نهلة الشهال العبارة الأولى قالها أريك غارنر في 17 تموز (يوليو) الفائت بينما كان يجثم فوق صدره شرطي نيويوركي (أبيض) بعدما أمسك بخناقه ورماه أرضاً متسبباً بموته، وهو ما حدث أمام عين كاميرا التقطت شريط فيديو يصور الحادثة بالتفصيل. والثانية قالها منذ أيام زياد أبو عين، الوزير الفلسطيني وهو يتحشرج لأن جندياً إسرائيلياً ضغط بقبضة يده على عنقه بينما كان جندي آخر يضرب رأسه وصدره بقبضة بندقيته… أمام عين الكاميرا كذلك. الشريطان انتشرا وشاهدهما الملايين. وبينهما زمان ومكان، وكلاهما ينتمي إلى سياقه الخاص. ورغم تشابههما المثير، قد يُظن أن الحادث الأول عرضي فيما الثاني نمطي. وهذا فيه بعض الصحة وكثير من الخطأ. الجملتان صارتا شعاراً. الأولى حملها بكثافة متظاهرون ومعتصمون احتجاجاً على قرار اتخذته هيئة محلفين مدنية في الثالث من الشهر الجاري بعدم ملاحقة قاتل غارنر. انفجر الاحتجاج في نيويورك وسائر المدن الأميركية، وتخطى الأطلسي لتشتعل تظاهرات ضد العنصرية في لندن. والثانية لسان حال الفلسطينيين كل يوم، ولولا أن أبو عين وزير وقيادي في حركة فتح، لمرّ الاعتداء عليه كما تمر سائر الحوادث القاتلة، المعتادة، ما يعزز فعلياً الغضب الفلسطيني الذي يعود فينفجر كيفما تسنى له، بعمليات دهس للمستوطنين الإسرائيليين بسيارة أو جرافة أو بعمليات طعن أو تفجير… تتوالد وتتكرر إلى ما شاء الله، منبئة بالاستعصاء التام القائم: لا الإسرائيليون يمكنهم التصرف بتحضّر، وإلا تقهقرت سطوتهم بسرعة وغُلبوا، فهم فاقدو الحق، ولا يمكنهم التخلي عن هذه الوسائل إذ لا بدائل سواها لمحاولة إرهاب الفلسطينيين. بل إن هذه لا تفعل ولا تردع، فكيف ما هو أكثر نعومة منها؟ ولا الفلسطينيون يمكنهم السكوت عن قتلهم وإذلالهم والسعي لسحقهم وتهجيرهم، وهو يعترضون بالوسائل المتاحة لهم، فلا حرج عليهم وفق كل الأعراف والتقاليد النضالية، بل وفق القوانين الأساسية في العالم. يُفترض أن الأمر مختلف تماماً في الولاياتالمتحدة الأميركية التي انتهت رسمياً، قبل خمسين عاماً بالتمام، من التمييز العنصري، بإلغاء آخر قوانين جيم كرو المؤسسة للفصل العنصري في البلاد، وانتخبت للمرة الأولى في 2008 رجلاً أسود لرئاستها، وأعادت انتخابه. لا يكفي. تلك قناعة طغت بعدما قتل البوليس الأميركي مؤخراً خمسة زنوج في أنحاء متفرقة من الولاياتالمتحدة، بينهم طفل ومراهقان، وجميعهم كانوا غير مسلحين ولا يمثلون تهديداً، ولكنه جرى في كل مرة إعفاء القاتل من المسؤولية، إذ برأته المحكمة أو هيئة المحلفين. اشتعلت تظاهرات الاحتجاج في مدينة فيرغسون (حيث 70 في المئة من سكانها زنوج، بينما 85 في المئة من شرطتها بيض، وهذا ليس وضعاً استثنائياً)، يوم مقتل مايكل براون، المراهق ابن المدينة الذي أطلق عليه الشرطي النار في آب (أغسطس) الماضي (أفرغ فيه كل طلقات مسدسه، مفسراً سلوكه بأن وجهه كان مرعباً بالنسبة له، ومهدداً: «وجه شيطان» قال). قبله في 2012، قُتل