساسا على اصلاح التعليم وتنمية هيئات المجتمع المدنى عبر التعبئة العامة صعبة التحقق ان لم نقل مستحيله. فالنظام الراهن استفاد من كل التجارب السابقة-العسكرية والبرلمانية وطنيا وخارجيا- لبناء سلطة ايدلوجية مسنودة بقدرة عالية على استخدم العنف بكل اشكاله. فالنخبة الحاكمةالتى حظيت بتكوين نظرى عالى وتدريب سياسى طويل ومكثف قادرة على هندسة الاوضاع السياسية بكيفية تجعل مشروع التنوير بهدفيه ورافعتيه والذى يؤدى الى تقويض دعائم سلطتهم سراباً دونه سراب البحث عن استنارة فى صحرائهم. قوة استراتيجة الصاوى وضعفه فى نفس الوقت هى انها استراتيجية مكشوفة تسمح لها من جهة بتحقيق بعض اهدافها التنويرية بمجرد الاعلان عنها ولكنها من جهة اخرى تنبه السلطات الى مصادر الخطر الاتى وتمكنها مناستخدام كل ترساناتها الفكرية والسياسية لاجهاضها. هذا ومن جانب اخر ان عدم تورع النظام فى استخدام العنف بكل اشكاله يجعل اى محاولة لتغيير النظام من الداخل مهما كانت محدودة مغامرة.
ان المقاربة الاصلاحية لتغيير النظام والذى يبدو ان معظم القوى السياسية قد ركنت اليها تؤدى فى النهاية الى شرعنة النظام legitimization لا تقويض شرعيته. صحيح ان هناك بعض التجارب الأصلاحية الناجحة فى العالم الثالث ولكن صحيح ايضاان طبيعة الانظمة العقائدية تحول دون اى انفتاح سياسى سلمى يؤدى الى اضعافها. ان امكانات الاصلاح من الداخل فى العالم الأسلامى اكثر حظا فى ظل الانظمة غير المستندة على عقيدة دينية او قومية كما هو الحال فى المغرب وبعض دول الخليج وباكستان وغيرها. الهامش الديمقراطى المسموح الان هو نتاج لرهانات النظام مع المعارضة الجنوبية كنتيجة لآتفاقية نيفاشاوالحاق المعارضة الشمالية ما هو الا لأغراض خارجية تتعلق باعطاء النظامنوعا من الشرعية السياسية كترسانة اضافية لمواجهته مع المجتمع الدولى المطالب بالعدالة لضحاياه بدارفور.
د-:التنوير, كل التنوير ولا شئ غير التنوير
بغض النظر عن رؤيتنا لمشروع الصاوى ومالاته يكفى انه فتح الباب مشرعا لحوار جاد حول التفكير الجاد فى موضوع السلطة الاسلامية بركائزها الاجتماعية وبنيتها الفوقية وهو نقاش اذا ما قدر له ان يستقطب قطاعات المثقفين بمواردهم الفكرية المختلفة سوف يشكل الخطوة الاولى والاهم فى سبيل الديموستنارة. فالقوة الاساسية للمشروع ليست فى نجاحه فى تغيير النظام التعليمى او تفعيل المجتمع المدنى والذى هو شبه مستحيل فى ظل النظام الراهن ولكنها فى خلق تيار مستنير ينمو بالنقاش حتى يتمكن من توفير الشروط المنطقية والواقعية لتحقيقه. نمو هذه القوى لا يتعارض مع رؤيتنا بضرورة العمل بكل الوسائل لأزالة هذا النظام ولكنه يوفر الارضية الضرورية للعمل من اجل التغيير الجذرى بمجرد استرجاع النظام النيابى الذى يجب ان يكون بؤرة العمل المعارض السلمى وغير السلمى.
