تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يتفقد مستشفى الجكيكة بالمتمة    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    المريخ يتدرب بجدية وعبد اللطيف يركز على الجوانب البدنية    شاهد بالصورة والفيديو.. على أنغام أغنية (حبيب الروح من هواك مجروح) فتاة سودانية تثير ضجة واسعة بتقديمها فواصل من الرقص المثير وهي ترتدي (النقاب)    شاهد بالصور.. بأزياء مثيرة للجدل الحسناء السودانية تسابيح دياب تستعرض جمالها خلال جلسة تصوير بدبي    شاهد بالصور والفيديو.. حسناء سودانية تشعل مواقع التواصل برقصات مثيرة ولقطات رومانسية مع زوجها البريطاني    شاهد بالفيديو.. حسناوات سودانيات بقيادة الفنانة "مونيكا" يقدمن فواصل من الرقص المثير خلال حفل بالقاهرة والجمهور يتغزل: (العسل اتكشح في الصالة)    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب مصري يقتحم حفل غناء شعبي سوداني بالقاهرة ويتفاعل في الرقص ومطرب الحفل يغني له أشهر الأغنيات المصرية: (المال الحلال أهو والنهار دا فرحي يا جدعان)    مخاطر جديدة لإدمان تيك توك    محمد وداعة يكتب: شيخ موسى .. و شيخ الامين    خالد التيجاني النور يكتب: فعاليات باريس: وصفة لإنهاء الحرب، أم لإدارة الأزمة؟    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    قطر.. الداخلية توضح 5 شروط لاستقدام عائلات المقيمين للزيارة    قمة أبوجا لمكافحة الإرهاب.. البحث عن حلول أفريقية خارج الصندوق    إيران : ليس هناك أي خطط للرد على هجوم أصفهان    هل رضيت؟    زيلينسكي: أوكرانيا والولايات المتحدة "بدأتا العمل على اتفاق أمني"    مصر ترفض اتهامات إسرائيلية "باطلة" بشأن الحدود وتؤكد موقفها    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    بعد سرقته وتهريبه قبل أكثر من 3 عقود.. مصر تستعيد تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني    خلد للراحة الجمعة..منتخبنا يعود للتحضيرات بملعب مقر الشباب..استدعاء نجوم الهلال وبوغبا يعود بعد غياب    المدهش هبة السماء لرياضة الوطن    نتنياهو: سنحارب من يفكر بمعاقبة جيشنا    كولر: أهدرنا الفوز في ملعب مازيمبي.. والحسم في القاهرة    إيران وإسرائيل.. من ربح ومن خسر؟    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أنا النبي لا كذب (11) إنفجار الفتنة، الوقوف عليها خير من الوثوب!
نشر في حريات يوم 07 - 02 - 2014


سيف الحق حسن
[email protected]
وتستمر الفتنة مع أن الله جل وعلا يحذرهم: ((إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق)) [البروج: 10]. وظل المنافقون وممن أسلم ظاهريا من بني إسرائيل يكيدون العداء ويأججون الفتن. ومن المحتمل أنهم كانوا على إتصال سري باليهود الذين أجلو وكانوا يشكلون جبهة عداء عريضة في حياته صلوات الله وسلامه عليه، فيستمدون منهم خطط الكيد. فالحليف لا ينسى حليفه مهما طال الزمن.
دهاء في الفارغة ..
وبعد موقعة الجمل لم يبقى إلا معاوية خارجا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. وقد عزل الإمام كل ولاة عثمان السابقين وعين ولاة جدد إلا ان معاوية لم يكن بايع عليا منذ البداية وما يزال مصرا على المطالبة بدم عثمان، ولذلك لم يتنحى من منصب ولاية الشام. ولأنه كان مسيطرا وملجما على أهل الشام تماما لم يثوروا عليه ليجبروه على مبايعة علي. والسؤوال الذي يطرح نفسه: هل كان معاوية حريصا فعلا على دم عثمان أم يرمي لشئ آخر؟. هل كان حريصا على الأمة أم حريصا على مصلحته ومصلحة قبيلته والمكاسب التي يمكن أن يجنيها من هذه القضية؟.
حاول معاوية أولا تقليص الفارق بينه وبين علي بمحاولة قيامه بدهاء بإلغاء أمانة المهاجرين المحافظة على مسيرة رسول الله والثورة وقيادة الأمة ليتساوى هو وأمثاله مع السابقين من المهاجرين الأولين والأنصار، الذين سماهم القرآن الكريم حصريا هذا الإسم. فقد كانوا جلهم في صف الإمام علي إلا قليلا. فكان مع معاوية من الأنصار ثلاثة فقط هم: النعمان بن بشير ومسلمة بن مخلد، ومحمد بن مسلمة الذي إعتزل الفريقين فيما بعد. و لم يكن معه من المهاجرين الأولين أحد، أو الذين شهدوا بدرا. ولكن إلتحق به من هاجروا إلى المدينة قبل الفتح بمدة قصيرة، بعد ما بانت معالم نصر الإسلام تبرز نفر قليلون أيضا كأبي هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة، حيث كان أبو لؤلؤة الذي قتل عمرا مولى عند الأخير.
