روسيا ترفض لتدخلات الأجنبية في السودان ومخططات تمزيقه    البرهان يودع سفيري السودان لمصر واثيوبيا "الفريق أول ركن مهندس عماد الدين عدوي والسفير الزين إبراهين حسين"    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    أرسنال يحسم الديربي بثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. الناشط صلاح سندالة يسخر من المطربة المصرية "جواهر" بعد ترديدها الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله) خلال حفل بالقاهرة    طباخ لجنة التسيير جاب ضقلها بكركب!    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    وزير الصحة: الجيش الأبيض يخدم بشجاعة في كل ولايات السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    تجارة المعاداة للسامية    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    الانتفاضات الطلابية مجدداً    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    استجابة للسودان مجلس الأمن يعقد اجتماعا خاصا يوم الاثنين لمناقشة العدوان الإماراتي    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    السودان..البرهان يصدر قراراً    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الغنوشي … مفكر إسلامي أم سياسي حركي حديث؟
نشر في حريات يوم 23 - 12 - 2014


الحلقة الثانية
حيدر إبراهيم علي
[email protected]
أواصل محاورة أفكار الشيخ (راشد الغنوشي) ورغم استعطافي للقراء الكرام عدم شخصنة الأمور، إلا أن هناك من يصر بحسن نية أوسوء طوية، علي النزول بالفكري لمستوي العقد النفسية، مُنصّبا من نفسه (فرويد) آخر، مفتشا في عقليّ الباطن ومتجاهلا أفكاري الظاهرة والمعلنة. ولكنني استمر في نهجي، وتحاور هذه الحلقة الاسهامات الفكرية للشيخ (راشد الغنوشي) فهو مقل في الكتابات الفكرية العميقة، لأنه يعتقد أن الكتابات السياسية بطابعها الصحفي والتعليمي أكثر فعالية في الإنتشار والحشد. لذلك، يمكن أن نعتبر أن الكتاب الفكري الوحيد، هو: "الحريات العامة في الدولة الإسلامية"، والصادرعن مركز دراسات الوحدة ببيروت1989م. أمّا بقية الإصدارات فهي لا تتعدي مجرد كراسات عن الحركة الإسلامية، ليس بسبب حجمها ولكن لمحدودية القضايا المطروحة. ومن بينها علي سبيل المثال: "الحركة الإسلامية في تونس"، عن دار القلم بالخرطوم1991، و"الحركة الإسلامية والتغيير" عن المركز المغاربي للبحوث والترجمة بلندن2001م. ومقالات في دوريات مثل: "قراءات سياسية"و"الإنسان"، وصحف مغاربية. وبالتأكيد لايمكن مقارنة نتاجه "الفكري"بمحمد عابد الجابري، أو حسن حنفي، أو محمد أركون، أو جورج طرابيشي، أو رضوان السيد أو حتي محمد عمارة، ويوسف القرضاوي. فقد شغلته السياسة عن الفكر والتأمل والكتابة، وأخذت الكثير من تفكيره ووقته.
يتطلب البحث عن مدى إسهام (الغنوشي) التجديدي، البحث عن النشاة الأولي للحركة الإسلامية التونسية. فقد كان (الغنوشي) شديد الإعجاب والتأثر بحركة (الإخوان المسلمين) . لذلك سرعان ما أنفصلت عنه حركة (الإسلاميين التقدميين) عام1982م أي بعد ثلاثة أعوام فقط من التأسيس. ولأنه كما يُقال وبضدها تتميز الأشياء، لابد من التوقف عند الفكريين. فقد كان الخلاف الأساسي حول أولوية الحركية أم الفكروية؟ فقد كان واضحا أن المجموعة التي انشقت عن (الغنوشي) كانت أميل لما يسمي ب(مدرسة التربية)، وللثقافي والفكري أكثر من التنظيمي والسياسوي. ويكتب بيانهم التأسيسي المعنون (المقدمات النظرية للإسلاميين التقدميّين. لماذا الإسلام؟ وكيف نفهمه؟ ) مجذّرا حقيقة الوضع: " الأزمة أعمق من مجرد استعارة أشكال في التنظيم والتربية أو استهلاك غير واع لأدبيات (الإخوان) . لقد أخذت النقاشات تمتدّ وتغوص إلي أن لامست الفكر الديني السائد منذ قرون. ومن هنا جاء التركيز علي نقد (الخطاب السلفي) حاضرا وماضيا وتحميله مسؤولية التردي الفكري والسياسي. والسلفية التي انُتقدت تبدأ من نقد مرجعية الحركة الإسلامية المعاصرة (حسن البنا، سيد قطب، المودودي) لتصل تاريخيا إلي المدرسة الأشعرية والسلسلة الموصولة بالشيخ أبن تيمية". (ص13) . ويرون إعادة الإعتبار للأفغاني ومحمد عبدة والكواكبي، مضيفين: "هذه الرموز التي حاول الأدب الإخواني دفنها والتشكيك في قيمتها التاريخية ومشروعيتها في الإصلاح، بالرغم من أنها لم تقطع تماما مع الفضاء السلفي، وإن أضفت عليه أبعادا تحديثية هامّة". (نفس المصدر السابق) .