ان اهمية فكرة " عصر تنوير سودانى" فى تقديرى هى فى قدرتها على تسليط الضوء على اهمية النظام المعرفى فى تحقيق تغيير جوهرى . ففى عصر التنوير الأوربى حدثت قطيعة اعطت للعقل استقلالية تامة عن اللاهوت الدينى بالعودة الى اكتشاف التراث اليونانى خاصة ارسطو بواسطة الفلاسفة المسلمين خاصة ابن رشد. كما هو الحال فى سودان الان, ماسبق التنوير فى أوربا هو سلطات مطلقة وتراجيديا فى القرنين السادس عشر والسابع عشر بما فيهما من حروب دينية أدت الى الاف الضحايا. ومع سيادة الدوغما الدينية والقوى الظلامية والديكتاتورية فى السودان فان الحاجة ملحة لمراجعة نقدية شاملة للمجتمع والعقل المتحكم فى صياغة رؤاه وتصوراته كخطوة اساسية لتحرير العقل وتطوير قدراته على التعامل الأيجابى البنّاء مع الأسلام بالذات. ان مهمة تدشين عصر تنوير سودانى هى مهمة مزدوجة: من غير الممكن تحقيق ذلك بالاعتماد على" الرافعة الداخلية"من خلال البحث عن" بحيرة استنارة فى صحراء الاسلاميين" لان العقل الفقهى الذى يتحكم فى طريقة الأسلاميين فى التفكير والانتاج النظرى هو ما يسعى التنوير لتفكيكه وتجاوزه. فالحاجة للتغيير تتطلب تصفية الحساب مع النظام المعرفى الاسلامى الفقهى القائم على قواعد الشافعى ونزع القدسية عن الخطاب الدينى. كما قام الغرب باعادة اكتشاف التراث الفلسفى اليونانى فان ما نحتاجه ليس اجترار الخطابات السلفية بلغة جديدة بل اعادة اكتشاف تيارات النقد والعقلانية فى الدين والبناء على الفتوحات الفكرية لبعض الكتاب المعاصرين كالجابرى واركون ونصر ابو زيد وغيرهم. ان هذا الطموح لا يمكن ان يتحقق بالاعتماد ولو جزئيا على المستنيرين الاسلاميين المرتبطين بايديولوجيا الاسلام السياسى المنبنى على عدم التسامح والدوغما مهما تبدت لنا تقدمية بعض تخريجاتهم الفكرية ورؤاهم السياسية. ان غاية ما يمكن ان يفضى اليه اى مشروع يعتمد على الأسلاميين كرافعة هو اصلاح دينى يكرس نمط التفكير الفقهى السلفى السائد الذى لا يرقى حتى لمستوى تفكير علماء الكلام النقدى قبل الانحدار الحضارى الاسلامى. ان مقومات التنوير الثلاث المتوفرة حاليا لدى الاسلاميين و التى توهم بامكانية وجود بؤر استنارة تفقد قيمتها فى تحقيق تنوير بالمعنى الذى يقصده الصاوى لكون بنية عقلهم و طريقة اشتغالها تقاوم فكرة الاستقلالية التامة للعقل وحريته المطلقة فى التفكير دون قيود غير قيوده الذاتية. بالاضافة الى ذلك يجب التساؤل ما الذى يدفع الاسلاميين لحمل راية تنويرية تساهم فى توليد قوى سوف تكون بالضرورة ضد مشروعهم الاسلامى وامتيازاتهم الاجتماعية. فالاسلامى الذى يصل وعية لدرجة الدفع فى اتجاه التغيير الجذرى لا يمكن باى حال اعتباره اسلامى بل هو عقل طليق انتفض على ذاته ومهيأ للتصادم مع قوى الظلام.
والصاوى فى صياغته لخطابه حول التغيير اتسم بشجاعة ادبية عالية ليس فقط بأعلانه للقطع النهائى مع نمط التفكير الشمولى الذى تكّون فيه كيسارى بعثى (ص327) وانحيازه غير المشروط للديمقراطية السياسية بل ايضا فى اعلانه بضرورة التحاف مع الغرب وحتى بعض الاسلاميين من اجل استعادة الديمقراطية. هذا النمط من التفكير فى اللا مفكر فيه يساريا يغرى بمحاولة استكشاف التحولات الفكرية التى يشهدها اليسار السودانى ممثلا فى الاستاذ الصاوى الذى له مساهمات جادة فى المجالات الفكرية والسياسية سودانيا وعربيا ودوليا. واخيرا لا يسعنا الا ان نورد التعريف الذيأعطاه ادورد سعيد للمثقف ونقول ان الأستاذ الصاوى " قد وهب ملكة عقلية لتوضيح رسالة,او وجهة نظر او موقف, وجلاء هذا الموقف الى الجمهور من خلال اللغة. وهو انسان ليس من السهل على المؤسسات استيعابه" (ص 211)
KAMIL MAAROUF [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.