كان يراسله الإمام علي بأن الطلقاء ليس لهم حق في الحكم أو الخلافة. أما معاوية فكان يرد عليه ولا يذكر تسمية القرآن ويقول لهم "الحجازيين" ويكرر قميص عثمان كذريعة. ثم درج يكتب إسم الصحابة في خطبه ومراسلاته ليساوي بين جماعته وجماعة علي وليلغي تفضيل السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار عليهم. ومن جهة أخرى يحاول الإستمالة من فريق علي بإثارة لابد من القصاص والثأر لمقتل عثمان وإهمال ذكر المهاجرين والأنصار والإكثار من ذكر الصحابة ليحظى بذلك المعنى المقدس و رضي الله عنهم أجمعين، بل ويلحقهم بالصلاة والسلام على النبي وآله و"صحبه" -الكرام.
كان معاوية يتبع سياسة "فرق تسد" و "الغاية تبرر الوسيلة"، و كان بيده المال والسلطان. فأستمال الكثير من المسلمين من نوعية الأعراب الذين يحبون الغنائم، وكانوا يلمزون النبي في الصدقات ((فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها فإذا هم يسخطون)). فأخذ يغدق عليهم من المال ليكونوا بجانبه. فقد كان واليا للشام منذ أيام عمر. وفي الحقيقة إن أرض الشام أرض أموية من قديم حيث لجأ جدهم أمية للشام منذ زمن غلبة الزعامة لهاشم. وقد كان يزيد بن أبي سفيان واليا في زمن أبي بكر. وعندما جاء عمر ولي معاوية. لولا شدة عمر وإستقامة معاوية لهذه الشدة في زمنه وعدم وجود ثغرة لما بقي واليا. ويبدوا إن بقاؤه واليا كل تلك المدة حفزه للطموح الأكبر. و المجتمع في تلك الفترة ما يزال بدويا و لم يكن يفهم أهمية هذا النزاع ليقيف مع الحق ومصلحة الأمة والأجيال المستقبلية. فكل كان يفكر بتفكيره القبلي أو القروي وتفكير لمن الغلبة والسلطان. بذلك يميلون على من يعطيهم من الأموال أكثر ولا يهمهم مصدر المال إذا كان منهوبا او مغصوبا. و كان معاوية وزمرته يشتمونه ويسبونه ويلعنونه في المنابر وأشاعوا مذمته في الأمصار.
بينما الإمام علي لم تكن تلك مبادئه أساسا ليستميل الناس بتلك الطرق الخبيثة ليقلب الموازين لحسابه. فقد كان فارسا أسلوبه الوضوح والمواجهة وعدم اللولوة في الحرب و في السياسة وإستخدام الخدع فيهما. فقد قال: "والله، ما معاوية بأدهى مني، ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس". والإمام علي لا يجاريهم في هذا السفه، ولم يفجر في خصومته. وكان لا يبدأ قتالا إلا بمواجهة، وفي الحروب يكر كرا ويهجم على العدو لا يلوي على شئ. ففي صفين لم يبدأ بقتال جيش معاوية المعتدي إلا بعدما أصر معاوية على القتال. وعندما إستولى على الماء من جنود معاوية لم يمنعهم كما منعوهم. وعندما صرع عمرو بن العاص في القتال، وكاد يهوي عليه بالسيف، فكشف عمرو عن سؤته، صدف بوجهه وتركه آنفا أن يقتل رجلا يخاف من الموت بهذه الدرجة من الجبن. ولو كان غيره لقضى عليه ولا يبالي، كما يسحق ويقضي أي شخص على جرثومة خبيثة ظفر بها.
فهؤلاء أصحاب محمد صلوات الله وسلامه عليه الأصليون، والذين ساروا على سنته وخلقه الكريم، والذين يخلدهم هذا الكتاب الكريم بمكانة المهاجرين والأنصار "الخاصة". "فيا حليلهم" الأوائل القلائل الذين صاروا كأنهم قطرة في بحر في هذا الحشد الحاشد من الصحابة رضي الله عنهم.
حرب الفرقة..
ثم جاءت صفين وكانت حربا طاحنة راح ضحيتها كثير من الأبرياء والصحابة الأتقياء. و كان هناك حوالي ثمانمائة من أصحاب بيعة الرضوان مع علي إستشهد منهم ثلاثمائة، من بينهم الصحابي الجليل، المبشر بالجنة، عمار بن ياسر الذي كان أبويه أول شهيدين في الإسلام. فقد وقف هذا الشيخ و قد ناهز التسعين قائلا: "بالأمس قاتلناكم على تنزيله، واليوم نقاتلكم على تأويله… وإني لا أعلم اليوم عملاً أرضى لك يا رب من جهاد هؤلاء الفاسقين، ولو أعلم اليوم ما هو أرضى منه لفعلته، والله لو ضربونا حتى بلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق وأنهم على الباطل). وعلى القارئ الحصيف أن يتأمل ويتدبر هذه العبارة.