قدمت حركة (الإسلاميين التقدميين) نفسها كحركة بديلة ل (حركة الإتجاه الإسلامي) بزعامة الغنوشي، تكون مغايرة في فكرها ونظرتها لمنهج التغيير، وأساليبها في التنظيم، وكيفية إدارتها للعمل السياسي". (الجورشي، 2010: 200) . ويؤكدون علي: " أولويّة العقلي والثقافي سواء في فهم آليّات الأزمة أو في بلوغ تحديث اجتماعي واقتصادي وسياسي للمجتمع والدّولة". وفي نفس الوقت ينبهون إلي أن: " الحديث عن أولوية العمل الثقافي في مشروع التغيير لا يعني إسقاط النضال السياسي من الحساب أو التقليص من أهميته، وإنما يعني أن السياسة إذا انفصلت عن الأخلاق ولم تعد تعبر عن مشروع نهضوي، اصبحت هدفا لذاتها بدل أن تكون وسيلة لتشريح الواقع وإعادة توزيع السلطة من جديد علي القوى الحية والعاملة بالبلاد، عندها تتحول إلي نشاط حزبي يهدف إلي خدمة مصالح الحزب قبل مصالح الشعب، وتصبح السياسة احترا فا بالمعنى اللينيني". (نفس المصدر السابق، ص201) . فالمسألة ليست افتعال التناقض بين السياسي والثقافي، ولكنها دعوة لفهم السياسي من جهة والثقافي من جهة ثانية، مع البحث عن صيغة جدلية تؤسس لعلاقة بينهما لصالح المجتمع المدني. (نفس المصدر السابق) .
أخذوا علي الفكر الذي تأثر به (الغنوشي) وتبناه، العيوب التالية: "… كانت الملامح الأولي نصيّة إلي حد كبير، أخلاقية إلي درجة التبسيط والإخلال، غارقة في الماضوية واللاتاريخية إلي درجة غير خافية، مبتورة الصلة بالواقع الشعبي والسياسي، وعاطفية إلي حدّ التوتر، سطحية من حيث الرصيد والوضوح الاستراتيجي". (ص7) . وفي نفس الوقت، بيّنوا ملامح تميز حركتهم، بينما هذه الملامح غائبة لدي (الغنوشي) وحركة النهضة. ومن البداية يضفون علي خطابهم النسبية والاستعداد الدائم للمراجعة كلّما عجز عن تفسير ظاهرة أو فقد القدرة علي التعبئة والاقناع- حسب قولهم. ويجملون مواصفات الخطاب الإسلامي التقدمي، في: الإسلامية والمستقبلية، الوعي التاريخي، وضرورة الاختلاف ومشروعّيته، أوليّة العامل الثقافي، التنوير والعقلانية، تجديد التراث، الخروج من التبسيط والتعميم، الفهم المقاصدي للنصوص. (المنطلقات ص 50-52) .
