سيف الحق حسن يقول الله تعالى: ((ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين…)) [المائدة: 10]. وهذه الفئة هي التي تقيم العدل، المقسطين الذين يحبهم الله ((إن الله يحب المقسطين)). ويقول الله عنهم أيضا: فهؤلاء هم الشهداء الذين لم ينجرفوا وراء الطائفية والعصبية ويقولون كلمة الحق ولو على أنفسهم أو الوالدين أو كل قريب. وفي معركة الجمل فائت أمنا السيدة عائشة لأمر الله ولكن هل فاء معاوية أو تعظ!. فمن أثار ذلك داء المفاصلات والمفاضلات الذي إنقلب إلى كارثة وإرث قمئ على الأمة. فأثر الجدل بين الشيعة وأهل السنة امتد من تلك الفترة إلى الآن، وهو بائن بين المسلمين بالانشغال بمن هو أفضل عند الله ومن ثم التراشق ونسيان حال الناس وما حل بها من كيد ودمار. فبعد كم من قرن يحكى المؤرخ آدم متز في كتابه "الحضارة الإسلامية" بأن قوما من الدجالين في القرن الرابع الميلادي كانوا يقفون في أسواق العراق فيشرع أحدهم بذكر فضائل علي، ويقف الآخر من الجانب المقابل فيشرع بذكر فضائل أبي بكر وعمر. وعندها يتهافت الناس عليهم و يرمي كل واحد منهم الدراهم على حسب تعصبه، ومن يحب أن يسمع مدحه. وفي نهاية اليوم يقوم الدجالون بتقاسم الدراهم التي كسبوها من أولئك المغفلين من الشيعة ومن أهل السنة والجماعة. وعندما تسمع رجال الدين من الطرفين هذه الأيام تتذكر هذه المهزلة. وكوننا ننخرط معهم ونريد أن نعرف أيهما أفضل في الدين فهذا جهل ومدعاة لزيادة الفرقة أيضا. فلن نعرف ولن يرجع الذين مضوا ولو ملأنا الدنيا عليهم خصاما وخلافا. ولن يستفيد أحد غير مزيد من الفتنة، ولا ينصلح حال أمتنا أساسا إذا تمكنا فعلا من معرفة أفضلهم، فلماذا الجدل إلى الآن؟. والله تعالى يقول ((تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون)) [البقرة: 134]، ولا يهمنا أساسا أفضلهم بمقدار ما يهمنا معرفة طبيعة النزاع وماذا قدموا لمجتمعهم وللأمة والدرس الذي نستفيده. وإن كان هناك ثمة خلاف بين الراشدين فإنه كان خلافا سياسيا وليس دينيا، ولم يقحم فيه الدين أساسا. وكل كان لديه أخطاء، فهم في النهاية بشر، ولكنهم كانوا ثابتين في المبادئ العليا للإسلام وقيمه ومثله وتحقيق العدالة الإجتماعية. فكل منهم كان عادلا ويريد الحق وينصر المستضعفين ولا يظلم ولا يستبد. وفي فترة حكمهم وبإجماع الروايات والتأريخ تشهد برشاد حكمهم. أما أفضلهم ودرجاتهم فالعلم عند الله. ولكن بسبب التعصب توالت الفرق والانشقاقات والتراشقات والتهم بالتكفير والزندقة. وكليهما – أهل السنة و الشيعة – عندما وجدوا الفرصة في الحكم صادروا الحريات وتعصبوا لفرقتهم ونكلوا بالأخرى. ومن ثم ظهرت فرق أخرى آثرت الإبتعاد عن السياسة والخوض فيها فالبطش والقمع كان على أوجه. وآثروا أن يكونوا كأصحاب الكهف واهتموا بالدين وركزوا في علومه، والذي سموا فيما بعد بالسلف الصالح للأمة، ثم جاء من بعدهم الطرق الصوفية و التي أرتأت في ذكر الله والمساجد والزوايا ملاذا من السياسة وخبثها والحكام وجورهم. و قد إجتهدوا في إحياء الدين وكانوا جميعا حملة الدعوة الفعليين في نشرها في الأرض، وليس عبر حروب السلاطين والممالك كما يتوهم الكثير. تفاقم داء التعصب.. وهذا المزيج أيضا لم يسلم من روح العصبية والجهل. ووجد الحكام الظالمون الأرض الخصبة لاستمالة من يناصرهم. وبسياسة فرق تسد السلطانية ضربوا بعضهم بعضا. ثم نشأت العداوة بينهما ليستعين كل فريق بأسلحة الأدلة العلمية والنقلية ليثبت أنه على صواب والآخر على خطأ. ونسوا أن الاختلاف سنة الله والله يريدهم فقط أن يتراحموا فيما بينهم ويعيشوا في أمن مسالمين كما يقول تعالى: ((ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين*إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين)) [هود: 119]. فالله تعالى يريد التراحم وعدم