وبعدما كاد الإمام يسحق جيش معاوية لجأ إلى حيلة رفع المصاحف على أسنة الرماح التي أشار بها له الداهية عمرو بن العاص. فلذلك إنقسمت جماعة علي على نفسها. ففريق يرون المصالحة وأخرى يرون مواصلة القتال. وفي النهاية رجع الفريقان إلى مقرهما بعد مهزلة تحكيم، كان بطلها ابن العاص أيضا، لم تحل الأمر بل أنتجت مأساة فيما بعد. و معاوية إلى الشام والإمام علي إلى الكوفة. فعندما رجع أصحاب علي كانوا منقسمين إلى فئتين تشتم إحداهما الأخرى. الفئة التي بقيت مناصرة لعلي سميت بالشيعة، أما الأخرى التي لم ترضى بالتحكيم وخرجت عليه فسميت "الخوارج"، وكفرت الفريقين.
ثم دخلت الغواصات في جماعة علي، وعمل الجواسيس والعملاء بينهم لضربهم وتفريقهم أكثر فأكثر. فئة تكيد له العداء ومنهم النواصب الذين يقولون بفسق الإمام علي، ويشتمونه ولكن لا يكفرونه. وبثت جماعة أخرى للغلو فيه حتى صارت تألهه وقيل إنه أوقد لهم حفرة وأحرقهم فيها!!. وإن كان هذا صحيحا فهل يعقل أن يكون الإمام كهتلر زمانه!. أما الخوارج فدخلوا في حرب مع علي. وكانت تلك كلها جبهات لإثارة القلاقل وعدم إستقراره في الحكم.
ثم بدأوا بإثارة الخلافات للفتنة بأن علي لم يبايع أبوبكر وعمر إلا مكرها، ومن هو الذي كان أولى بالخلافة من أخيه؟. ودعموا كل فريق بأدلة ليزيدوا من تعصبهما. ومن جهة أخري يشيعون بأن عليا خالف سنة الشيخين "أبوبكر وعمر"، بل إنه كان مبغضا لهما. وتارة إنه كان حاسد لهما و هو حانق منهم بإنتزاع حقه في الخلافة. ومهما كان فالرابح معاوية.
والمهم إنه أوحى بأن كل فضيلة تنشر للشيخين هي فضيلة له مباشرة و هو حامي حماها. وإنطلت هذه المكيدة على كثير من المسلمين عاجلا ولاحقا. ومن هنا أسمى الفرقة التي تؤيد أبي بكر وعمر أهل السنة وزاد عليها إسم والجماعة أي هم جماعة معاوية الذين يسيرون على سنة الشيخين وبالتالي أصبح الإسم "أهل السنة والجماعة". بينما بقيت الأخرى التي تتبع لعلي بإسم "الشيعة". وبذلك تشقق إسم الله للمؤمنين الموحدين الذي قاله الله تعالى على لسان نبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام ((ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس)) [الحج: 78 ]. وبالعصبية والفرقة لا يكونوا شهداء على أي أحد وهم يتناحرون ويتقاتلون ويعتدي بعضهم على بعض وكلهم متعصب لإسمه، وكل حزب بما لديهم فرحون.
و نجد الفريقان لاحقا إنغمسوا في تفاصيل لا تهم الأمة بشئ. فأهل السنة والجماعة يرون إن كلاهما –علي ومعاوية- إجتهد واخطأ، مع كل سفك الدماء التي سالت!. فمن أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر!!! بهذه البساطة. فقد قيل إن سبعون ألفا من قضوا في صفين. ولا نريد أن نكون ساذجين، فالله أعلم بمن أخطأ وهو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون، ((من يعمل مثقال ذرة خيرا يره *ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره)) [الزلزلة: 8]. أما الآثار المترتبة على ذلك والتي تهمنا: ((من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون)) [الأنعام: 160].
ألم يلتفت هؤلاء للحديث النبوي العزيز الذي يقول: (ويح عمّار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار)، الذي قاله رسول الله أمام المؤمنين عندما كانوا يبنون المسجد. فإذا صح الحديث، فالذي قتل عمار بن ياسر هي فئة معاوية، فإذا هي الفئة الباغية –أي الظالمة-. ومن السخرية أن بعض من كان مع معاوية ورأى مقتل عمار، رجعوا إلى أنفسهم وثابوا إلى رشدهم وقالوا: إذا نحن الفئة الباغية. ولكن معاوية أوقفهم بدهائه الفارغ و بتضليل عقولهم فقال: قتل عمار من أحضره، إشارة إلى علي!.