من الاسهامات الفكرية للإسلاميين التقدميين والتي تظهر تقليدية أو ضعف الغنوشي الفكري، الخلاف حول فهم النص القرآني وتفسيره. فقد ركز "الإسلاميون التقدميون" علي "الفهم المقاصدي للنصوص". ويقولون في المقدمات النظرية: "يري الإسلاميّون التقدميون أن تفسير نصوص الوحي تحتاج إلي تكامل عدّة علوم وخبرات. إلّا أنّ ما يميز هذا التفسير هو الفهم المقاصدي الذي يتناول النصوص في سياقها التاريخي وظروف تنزيلها من أجل ربطها بخصوصيات مرحلتها ورؤيتها بصفة متكاملة من أجل اكتشاف مؤشراتها العامة التي تمثل مقاصد الوحي فالنصوص لا تفهم في فراغ بل من خلال واقع اجتماعي وتاريخي محدّد". (ص52) . بينما يتمسك (الغنوشي) بالفهم التقليدي للنصوص حين يرفض الفهم المقاصدي ، رغم تحفظه علي موقف القدماء، ويكتب: " التطور يجب أن يتم في إطار المعلوم من الدين بالضرورة، فما هو ثابت نصا يقينيا، ماهو يقيني في مورده واضح في معناه من النصوص لا نملك أمامه إلا التسليم". (مجلة"تونس الشهيدة"، السنة الثالثة، العدد 35، يوليو 1996) . ويقول بأنه يمكن أن نُطبق بعضه الآن؛لأن ظروف التطبيق غير متوفرة، ولكن لا نستطيع أن نحوله عن اتجاهه. ألّا نحس بلمحة من فهم القرآن المكي والمدني عند الاستاذ محمود محمد طه؟ ويواصل: " ولا فائدة من ضرب الأمثلة القليلة في هذا الصدد للتدليل علي فساد هذا المنهج، لأن البديل أن نعطي عقولنا إمكانية التحرر من النص بتخريج مقاصدي. . هذا في النهاية يلغي سلطة النص، يلغي سلطة الوحي". أورده (الجورشي) ايضا، وعلق عليه: ". . . عرضهم لنقد شديد من خصومهم الذين اتهموهم بإلغاء النصوص وتعطيل الأحكام. ونظرا لخطورة التهمة التي تتضمن تكفيرا صريحا، كانوا يؤكدون في كتاباتهم وحواراتهم علي أن تجاوز النص من خلال النص منهجية قرآنية، تمت ممارستها عن طريق النسخ". (ص219) .
يتعامل (الغنوشي) مع قضية المرأة علي مستوى العموميات والخطابية. فهو لم يقدم خطابا إسلاميا تأصيلا يتجاوز أو يدعم دينيا مجلة الاحوال الشخصية . فهو وحزبه لا يستطيعون رفضها مباشرة وصراحة، فقد تحولت لمرجعية وطنية حداثية، يصعب الوقوف ضده، رغم وجود قطاعات داخل حزب النهضة تتحفظ عليها. إذ لم تكن للغنوشي والجماعة، رؤية واضحة. ويكتب (الجورشي) وهو من المؤسسين: "ولدت الحركة الإسلامية التونسية محافظة جدا في معالجاتها لقضايا المرأة، رغم انتسابها لبلد تقدم اشواطا واسعة في مجال تغيير أوضاع المرأة من حيث تعليمهن ومشاركتهن في الحياة العامة، وتمكينهن من حقوقهن الأساسية عن طريق إصدار مجلة جديدة للأحوال الشخصية لا تزال تشكل نموذجا تسعي له بقية النساء في العالمين العربي والإسلامي". (2010:109) ويأخذ علي الحركة الطابع الأخلاقوي، فقد تم التركيز في تناول قضايا المرأة التونسية " علي كل ما يتعلق بمظهرها وما شاب سلوك بعض الشرائح النسائية من تفسخ أو"تحرر"مبالغ فيه". (نفس المصدر السابق) . وشددت الجماعة حينئذ علي مسائل الحياء والحجاب ومحاربة الاختلاط ومنع المصفاحة بين الذكور والإناث وتحريم الزينة والاهتمام بالشؤون المزلية.
في سؤال عن السلفية، يرد (الغنوشي): "أنا لست مصرا كما ذكرت علي استعمال هذا المصطلح، إذا كان أسيرا لجملة من الاوهام والمعاني الخاطئة المناقضة للتجديد. لأن هذا المصطلح لم يرد في الكتاب ولا في السنة، ولا الزمت به الشريعة. وإنما نحته مفكرون مسلمون، للتمييز ، أو للدلالة به علي خط أو تيار الاصلاح والتجديد انطلاقا من الاصول". (حوار قصى، ص44) . أترك للقارئ أن يحكم: كيف يتعامل"مفكر مجدد" مع المصطلحات والمفاهيم، والتي هي مادة ومكونات الفكر؟
