شاهد بالصورة.. ناشطة سودانية تسخر من المذيعة تسابيح خاطر بعد ظهورها الأخير: (كدي خلي الفاشر اجري حصلي نفسك بحقنة "بوتكس" ولا أعملي "فيلر" لانه وشك من التجاعيد ح يقع منك)    ماذا قال ياسر العطا لجنود المدرعات ومتحركات العمليات؟! شاهد الفيديو    تم مراجعة حسابات (398) وحدة حكومية، و (18) بنكاً.. رئيس مجلس السيادة يلتقي المراجع العام    انطلاق مناورات التمرين البحري المختلط «الموج الأحمر 8» في قاعدة الملك فيصل البحرية بالأسطول الغربي    النائب العام للسودان في سجن الدامر    تقارير صادمة عن أوضاع المدنيين المحتجزين داخل الفاشر بعد سيطرة الدعم السريع    لقاء بين البرهان والمراجع العام والكشف عن مراجعة 18 بنكا    السودان الافتراضي ... كلنا بيادق .. وعبد الوهاب وردي    د.ابراهيم الصديق على يكتب:اللقاء: انتقالات جديدة..    لجنة المسابقات بارقو توقف 5 لاعبين من التضامن وتحسم مباراة الدوم والأمل    المريخ (B) يواجه الإخلاص في أولي مبارياته بالدوري المحلي بمدينة بربر    الهلال لم يحقق فوزًا على الأندية الجزائرية على أرضه منذ عام 1982….    شاهد بالصورة والفيديو.. ضابطة الدعم السريع "شيراز" تعبر عن إنبهارها بمقابلة المذيعة تسابيح خاطر بالفاشر وتخاطبها (منورة بلدنا) والأخيرة ترد عليها: (بلدنا نحنا ذاتنا معاكم)    شاهد بالصور.. المذيعة المغضوب عليها داخل مواقع التواصل السودانية "تسابيح خاطر" تصل الفاشر    جمهور مواقع التواصل بالسودان يسخر من المذيعة تسابيح خاطر بعد زيارتها للفاشر ويلقبها بأنجلينا جولي المليشيا.. تعرف على أشهر التعليقات الساخرة    المالية توقع عقد خدمة إيصالي مع مصرف التنمية الصناعية    أردوغان: لا يمكننا الاكتفاء بمتابعة ما يجري في السودان    وزير الطاقة يتفقد المستودعات الاستراتيجية الجديدة بشركة النيل للبترول    أردوغان يفجرّها داوية بشأن السودان    وزير سوداني يكشف عن مؤشر خطير    شاهد بالصورة والفيديو.. "البرهان" يظهر متأثراً ويحبس دموعه لحظة مواساته سيدة بأحد معسكرات النازحين بالشمالية والجمهور: (لقطة تجسّد هيبة القائد وحنوّ الأب، وصلابة الجندي ودمعة الوطن التي تأبى السقوط)    بالصورة.. رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس: (قلبي مكسور على أهل السودان والعند هو السبب وأتمنى السلام والإستقرار لأنه بلد قريب إلى قلبي)    إحباط محاولة تهريب عدد 200 قطعة سلاح في مدينة عطبرة    السعودية : ضبط أكثر من 21 ألف مخالف خلال أسبوع.. و26 متهماً في جرائم التستر والإيواء    الترتيب الجديد لأفضل 10 هدافين للدوري السعودي    «حافظ القرآن كله وعايشين ببركته».. كيف تحدث محمد رمضان عن والده قبل رحيله؟    محمد رمضان يودع والده لمثواه الأخير وسط أجواء من الحزن والانكسار    وفي بدايات توافد المتظاهرين، هتف ثلاثة قحاتة ضد المظاهرة وتبنوا خطابات "لا للحرب"    أول جائزة سلام من الفيفا.. من المرشح الأوفر حظا؟    مركزي السودان يصدر ورقة نقدية جديدة    برشلونة ينجو من فخ كلوب بروج.. والسيتي يقسو على دورتموند    "واتساب" يطلق تطبيقه المنتظر لساعات "أبل"    بنك السودان .. فك حظر تصدير الذهب    بقرار من رئيس الوزراء: السودان يؤسس ثلاث هيئات وطنية للتحول الرقمي والأمن السيبراني وحوكمة البيانات    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    غبَاء (الذكاء الاصطناعي)    مخبأة في باطن الأرض..حادثة غريبة في الخرطوم    رونالدو يفاجئ جمهوره: سأعتزل كرة القدم "قريبا"    صفعة البرهان    حرب الأكاذيب في الفاشر: حين فضح التحقيق أكاذيب الكيزان    دائرة مرور ولاية الخرطوم تدشن برنامج الدفع الإلكتروني للمعاملات المرورية بمركز ترخيص شهداء معركة الكرامة    السودان.. افتتاح غرفة النجدة بشرطة ولاية الخرطوم    5 مليارات دولار.. فساد في صادر الذهب    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    الحُزن الذي يَشبه (أعِد) في الإملاء    السجن 15 عام لمستنفر مع التمرد بالكلاكلة    عملية دقيقة تقود السلطات في السودان للقبض على متّهمة خطيرة    وزير الصحة يوجه بتفعيل غرفة طوارئ دارفور بصورة عاجلة    الجنيه السوداني يتعثر مع تضرر صادرات الذهب بفعل حظر طيران الإمارات    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    حسين خوجلي يكتب: التنقيب عن المدهشات في أزمنة الرتابة    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ستيلا : صَفحَةٌ ماجِدةٌ فِي أَدَبِ الحَربِ الصَّافِع!