ولكننا نقول عنهم مؤمنون، والله سيفصل بينهم بالحق وهم لا يظلمون. والقرآن يقول ((وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله)). ولا يمكن تكفيرهم كما ذهبت الشيعة، وهم يقولون إن النزاع كان بين مؤمن ومنافق وإنزلقوا بذلك في مهاوي كبيرة.
الجدل العقيم وداء المفاصلات….
و بعدها إنفتح ملف الفتن كإسطوانة من الجدل البيزنطي المشهور حول أيهما الأصل: البيضة أم الدجاجة، وفي أحقية علي بالخلافة من أبي بكر وعمر، وأيهم أفضل من الصحابة!. فكان كل صاحب رأي يحضر من الأدلة ما شاء، من التي تؤيد رأيه وتنقض الآخر بحسب وقوفه، في صف البيضة أم في صف الدجاجة. والفتانون بينهما يلعبون بالبيضة والحجر. وصار الشيخان خط الدفاع والهجوم الأول لدى الفريقين ونسي الناس الشخص الذي فجر منبع هذا الجدل أول مرة ليفترق المسلمون إلى هذا الحد. فالشيعة المتعصبون يرون أنه كان يجب من البدء أن تؤول الخلافة لعلي ولكن أبي بكر وعمر سلبا حقه وبذلك سنا شرعة الغصب في الإسلام وظلما أهل البيت. أما المتعصبون من أهل السنة فيعتبرون إنتقاد معاوية والهجوم عليه كما الهجوم على الشيخين. بل وإن معاوية إماما صالحا سار على سنة أبي بكر وعمر ولم يكن ظالما أبدا.
و عمل الجواسيس والعملاء على تضليل العقول أكثر، وكل يورد الأدلة العقلية والنقلية لكل فرقة ليزيدوا من تعصبها وتفرقهم. وبدأت الأحاديث التي تساعد في إستمالة كل فرقة وتزيد من تعصبها بالظهور. فقد جاء أحدهم بحديث فقال: " فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام". وقابله الآخر ب "فاطمة سيدة نساء العالمين". وجاءوا بحديث آخر "أنا مدينة العلم وعلي بابها". وقابله الآخر "أنا مدينة العلم وأبي بكر محرابها". يقول الدكتور الوردي: تراكمت الأحاديث في تلك الفترة، فقالوا "أنا مدينة العلم وعلي بابها ومعاوية حلقتها". ثم حور "أنا مدينة العلم وعلي بابها وأبي بكر محرابها وعمر حيطانها وعثمان سقفها". ولكن جاء ابن الجوزي وهدم حديث المدينة ببابه ومحرابه وسقفه وحيطانه، ولعله خشي من أن يتمطى الحديث فيشمل جميع الصحابة فيكون مروان مزراب المدينة و أبو سفيان مكان نفاياتها أو ما شابهه.
وعندما رأى الإمام علي إنخراط الناس في الجدل بين أبي بكر وعلي وعمر بهذه السخافة قال: "لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا ضربته حد المفتري". فهو يعتبر ذلك إفتراءا. وهم ليس لهم شأن بهذا لأن الله وحده يعلم بمن أفضل عنده. ولكنهم تمادوا وإنشغلوا بالأمر واهملوا ما يخطط له معاوية، ولا شك إن الطابور الخامس ساعد في ذلك. و يرجع البعض من الشيعة إلى اليوم و يتورط في الشتم المقذع للشيخين ويتورط في دائرة الفسوق. و لا يتناهون عن هذا برغم سيرة العدل الظاهرة لهما من الشيخين والروايات التي تقول إن عليا نهى عن ذلك، وهم يدعون حبه!. وأعموا أنفسم عن النظر إلى ما وراء المبادئ الإجتماعية التي جاء بها الإسلام وزاد عن حياضها الشيخين وعلي كرم الله وجهه. فهم يرونه كإمام مستحق للإمارة ولا يرون كل كفاحه وجهاده من أجل العدالة الإجتماعية وتضحيته لمصلحة الأمة. فإن الذي يكره الشيخين كأنما يكره علي. فكيف يريدون أن يكون إمامهم و هم جميعا إخوان وقدوتهم وإمامهم جميعا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، ولا ينفصلون عن بعضهما. وإن كانوا لا يريدون الإعتراف بذلك، فيعني إنهم لا يريدون أن يعوا فقه إمامهم ولا ييريدون السير على طريقه حقا، وبالتالي لا يكونوا معه في الآخرة.