استوقفني سؤال السيد (لودز): ماهو الإسلام الذي نريده للشعوب العربية؟ وكم منه نريد في السياسة والحياة اليومية؟ وقد وجد الرد هو والاستاذ (خالد دفع الله) في دستور (الغنوشي) مؤسس على نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بوصفه واحدا من أركانه، وحذف الشريعة كأحد مصادر التشريع، كما حددت نصوص الدستور الفصل بين الدولة والدين، وتعزيز حقوق المرأة. وأيضا ردا على قتل السياسيين المعارضين وضعت عقوبة جنائية تجرم التكفير الشائع بين السلفيين والجهاديين. وتنازله عن العديد من القواعد والمرتكزات التي وسمت توجهاته الدينية مثل إباحة الخمر والإحتفاظ بأدوات الترويج السياحي والمساواة بين الرجل والمرأة. والسؤال: ماذا تبقي من مقومات الدولة الإسلامية؟ ولماذا يأخذ مثل هذه النظام صفة إسلامي وما الذي يميزه عن أي نظام علماني ليبرالي آخر؟ ويطلق الباحثون علي مثل هذه التوجهات الجديدة، مرحلة "مابعد الإسلاموية"حيث تخلت حركات الإسلام السياسي عن كل "ثوابتها"المميزة لها، بل حتي تسمياتها التي تنسبها للإسلام. فالآن لا نجد أيّ حزب إسلامي يضيف لإسمه صفة إسلامي أو مسلم. وتنتشر من تركيا حتي المغرب، أحزاب (العدالة والتنمية) مرورا بالحرية والعدالة، والمؤتمر الوطني أو الشعبي، والعدالة والبناء، والنور... الخ. فهذه تنازلات رآها الإسلاميون ضرورية للإندماج في أي عملية ديمقراطية داخلية، حتي ولو فقدوا خصوصيتهم. ومن أجل الوصول لهذه الصيغة اختار (الغنوشي) بالذات توفيقية مستعصية ومتأزمة، وهي تعاني من عدة تناقضات وأزمات. فهو يحاول رفع تناقض ثنائيات متوازيات وفي الهندسة المتوازيان لا يلتقيان أبدا. فمن البداية يحاول توظيف منهجين مختلفين من حيث الطبيعة والمضمون، ويكتب (أبو اللّوز عبدالحكيم) أنه "يبدأ باستخدام الاستقراء والتحليل العقلي، أي نظام نقدي وعلمي وموضوعي، حتي إذا بلغ منطق الاختلاف حدا لا يمكن مواصلة التوفيق معه" لجأ للتسليم بالحقائق الإيمانية والباطنية". وذلك لأن توفيقية (الغنوشي) لا تسير بالتحليل العقلي إلي نهايته المنطقية بل تقيدها الحدود الاعتقادية الدينية. (كتاب: إشكالية الدين والسياسة في تونس، القاهرة، مكتبة رؤية، 2011، ص390) .
تعتبر التوفيقية هي الاختيار المنهجي المفضل لدي المجددين الإسلاميين. ولكنها تتعامل مع الحداثة كأدوات ووسائل واجراءات، بعد تفريغها من مضامينها الفلسسفية. ونلاحظ هذا الموقف مع كل منتجات الحداثة بالذات مع الديمقراطية. وهذه هي الطريقة التي تعامل بها (الغنوشي) مع المفاهيم الحديثة. فهو لم يتقيد بمعانيها حسب إطارها المرجعي الأصلي، فأخرجها من سياقها التاريخي والدلالي بقصد توظيفها بحرية لخدمة مشروعه السياسي. ويقول (أبواللّوز): "مما يمكن اعتباره توترا بين صفة الباحث-المنظر، وبين صفة السياسي في شخصية الغنوشي". (نفس المصدر السابق). ويصادف هذا التناقض في محاولة التوفيق بين الخصوصية والعالمية، وبين الروحي والمادي. وقد فشل تماما في التوفيق بين الأفكار الإسلامية والمفاهيم الغربية، رغم كل التنازلات والتحايل.
في النهاية، تشهد(حركة النهضة) هذه الأيام، صراعا يهدد وجودها، وذلك بعد استقالة (الجبالي) أمينها العام السابق، ورئيس وزراء الترويكا السابق وعدد من القيادات التاريخية. وأردت الصحف خبر انسحاب القيادي(اللوز) بأن حث في بيانه الغنوشي أن يتحمل مسؤوليته كاملة لوقف التجاوزات. وقال مراقبون إن بيانيّ(اللوز وشورو) فيهما تلويح واضح بالانسحاب ما لم يعمد الغنوشي إلى وقف "التفلّت" الذي يمارسه المكتب التنفيذي بما يعنيه من التفاف على قرارات مجلس الشورى. لكن المراقبين لفتوا إلى أن الغنوشي نفسه هو من تتجه له سهام النقد والاحتجاج لتجاوزه مؤسسات الحركة، والتصرف وكأنها غير موجودة، وهذا هو السبب الحقيقي لاستقالة الجبالي الذي أسرّ لمقربين منه أن وجوده لم يعد ذا فائدة مادام القرار يؤخذ دون استشارته هو والقيادات التاريخية. (14/12/2014) .