نشر في حريات يوم 09 - 01 - 2015

عن "دار رفيقي للطباعة والنَّشر" بجوبا، عاصمة جمهورية جنوب السودان، صدرت، خلال الأيام الماضية، الطبعة الأولى من المجموعة القصصية الثانية للكاتبة د. استيلا قايتانو بعنوان "العودة"، وقد قدَّم لها الشاعر والكاتب كمال الجزولي بعنوان "ستيلا: صفحة ماجدة في أدب الحرب الصافع". وكانت مجموعة استيلا الأولى "زهور ذابلة" قد صدرت عن "دار عزة للنشر" بالخرطوم عام 2005م، حيث تلقاها النقاد والجمهور، آنذاك، بترحيب حار، وصدرت أيضاً طبعتها الثانية متزامنة مع المجموعة الجديدة من نفس دار رفيقي بجوبا. تولت التشكيلية إيمان شقاق تصميم المجموعة الجديدة وإعداد رسوماتها الداخلية، إلى جانب تصميم ورسومات الطبعة الثانية من "زهور ذابلة". وتجري الاستعدادات حالياً لإقامة حفلي تدشين للمجموعة الجديدة، أحدهما بجوبا، والآخر بالخرطوم. وفي ما يلي ننشر مقدمة أ/ كمال الجزولي للطبعة الأولى.
لست، يقيناً، في مقام أيِّ درس نقدي متمكِّث، هنا، لنصوص هذه المجموعة القصصيَّة الثانية للكاتبة الجَّنوسودانيَّة ستيلا قايتانو جينيشس، وما ينبغي لي! مثل هذه الأعمال النقديَّة الفارهة التي تحاول التَّوسُّل، لمقاربة النصوص الإبداعيَّة، بالمناهج الأدبيَّة الملائمة، وبالأساليب العلميَّة للاستدلال والبرهنة، مِمَّا قد يفضي إلى خوض مخاضات عميقة الغور في علم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم الجمال، وعلم اللغة، وربَّما إلى الأخذ بأدوات نظريَّة شديدة التَّعقيد لفضِّ مغاليق العلاقة بين خطابي الأدب والنقد، بينما محلها، لمن استطاع إليها سبيلا، الصُّحف، والمجلات، والنَّدوات، والمنابر الأخرى، وربَّما برامج الثقافة المتخصِّصة في الرَّاديو والتلفزيون، لكن ليس، بأيِّ حال، مدخل هذا البيت الصَّغير الجَّميل تهطل فوق تعاريشه أغصان المانجو والباباي، وقد شرَّفتني ستيلا بالوقوف عنده للترحيب بقرَّائها، وحسب، فيجدر بي عدم الاستغراق في جفاء المعايير، أو الإيغال في صرامة المفاهيم! لذا فإنني أستأذن القرَّاء، سائقاً اعتذاري مقدَّماً، لأكتفي ببضعة نقوش خفيفة، وإن تكن مُعْلِمة بالضَّرورة، على هامش المجموعة إجمالاً، كضرب من الاحتفاء بها.