وأهل السنة أنفسهم بلعوا الطعم وإبتلوا بداء يقابل داء الشيعة في المفاضلة، والله أعلم بهما. فنجد ابن حزم مثلا الذي لديه كتاب "المفاضلة بين الصحابة". و من ثم أصبحت الكتب تتراكم من هنا وهناك، ((ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون)) [يونس: 19]. فأهل السنة يحبون عليا ويقولون إنهم هم شيعته الأصليون ولكنهم لا يترددون ويدافعون عن معاوية ويبرروا أعماله ويقولون رضي الله عنه ولا يلتفتون للأثار الإجتماعية التي ترتبت على مكائده. فقد إتخذ قميص عثمان والقصاص سببا لعدة سنوات بعدم الإستقرار والسلم وسفك دم كثير من الناس. وثارت القلاقل و تفرق من جراء كل ذلك المسلمون. وعندما آل إليه الحكم لم يقم بالقصاص ولا يحزنون!. وجعل الحكم ملكا وراثيا، والأمة دولة والدولة تعمل من أجل السلطان، بالإضافة لأثار سالبة كثيرة على الأمة. وأصبحت مسبة الإمام علي على المنابر، لنحو الثمانين عاما لدولة بني أمية، من كمال خطبة الجمعة و تمام إقام الصلاة.
إن الذي يحب معاوية كالذي يبغض عمر. فهما نقيضان تماما. فعمر كان عادلا بينما كان معاوية باغيا، ظالما. والذي يقف مع الباغي الظالم فمعناه إنه يحب الظلم و يهمل العدل في سياسة الامم ويبرر أعمال الجائرين، والله لا يحب الظالمين. فمن يمجد الظالم يتحمل مسؤولية ظلمه معه. أما من يحبه، فعليه أن يقرأ: ((يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا)) [الإسراء: 71]، أو أن يتذكر: "فالمرء يحشر مع من يحب".
من أين أتى "كل" هؤلاء..
وإنقلب هذ إلى كإرث قمئ على الأمة. فأثر الجدل بين الشيعة وأهل السنة إمتد من تلك الفترة إلى الآن، وهو بائن بين المسلمين بالإنشغال بمن هو أفضل عند الله ومن ثم التراشق ونسيان الأمة وما حل بها من كيد ودمار. وقد حكى المؤرخ آدم متز في كتابه "الحضارة الإسلامية" بأن قوما من الدجالين في القرن الرابع الميلادي كانوا يقفون في أسواق العراق فيشرع أحدهم بذكر فضائل علي، ويقف الآخر من الجانب المقابل فيشرع بذكر فضائل أبي بكر. وعندها يتهافت الناس عليهم و يرمي كل واحد الدراهم على حسب تعصبه أو من يحب أن يسمع مدحه. وفي نهاية اليوم يقوم الدجالون بتقاسم الدراهم التي كسبوها من أولئك المغفلين من الشيعة ومن أهل السنة والجماعة.
وعندما تسمع رجال الدين من الطرفين هذه الأيام تتذكر هذه المهزلة وتشعر بأنهم يدخلون في علم عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال. ويتمادى الشيعة في السقوط في الفخ بالسب والشتم والعياذ بالله، وهم بين يدي ربهم. وكوننا ننخرط معهم ونريد أن نعرف أيهما أفضل في الدين فهذا جهل ومدعاة للفرقة ولن يرجعا ولو ملأنا الدنيا عليهم خصاما وخلافا، فلن يستفيد أحد غير مزيد من الفتنة، ولا ينصلح حال أمتنا إذا تمكنا فعلا من معرفة أفضلهم. والله تعالى يقول ((تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون)) [البقرة: 134]، ولا يهمنا أساسا أفضلهم بمقدرا ما يهمنا ماذا قدموا لمجتمعهم و للأمة.
وإن كان هناك ثمة خلاف بين الراشدين فإنه كان خلافا سياسيا وليس دينيا، ولم يقحم فيه الدين أساسا. و هو خلاف ديمقراطي على من هو أحرص على قيادة الأمة في إدارة شؤؤنها و لم يسفر عن سفك أي دم أو قتل. ولو كانت الناس لديها الوعي السياسي الكافي في ذلك الزمان ويعلمون طريق "الصناديق" الديمقراطية لكانوا إتخذوها. فكل لديه أخطاء ولكنهم كانوا ثابتين في المبادئ العليا للإسلام وقيمه ومثله. فكل منهم كان عادلا ويريد الحق وينصر المستضعفين ولا يظلم ولا يستبد. وفي فترة حكمهم وبإجماع الروايات والتأريخ تشهد برشاد حكمهم. وبرغم الإدعاءات، فإن عليا بايع أبي بكر وعمر وصلى خلفهما.
وكما قلنا إنه جدل بيزنطي فإنه يشابه أيضا الجدل الذي أحدثه أهل الكتاب بينهم والذي يضرب لنا الله مثلا به كعظة وعبرة حتى لا نقع فيه: ((وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون)) [البقرة: 113]. ولكننا للأسف لا نتعظ.