مراهق آخر في فلوريدا لمجرد أنه كان يخفي رأسه بالقبعة المتصلة بردائه. قال الحارس في حيه الذي أطلق عليه النار إنه «بدا له مشبوهاً»! فوجدت الهيئة الأمر منطقياً. وحين انطلقت تظاهرات الاحتجاج (وكانت وقتها حزينة)، قال الرئيس أوباما إن الولد كان يمكن أن يكون ابنه، فبدأ مؤثراً، وانتظر الناس التدبير الدال. لكن قاتله بُرّئ. وبعد تبرئة قاتل براون في 24 تشرين الثاني (نوفمبر) الفائت، اشتعلت فيرغسون مجدداً بعنف شديد هذه المرة، ترافق مع عمليات تكسير وحرق ونهب، واشتعلت معها عشرات المدن على امتداد الولاياتالمتحدة، لكن أوباما قال إنه يطلب من الغاضبين القبول بالحكم، فبدا بيروقراطياً وفي غاية العجز. صارت فيرغسون علامة فارقة، اسماً لقضية وليس لمدينة. وصدرت الأرقام المفحِمة في أي نقاش: يمكن أن يتعرض شاب زنجي 21 مرة أكثر لخطر القتل على يد شرطي مقارنة بشاب أبيض. وخرجت الصحف تقول إن «جريمة غارنر أنه كان يمتلك… اللون الخطأ»، أو أن «الشرطي الأبيض يشعر أنه يمكن الاستغناء عن وجود الرجل الأسود في المشهد المديني»، كما قالت «نيويورك تايمز». وعلى رغم ذلك لم يتوقف القتل. في 22 تشرين الثاني قَتل شرطي في أوهايو طفلاً أسود في الثانية عشرة من عمره، لأنه كان يلعب بمسدس بلاستيكي ويقلد الكاوبوي. وهناك شريط لكاميرا مراقبة يظهر أن الولد كان يلعب وأن المسدس لعبة. وفي 4 الشهر الجاري قتل في أريزونا زنجي يبيع مخدرات في الشارع لأن الشرطي «شك بوجود مسدس في جيبه»، وتبين بعد ذلك أنه لم يكن مسلحاً… لعل محكمة فيديرالية ستنقض قرار هيئة المحلفين في ما يخص براون. لعل التحقيق الفيدرالي الذي أعلن مباشرته وزير العدل غداة الحكم بتبرئة قاتل غارنر، سينتهي إلى أن «حقوقه المدنية انتُهكت»، على ما أمل الوزير. والرئيس أوباما قال إنه سيطلب تمويلاً يبلغ 263 مليون دولار لتحديث التجهيزات البوليسية، تتضمن وضع كاميرات ملتصقة بثياب كل شرطي! التمييز العنصري انتهى قانونياً في تلك البلاد، بخلاف إسرائيل التي تتفنن بسن قوانين إضافية تعززه، فوق ما يمثل وجودها نفسه من ظلم وانتهاك بيّنين. لكن النظام القضائي الأميركي ومنظومته يعانيان من تشوهات واعوجاجات عميقة، أعاد تتابع الحوادث الأخيرة فتح العيون (السوداء وبعض البيضاء) عليها… وهي نتاج تمييزات أخرى ما زالت قائمة: تلك العنصرية التي تعشش في عقول الناس وتصوراتهم عامة، ومنهم أفراد الشرطة والقضاة والمحققون. وذلك الاستهتار الذي يجعل هيئة المحلفين في قضية براون مثلاً مشكّلة من 12 شخصاً منهم 3 زنوج فحسب. وهناك ما هو أصعب: المعطى الذي يؤكد أن متوسط دخل العائلة البيضاء أعلى بنسبة 70 في المئة من دخل العائلة الزنجية (على رغم وجود نخبة سوداء كتلك التي ينتمي إليها أوباما نفسه، ومن اتساع متحقق في حجم الطبقة الوسطى الزنجية)، والآخر الذي يقول إن ما معدله واحد من ثلاثة زنوج يدخل السجن في حياته… مارتن لوثر كينغ قال في زمانه: «لا سلم بلا عدالة». هاكم الدليل.