وبعد .. لئن كانت ستيلا قد كرَّست مجموعتها الأولى "زهور ذابلة"، الصَّادرة عن "دار عزَّة للنشر بالخرطوم" في 2005م، لنماذجها الإبداعية المعلاة على صعيد "أدب الحرب" في سرديات القصَّة القصيرة، تطبيقاً على نموذج إرث الدَّم المسفوح، طوال أربعين عاماً، في صراع الجَّنوب والشَّمال، فإنها، في مجموعة "العودة" التي تضعها الآن بين أيدي القرَّاء، تنتقل لعرض نماذج معلاة أخرى من هذا الجِّنس الأدبي، تطبيقاً جديداً على إرث ذلك الصِّراع، لكن، هذه المرَّة، في مآلات ما بعد "انفصال/استقلال" الجَّنوب، وعلوِّ قصف مدافع "القضيَّة الاجتماعيَّة" في هذه الدَّولة الأفريقيَّة الوليدة، مكان صمت بنادق "القضيَّة الوطنيَّة" بين شقَّي بلد كان رتقاً فانفتق!
...………………………..
...………………………..
ولمصطلح "أدب الحرب" دلالات عدَّة، فهو لا يقتصر على الكتابات التي تتناول التجربة الحربيَّة من حيث الأحاديَّة التي قد تَسِمُ بُعدُها القائم في التحامات الجيوش، والبساطة التي ربَّما تميِّز رصد مجريات الكرِّ والفرِّ، حتى تلك المدوَّنة بأساليب فنيَّة تختلف، شعراً ونثراً، عن مجرَّد الأساليب الصَّحفيَّة للمراسلين الحربيين.
الدَّلالة التي نرمي إليها، هنا، تتجاوز هاتين الأحاديَّة والبساطة إلى بُعدٍ آخر لا يتجلى إلا بسبر غور التَّجربة الحربيَّة من حيث احتشادها بمختلف عناصر التَّوتُّر والتَّكيُّف الكامنة في روح المجابهة والمقاومة لدى الإنسان إزاء المخاطر التي قد تستهدف وجوده، وتهدِّد بقاءه. هذا الرُّوح يتجلى، كأسطع ما يكون، في المقابلة الجَّدليَّة بين الرَّغبة في الحياة، وبين الاستعداد للتضحية، حدَّ الموت، في سبيل قضيَّة سامية، مثلما يتجلى في التَّناقض بين سموِّ هذا المعني، وبين واقع الفساد والمحسوبيَّة المزري الذي لا يندر أن يخلفه المناضل وراءه، حتف أنف تضحيته المبهظة، عندما تتغيَّر الولاءات، ويبدُّل الثُّوار جلودهم، وتدير الثَّورة ظهرها لبنيها .. وهذا ما تطرُق عليه ستيلا، هنا، بوجه خاص!
تتجاوز دلالة المصطلح، أيضاً، هاتين الأحاديَّة والبساطة إلى تعقيد أكبر لا يمكن للمبدع فضُّه بغير كَنْهِ ما تفجِّره التَّجربة الحربيَّة من رؤى الناس، وأفكارهم، ومشاعرهم، وأحاسيسهم، ومختلف انفعالاتهم. وهذا أيضاً ما تركِّز عليه الكاتبة هنا، ليس، فقط، تجاه الحرب أثناء وقوعها، وإنما تجاه ما يعقبها، وما يترتَّب عليها، خصوصاً في قاع المجتمع. فلئن كان محتملاً أن تتساوق هذه المدركات مع الذَّات الجَّمعيَّة، والقيم العامَّة، أو تتنافر شيئاً، فإن الكارثة الوجوديَّة الأوخم، على الإطلاق، والتي يمكن أن تحلَّ بالناس، بعد أن تضع الحرب أوزارها، هي أن يتطاول انتظارهم، بلا أمل ولا جدوى، للحصول ولو على بعض المردود المستحقٍّ لصبرهم الطويل على أهوال الحرب، وعلى مصاعب النضال، مِمَّا قد يكونوا وُعدوا به تحت تأثير شعارات برَّاقة ما تلبث أن تنمحق، ويتبدَّد سحرها، حين يتكشُّف "الإخوة الأعداء"، في جيل أو جيلين، عن محض فيلة تصطرع فوق أجداث الشُّهداء، وتتناحر على المغانم، جهاراً نهاراً!