ومن ثم توالت الفرق والإنشقاقات والتراشقات والتهم بالتكفير والزندقة. وكليهما – أهل السنة و الشيعة – عندما وجدوا الفرصة في الحكم صادروا الحريات وتعصبوا لفرقتهم ونكلوا بالأخرى. ومن ثم ظهرت فرق أخرى كالسلف الصالح الذين إهتموا بالدين وركزوا في علومه. وظهرت الصوفية وطرقها التي أرتأت في ذكر الله والمساجد والزوايا ملاذا من السياسة وخبثها والحكام وجورهم. وهؤلاء جميعا إجتهدوا في إحياء سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانوا حملة الدعوة الفعليين في نشر دين الله في الأرض وليس عبر حروب السلاطين. ولكنهم سكبوا في هذا المزيج روح العصبية والجهل و بسياسة فرق تسد السلطانية ليضربوا بعضهم بعضا، ونسوا أن الإختلاف سنة الله ولكن الله يريدهم أن يتراحموا فيما بينهم. ((ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين*إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين)) [هود: 119]. ولكنهم تمادوا ليقول هؤلاء ليسوا على شئ وهؤلاء ليسوا على شئ. فوقعوا في فخ وهم إمتلاك الحقيقة مع إن الكل لديه جزء من الحقيقة.
و وجد المسلمون الذين على الوسط أنفسهم مضطرين إلى الإنحياز، ليأتي هذا الزمن وتقول لأحدهم أنا مسلم فيقول لك: أنت مع أي مذهب وتتبع لأي طائفة أو جماعة أو طريقة أو حركة أو حزب!، وأصبح الدين كدورة الألعاب وفرق التشجيع. وأخير خرج سلاطين العصر بالإسم الرنان "الإسلاميين"، الذي يستخدمه بعض السياسيين المتحذلقون ليخلطوا به الدين مع أعمالهم لخداع العامة، ولكسبهم السياسي الدنيوي الرخيص. وبهذه الفرقة والشتات والعصبية الزائدة يكون المسلمين طائعين للسلاطين وأمثالهم ويسهل إستبدادهم، وتساق الأمة كالقطيع منقادة لهم ويتحكموا فيها بسهولة بإسم الدين، مسردبين و رامين وراء ظهورهم مبادئ الإسلام الإجتماعية وثورته الفكرية ليشتروا به ثمنا قليلا، فبئس ما يشترون.
السلاطين تموت وتحيا المبادئ..
إن دراسة التأريخ يجب أن تكون من منظور الإستفادة منه في حاضرنا ومستقبلنا. ويجب أن تقف الأجيال وتتعلم التاريخ بشفافية لتستدرك هل خط سيرها قد تغير للأفضل أم لا. فليس هناك أمة تاريخها خالي من النقاط السوداء وليس به مثالب كما درسونا في المدارس وتعرفنا على اللون الأبيض الجميل الناصع فقط. وفي الحقيقة لا فائدة للموجب إذا لم يكن يقابله السالب والصائغ لابد أن يفتن الذهب بالنار ليستخلص منه الشوائب فيأخذ شكله الطبيعي. و حين نخوض في سيرة الأشخاص لا يجب أن يكون غرضنا الشتم والذم أو اللعن أو للمراجعات السمجة التي تخفي العيوب وتظهر المحاسن فلا تكتمل الصورة أبدا. فكل شخصيات التأريخ تمثل لنا صفرا كبيرا إذا لم تقدم لنا درسا نستفيد منه في حاضرنا ومستقبلنا. فالأبطال والشجعان نريد أن نستشف منهم الفائدة المجتمعية لمجتمعاتهم لنحي مبادئهم ونستفيد منها. أما المفسدون الجبناء فللدرس العكسي والذي يمكن أن نستقرئ منه إلى أي درك يمكن أن يوصلونا إليه أمثالهم. فعندما ندرس تاريخ الراشدين الأبطال مثلا، يجب أن نستشعر المبادئ الإجتماعية التي ثبتوا عليها ومقدار بطولات كل واحد منهم وإستعصامه بالحق و ثبوته فيه ومقدار سعيه ومبلغ تضحيته في سبيل تحقيقها لمجتمعه والأمة.
لذا لا يهمنا كثيرا الوقوف إذا حدث نزاع أو خصام بين الراشدين، ولكن ما يهمنا هو النزاع بين علي ومعاوية للأثار المجتمعية المباشرة على الأمة والإنحطاط الذي ترتب عليه. وفي هذا الخلاف درس يجب أن يثار ويهتم به أكثر للإستفادة منه في واقعنا البائس. ولكنه خافي علينا بطغيان رجال الدين ومواعظهم الرنانة التي تزين للناس إنهم كانوا كالملائكة لا يتنازعون، الذين يسبحون الليل والنهار ولا يفترون. فالنزاع بين علي ومعاوية لا يزال حاضرا في حياتنا في سيطرة نفر بالقوة على الحكم نتجت عنها نفس المشكلات الإجتماعية والإقتصادية في دخول قناع الدين على وجه السياسة وفي زيادة الهوة بين المتخومين والمحرومين.