تعقيب إجباري:
لم يطق الاستاذ (خالد موسى دفع الله) صبرا حتي تكتمل حلقات موضوع (الغنوشي) كما يقتضي العرف الصحفي، وكما تقتضي الموضوعية التي ينصحني بها. كما أن الاستاذ (خالد) لجأ لعنوان "دكاكيني" يتعارض مع رصانته، وأتمني ألا يلحق به فيروس الصحافة السودانية الهابط. والرجل أعدّه من الكرام والنبلاء الذين أختلف معهم، واتمني ألّا يسحب من رصيده في التقدير،بطيش وعشوائية.
أولا: استهل مقاله باستشهاد كثيف الخبث واللؤم رغم شخصيته التي أعرفها، وهذا نصه: " فقال عزمي بشارة إن سعيد عقل هو إنسان صغير ولكنه أنتج أدبا كبيرا". هناك فهمان واحتمالان، إن كان يقصد الجانب الفيزيقي المادي، فأنا فعلا صغير الجثة أو الجسم: مائة وخمسة وخمسون سم وكم وسبعين كيلو غرام. أمّا لو قصد الجانب المعنوي والأخلاقي، فالحمد لله فلي فقط قلب ضخم وعظيم تكفي إنسانيته لأنسنة عضوية مؤتمرين: وطني وشعبي لمعاناتهم من انيميا الإنسانية، لو وزعها. وأنا أفخر بقيمتي لأنني لم اتزحزح من مواقفي وقناعاتي ومبادئي ، رغم أنني لا ولم يسندني حزب أو طائفة ولا قبيلة ولا نظام ولا امتيازات سفارة. هذه أعلي قيمة لأيّ إنسان، أن يمسك بجمرة الحق أو ما يراه حقا. وعندنا مثل سوداني يقول: الرجال ما بيقيسوها تياب. وبالمناسبة أين (عزمي) الذي تستشهد به هذا في جغرافية وخريطة المواقف الفكرية والسياسية؟
ثانيا: للأستاذ (خالد) طريقة أقرب إلي عمل الحواة في التهرب من الرد المباشر. لم يستطع دفع تهمة الفظاظة وعدم احترام الناس عن شيخه (الترابي) . فالتوي قوله: بأن الغنوشي من مدرسة الترابي. طيب مالو؟ ممكن يكون من مدرسته في السياسة والفكر، ولكن يختلف عنه في الأخلاق والسلوك. هل لك أن تقارن بنفسك بين الرجلين في هذا المضمار الاخلاقي والسلوك وتبين فضائل شيخك؟
ثالثا: يتحدث الاستاذ (خالد) عن فشل التجربة الترابية في السودان وكأنها مجرد حادثة مرور أو سقوط في مادة في اختبار في امتحان نهائي. أرجو أن يحترم الإسلاميون عقولنا مرة واحدة ويقدموا تقييما واحدا يخضع للموضوعية التي يعيروننا بغيابها في أحكامنا. وهذا سبب كراهيتي العقلانية وليس الغريزية للإسلاميين: عدم الشجاعة في قول الحقيقة وتحمل المسؤولية.
رابعا: أبحث باجابة حتي لو بلا أو نعم، وأتعهد بالتخلي عن كل الإنحيازات والتعصب:
- هل يمكن أن تعطيني مثالا واحدا لمفكر في التاريخ استخدم الدبابة والسلاح في نشر أفكاره؟
- هل لديك مثال لمفكر كذب جهارا: أنت تمشي القصر وأنا أمشي السجن؟
- هل سمعت بمفكر وفقيه قانوني، يرفع له شخص(عبدالباقي)المحامي في(لندن) ساقه المبتورة من التعذيب في بيوت الأشباح. ويرد بأن ذلك نتيجة مرض، عوضا عن أن يعد بفتح تحقيق لدرء التهمة عن نظامه. ويحدث ذلك في بلد ديمقراطي ويجلس إلي جواره ملحقه الإعلامي الذي صار،آخر الزمن، يعطي الدروس في الديمقراطية ويلعن من لم يدعموا ديمقراطية الإخوان في مصر . هؤلاء ياسيدي المفكرون الإسلاميون ومواقفهم من التعذيب والقمع حين يكون في صالح دولتهم الربانية.
- باختصار ما هي القيم التي تري أن المفكر لابد أن يتحلي غير تلك التي نصحتني بها؟
أهتم بالرد علي الاستاذ (خالد موسى دفع الله)لأنه في النهاية عقل سوداني بغض النظر عن أين يقف؟ شرط أن يشفيه الله من الوثوقيات والدوغمائيات وعبادة الأشخاص، وأن يأخذ مما ينصح الناس به.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.