كذلك تتجاوز دلالة مصطلح "أدب الحرب" أحاديَّته وبساطته، من جهة ثالثة، إلى معنى أكثر عمقاً، حين يفلح المبدع في إحالة هذه الحرب نفسها إلى سنخ إنساني راسخ، كما فعلت ستيلا في هذه المجموعة، بتقصِّي تجليَّاتها الموجبة والسَّالبة في حركة الحياة اليوميَّة، وتمظهراتها عبر علاقات الناس في ما بينهم، ومع الوسط المحيط، وانعكاساتها على خواطرهم الماديَّة والميتافيزيقيَّة، وما تختزن مخيِّلتهم من أحلام وهواجس، من أفراح وأحزان، من إشراقات وانكسارات، من استبشارات وإحباطات، بمثل ما تشكل تصوُّراتهم عن الذَّات، والأغيار، والمخلوقات الأخرى، والأشياء أجمعها، على تعدُّدها وتنوُّعها من حولهم.
لذا، وبرغم كلِّ المآسي التي قد تكتنف التَّجربة الحربيَّة، والتي قد تنضح بها، فإن "أدب الحرب" يظلُّ، وفق هذه الدَّلالة بالذَّات، احتياجاً "جمعيَّاً" حقيقيَّاً لا غنى عنه. فمع كونه نتاج الطاقة الإبداعيَّة "الفرديَّة" لمنتجه، فإن ذلك لا يعني، مطلقاً، أنه موجَّه ل "الخاصَّة"، بقدر ما يعني أن المبدع قد خاض غمار التَّجربة الحربيَّة الشُّعوريَّة "منفرداً"، ثمَّ أخضعها لقدراته التخييليَّة والتعبيريَّة، فأعاد تركيبها بما يمتع المتلقي، ويضئ له مكامن العظة والرشد، في آن.
...………………………..
...………………………..
لقد اختارت ستيلا السَّرد، عموماً، والقصَّة القصيرة، تحديداً، كجنس أدبي تُجلي، من خلاله، طاقتها الإبداعيَّة، وكشكل فني تفرغ فيه تصوُّراتها الثقافيَّة والجَّماليَّة إلى الحدِّ الذي لا يتجاوز الواقع إلا بالقدر الذي يفسح للتخييل. ولا غرو، فالنَّسب قائم بين القصَّة القصيرة وبين الحكاية الشَّعبيَّة، أو الأحجية، كفن من أعرق الفنون لدى مختلف الشعوب، خصوصاً الأفريقيَّة، وبالأخص شعوب جنوب السُّودان التي تنتمي ستيلا إليها.
ولأن القصَّة القصيرة، في الواقع، "شريط لغوي قصير"، على حدِّ تعبير يمنى العيد، فلا بُدَّ، لإدراك مختلف الميزات الفنيَّة، والمؤثِّرات الفكريَّة، لهذا الضرب من السَّرد عند ستيلا، من الإحاطة، إلى حدٍّ معقول، بالسِّياقات التَّاريخيَّة، الاقتصاديَّة السِّياسيَّة، والاجتماعيَّة الثقافيَّة، التي أنتجت، وما تزال تنتج، من خلالها، "شريطها اللغوي". على هذا الصَّعيد تبرز، أظهر من غيرهما، واقعتان تاريخيَّتان لا يمكن إغفالهما في حياة الكاتبة، ومسارها الإبداعي:
أولاهما ولادتها ونشأتها وتعليمها، وهي الجَّنوبيَّة، مسيحيَّة الأسرة، المنتمية، أصلاً، إلى أهلها اللاتوكا ولغتهم، في بيئة شماليَّة تغلب عليها اللغة العربيَّة، والثقافة العربيَّة الإسلاميَّة، ما ترك أثره بوضوح على لغتها الإبداعيَّة، وعلى مجمل محمولها الثَّقافي. لكنها اختارت العربيَّة لغة لإبداعها، ليس، فقط، بسبب هذا التأثير اللغوي والثقافي، وإنما، فوق ذلك، لسبب عملي يتَّصل، حسب قولها لي، بقدرة العربيَّة على توصيلها إلى جمهور أوسع. لذا لم تغامر ستيلا بتجريب الكتابة بلغة اللاتوكا، مثلما غامر السَّارد الكيني العالمي نغوغي واثيانق بالتحوُّل، لبعض الوقت، من الكتابة بالإنجليزيَّة إلى الكتابة بلغة قومه الكيكويو، قبل أن يعود، مؤخَّراً، إلى الإنجليزيَّة، ربَّما لاستشعاره أن الكتابة بلغته الأم تحصره في نطاق ضيِّق، رغم الحجم الكبير نسبيَّاً لإثنيَّة الكيكويو في الإطار الكيني. وتلك، على العموم، معضلة في غاية التعقيد، من الناحية الإبداعيَّة العمليَّة، بحيث لا تفيد فيها الأحكام التَّبسيطيَّة المتحمِّسة، رغم صحَّة وعدالة الدَّعوة الأيديولوجيَّة والسِّياسيَّة إلى منح اللغات المحليَّة، السُّودانيَّة والأفريقيَّة الأخرى، فرصتها في الازدهار!