فهو نزاع من يريد البقاء على القيم و الثوابت ومبادئ العدل والمساواة والحرية، بينما الآخر يريد أن يكون سلطانا يتصرف في أموال الناس كما يرى هو فقط فيصادر حريات الناس ليمكث في السلطة إلى ما شاء الله ليورث أبنائه وأبناء أبنائه أو طائفته وجماعته، و وفق هوى مصلحته الخاصة. ليس ذلك فحسب بل بالإستمتاع بالدنيا بطولها وعرضها بالأكل والجواري والنساء وإستخدام الإسلام للغزو والحروب والجباية لأخذ المال بإسم الدين.
كان معاوية في إمارته ينادي بما نسميه "الحق الإلهي" في الحكم. ويعمل بأسلوب "الغاية تبرر الوسيلة". فقد إتخذ دم الشهيد عثمان وسيلة، فلماذا لم يمنع مقتله وهو والي الشام ولديه الجنود. ومن ثم إتخذ وسائل القلاقل و الحروب ليصل لكرسي الحكم، وعندما وصل فلا قصاص ولا يحزنون. ومن ثم إتخذ قناع الدين وسلطان المال وسيف الطاعة لإخضاع الجميع لحكمه. و إتخذ رجال من طراز عمرو بن العاص و مروان بن الحكم كرجال دولة و وزراء له. وأدخل في أذهان الأمة فكرة القضاء والقدر المحكم وإن حكمه وحكم بني أمية قدر من الله لهم. وأصر على لقب الخليفة وليس أمير المؤمنين، لأن الخليفة هو خليفة الله. ويقول إن قريشا هم أهل البيت. وإن المال هو مال الله وخليفة الله في الأرض هو الذي يتصرف فيه كيف يشاء. وإتخذ لنفسه الحراس والجلاوزة يسيرون في موكبه إذا سار في شوارع الشام كما تسير الملوك والأباطرة. ففي حكم عثمان لما رأى أباذر قصرا يبنى لمعاوية لما قابله قال له: إن كان هذا من مالك فهو الإسراف وإن كان من مال الأمة فهي الخيانة.
أما الإمام علي فسيرته عامرة بالبساطة والتواضع. فقد أبى أن ينزل في قصر الأبيض بالكوفة مراعاة لشعور الفقراء وهو أمير المؤمنين. وكان يمشي فيها منفردا بدون حراس ويحدث البقال والقصاب و الناس في تواضع وزهد إلى أن قتل في الصلاة شهيدا.
وكان يرى إن المال مال الأمة ولا يجب أن ينتفع به أحد غيرها، وليس لأمير المؤمنين فيه حق إلا ما يكفيه معاشا. ومعاشه يجب أن يكون أقل معاش تأسيا بأضعف رعيته دخلا. ولا يجوز له أن يشبع في لذيذ طعام أو يتلذذ بالطيبات. فيجب ان لا يكون للأميرعهد بالشبع مخافة أن يكون أحد رعيته جائع. وكان يكره الولائم التي إعتاد عليها الناس ولا يوجد بها فقير أو مسكين. فيقول: "إنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو وغنيهم مدعو". فكل طعام يدعى إليها الأغنياء ويطرد منها الفقراء فهو ليس وليمة إنما لئامة.
ويرى إن الله تعالى أعطى مزيدا للأغنياء في أموالهم بقدر ما يمكن أن يسع حاجة الفقراء. لذلك كان يرى أن لا يترك الأغنياء أحرارا يتصرفون بأموالهم كما يشاؤون. وكانت سياسة علي تشكل تهديدا للمترفين حيث سيصادر منهم الأموال. فقد أبى أن يعطي أخيه عقيل مالا بحجة إنه مال المسلمين. فذهب عقيل إلى معاوية فأعطاه. فقال عقيل: "إن أخي خير لي في ديني، ومعاوية خير لي في دنياي".
وكان يكره المألوف مثال أن يعطى السائل المتزلف مالا وفيرا، بينما الذين لا يسألون الناس إلحافا، العفيفون، لا يعطيهم الناس. وكان يساوي في العطاء فلا يفضل عربي على أعجمي ولا أسود على أبيض، ولا سيدا على عبد ويساوي بين الناس جميعا. فقد قيل إن معاوية أعطى عجوزا معروفة بتشيعها مائة ناقة وقال لها: "إن كان علي حيا لما أعطاك هذا العطاء". قالت: "لا والله ولا وبرة من أموال المسلمين".