التكبر فيما بينهم، والعيش مع بعض رغم إختلافهم مع إحترام بعضهم البعض. ولكن من يبغي على الآخر ويطغى فجهنم مستعدة لأن يملأها رب العزة بالجنة والناس أجمعين لأنهم نزعوا الرحمة من قلوبهم، ولم يعتبروا لسنة الإختلاف التي جعلها الله تعالى في خلقه. ويقول تعالى: ((ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين)) [البقرة: 251]. وهذا التدافع سنة الله في خلقه، ولكن يجب أن يكون طبيعيا بدون الفساد في الأرض ((إن الله لا يحب المفسدين)) بسفك الدماء والبغي وأكل أموال الناس بالباطل والإعتداء على بعضهم البعض. وفي أخرى يقول سبحانه: ((ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا)) [الحج: 40]. وهنا يقر الله تعالى بحقوق الآخرين من الأديان الأخرى، وحريتهم، وقدم حتى دور عباداتهم على المساجد. إن الله تعالى أمر بالإعتصام بحبله الممدود- القرآن الكريم- الذي يؤمنون به جميعهم ولكنهم لجاوا للروايات والقصص ليقوي كل واحد موقفه. ومن ثم بدأت الطائفية الدينية والحزبية والتي ساعد في إزكاء نارها الفقهاء الأجلاء. فكل فقيه يأتي بالأدلة والبراهين ويلقي بها على جماعته ليعتقدوا أنهم على الحق المطلق وفوق ذلك يظن كل فريق أن الجنة له لوحده وانه يمثل الفرقة الناجية. وحينها تتخذها طائفته كسلاح تتدافع به عن فكرها وتهاجم به الآخرين. وعاقبة ذلك أن يفرح كل فريق بما عنده، ومن ثم تتراكم الاختلافات والسخافات، ثم التكفير، وربما اللجوء للقتل أو أي طرق أخرى للتخلص من الآخر. وكلهم يذكر اسم الله ولكنهم dتمادوk ليقول هؤلاء ليسوا على شئ وهؤلاء ليسوا على شئ –كاليهود والنصارى-، وإن الحق معنا، والله تعالى يقول لهم جميعا: ((ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون)) [المؤمنون: 71]. فهم قد أعرضوا عن حبل الله القرآن، وقد جاءوا بعادات غريبة جعلوها من صلب الدين، كعادة التطبير (ضرب الناس أنفسهم بالسلاسل والحديد حتى تدمى أجسامهم) والتي يقوم بها بعض الشيعة في بعض الاحتفالات الدينية. وبالمقابل، يقول أهل السنة إن الشيعة كلهم على باطل، حتى أننا كنا نسمع أنهم لديهم قرآن محرف يسمى قرآن فاطمة، ويذهب الكثير منهم لتكفيرهم وإخراجهم من الملة. وقد وجد معظم المسلمون أنفسهم مضطرين إلى الانحياز إلى أحد الأطراف. فإذا أتيت لأحد في هذا الزمن وقلت له أنا مسلم، رد عليك مباشرة سائلا: أنت مع أي مذهب وتتبع لأي طائفة أو جماعة أو طريقة أو حركة أو حزب؟!. فأصبح الدين كالفرق والنوادي التي تدخل دورة الألعاب، فلابد أن تنتمي لفريق تلعب معه أو تشجعه على أقل تقدير لتفوز بالكأس. والجميع نسي تبرئة الله لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم من كل هذا بقوله عز وجل: ((إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون)) [الأنعام: 159]. وقد أخذ من هذا الإرث البغيض تشريعات للإيستلاء على الحكم والإستبداد بالناس، وما هو إلا تاريخ لا يمثل الإسلام كدين ينشد العدل والمساواة والحرية والصدق والأمانة. ليتولد بذلك الإسلام السياسي الذي إنبعثت منه كل الفرق من أخوان مسلمين وأنصار الشريعة وسلفيين والجهاد الإسلامي وغيرها من المسميات، وكلهم يندرجوت تحت الإسم الرنان "الإسلاميين"، الذي يستخدمه سياسييهم ليخلطوا به الأمور لكسبهم السياسي والدنيوي الرخيص. ومن تلك العباءة خرجت الجماعات والحركات الإسلامية، ومنها الإرهابية كالقاعدة وداعش وأخواتها. فكل يزعم تمثيل الإسلام الصحيح، لذلك ترى كل جماعة إنها مع الحق وحقها أن تحكم وتفرض حكمها على الناس بشتى السبل والحيل والخديعة والكذب، وبالقوة والعنف والقتل والحديد والنار، ولا تبالي أبدا. فمن تلك الفئة الباغية إنفجر كل البغي و يتواصل إلى الآن. * الحلقة: كيف تفرق بين الحق والباطل (13) بين علي ومعاوية –د-الفاروق علي.. السبت إن شاء الله.