ولو لم يشغله الخصوم بالفتن والحروب لكان ممكن أن يحقق نموذجا تتحدث عنه البشرية كما كان عمر. وكل هذه هي مبادئ الإسلام المثالية لتحقيق القدوة و العدالة الإجتماعية. وكما ذكرنا، فإن غالبية الناس، إلا قليلا، في تلك الفترة بدوية تسعى نحو مصالحها الآنية ولا تفكر في المستقبل ولا أجياله، و تسير خلف السلطان الذي يسيطر عليها بقوة السيف ويغريها بالمال ويبهرها بالجاه كما كان يفعل نده الأموي. لذلك إنفض الكثير من حوله وساروا لنظيره، حتى رأيت الأبيات التالية التي قيلت إنها للإمام الشافعي وقيلت إنها لعلي بن ابي طالب نفسه، تنطبق عليه تماما:
رأيت الناس قد عدلوا إلى من عنده العدل ومن لا عنده عدل فعنه الناس قد عدلوا
رأيت الناس قد مالوا إلى من عنده مالٌ ومن لا عنده مالٌ فعنه الناس قد مالوا
رأيت الناس قد ذهبوا إلى من عنده ذهبٌ ومن لا عنده ذهبٌ فعنه الناس قد ذهبوا
رأيت الناس منفضة إلى من عنده فضة ومن لا عنده فضة فعنه الناس منفضة
وقد إنفض عنه الكثير من حوله وطفق يقول في آخر أيامه "أين أشقاها" وكأنه ينتظر من يقتله. وقتل شهيدا على يد بن ملجم في الصلاة كما قتل أخيه عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وكأن الله تعالى يقول للناس كفوا عن المفاصلات والمفاضلات فإنهم إخوان في دين الله وشهداء عند ربهم وكفى.
و الناس لم تقف مع علي في حياته ولكنهم وقفوا معه بقوة بعد مماته. ومن يدري، لو أننا كنا في زمانه لكنا وقفنا نحن ضده أيضا، أو لكنا صامتين كما نحن الآن. ولكن وحتى بعد مماته لم يقف معه البعض الوقفة المشرفة و يفهموا الفلسفة العميقة المستفادة من نزاعه مع معاوية، وطفقوا يعددون صفاته الشخصية و عرفوا أهم ميزاتها ولكنهم لا يقتدون بها وساروا خلف معاويتهم وطاغية زمانهم. فبالإضافة للفروسية والشجاعة فإن أهم ميزة للإمام علي هي النخوة كما ذكر الأستاذ عباس محمود العقاد. ونضيف لها نحن مما قدمه للمجتمع والأمة هي: المروءة والضمير اليقظ في الحق الذي لا يخاف في الله لومة لائم.
ومن عدم فهم الدرس أصبح هناك خللا في أمتنا مبني على فهم مضلل بفلسفة حياة مبنية على الجبر والطاعة والجماعة، أما حرية الإختيار والرأى فصارت تلك حدود الحكام فلا تقربوها. فتجد الناس لا يثورون إلا إذا جاعوا في المأكل والمشرب، غير ذلك يا دار ما دخلك شر. وأصبح الدين مصدر رهبة وإرهاب و سيفا مسيطرا ومخدرا ممتازا يستخدمه السلاطين على الشعوب. وأدخل وهم في أذهان الأمة بأن المسلمين لن ينصلح حالهم إلا بالخلافة!، ولو كان ذلك الخليفة ظالما أو فاجرا أو فاسقا كما كان المتسلبطون في سالف العصر والآوان والذين تتجرع الأمة منهم إلى اللآن كؤوس الجهل من نبيذ حصاد زمانهم، وتترنح كما ترنحوا معربدين في السلطة، وتموت ضمائرهم بسبب السم الذي دسوه في دسم الدين.
والأنكى بالإعتقاد بأن الدين ينحصر في حب فلان ابن فلان، أو علان بن فرتكان، من رجال الدين الأولين والآخرين وهم يقرأؤون ((ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون)) [آل عمران: 80]. ولا يلتفتون للإسلام كدين قيما يقف دائما في صف الفقراء والمساكين والمحرومين ضد الأغنياء المترفين وثورة دائمة على الظالمين.
وما لا يريد أن يفهمه الكثير منا البتة بأن الذي يدعيه الحكام هو دين السلطة الذي يجبر الناس على الدين، فدين الله الحق الذي يظهره الله على الدين كله مخالف لدين السلاطين وكهنتهم و تجار دين. فالله قادر أن يفرض دينه على الكل ويخضع الجميع لسلطانه، ولكنه جل وعلا يريد أولا عباده أحرارا في إختيارهم لدينه حتى لا يعبدوه على حرف. لذلك اهم شئ هي الحرية والسلام والأمان لحرية الإختيار، دون حرب أو إرهاب أو خوف؟. و الله سبحانه وحده القادر والحافظ للدين في كتابه العزيز و متكفل بإتمام نوره ولو كره الكافرون، ولو إدعى المدعون بالحرص عليه لمآربهم الشخصية أو حاجة في نفوسهم، كأمثال معاوية أو غيره ومن جاء بعده، وكل من لف لفه.
*الحلقة القادمة الأربعاء بإذن الله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.