الشَّاهد أنه، لا النشأة الخرطوميَّة المميَّزة، ولا فرص التَّدرُّج في مراحل الدّراسة المختلفة، حتى كليَّة الصَّيدلة بجامعة الخرطوم، أعرق وأرفع جامعات الشَّمال، حالت دون أن تنظر ابنة العامل السَّابق في شركة الحديد والصُّلب، بتعاطف طبقي وإنساني عميقين، في مصائر الملايين من أبناء وبنات قومها الذين ألفوا أنفسهم، ضمن تقديرات الاقتصاد السِّياسي للتنوُّع السُّوداني العام، مضطرين للنزوح، خلال فترات مختلفة، من الجَّنوب رقيق الحال إلى الشَّمال الميسور نسبيَّاً، لأسباب متعدِّدة، أوخمها الحرب التي ظلت مندلعة هناك منذ العام 1955م، ما تكاد تخمد لها نار حتى تعود للاشتعال، فقضت اختلالات هذا الاقتصاد السِّياسي بأن ينحشر أغلبيَّتهم في "غيتوهات" معزولة حول أحزمة المدن، رازحين في قاع مشهد فقرائها وكادحيها المسحوقين تحت وطأة العمل العضلي وأشغاله الشَّاقَّة، السَّالخين سحائب نهاراتهم يغالبون الحديد وغيره من الأثقال، تتفصَّد أجسادهم عرقاً ودماً وحمَّى تحت سياط شَّمس الصَّيف الطويل اللاهبة، وتتقوَّس ظهورهم، قبل يومها، من رهق العتالة، في الأسواق، وعنائها الفتَّاك، يُعجنون حتى شعر رؤوسهم في شتَّى أنواع وقود السَّيَّارات وزيوت مشاحمها، ويُعلقون من أقدامهم فوق الطوابق المجنَّحة للعمائر الشَّاهقة تحت التَّشييد، تلاحقهم، صباح مساء، صنوف من بذاءات الاستعلاء البغيض، عرقيَّاً، ودينيَّاً، وثقافيَّاً، ولغويَّاً، فإن تبقي فيهم، بعد كلِّ ذلك، عِرق ينبض في المساءات، فقد يكفي، فقط، للجِّنس، أو القمار، أو ضرب الزَّوجات والعيال، أو مشاهدة الأفلام المتدنية، أو معاقرة الخمر الرَّخيصة، أو للدُّخول، بسبب كلِّ ذلك وغيره، في معارك دمويَّة تكاد لا تنتهي، بينهم وبين بعضهم أحياناً، ومع الشرطة أغلب الأحيان، ما لا يندر أن ينتهي بهم إلى زنازين الحراسات، وربَّما إلى السجون!
الواقعة الثَّانية التي رجَّت حياة ستيلا، ومسارها الإبداعي، رجَّاً، خصوصاً في هذه المجموعة، رغم أنها كانت متوقَّعة تماماً، هي تصويت الجَّنوبيين لصالح الانفصال بأغلبيَّة ساحقة تفوق ال 98%، ضمن الاستفتاء على تقرير المصير الذي جرى من 9 إلى 15 يناير 2011م، وما تلى ذلك من تداعيات عبَّرت ستيلا عن موقفها منها، فضلاً عن هذه المجموعة، في مقالتين شهيرتين، بعربيَّة هجين بين الفصحى ودارجة وسط السُّودان، إحداهما بعنوان "قبل ما أبقى أجنبيَّة"، والأخرى بعنوان "بعد ما بقيت أجنبيَّة"، بالإضافة، إن أردت، إلى الكلمة التي ألقتها أمام حفل شركة زين للاتِّصالات بمناسبة إعلانها عن جائزة الرِّواية التي ترعاها باسم الطيِّب صالح. لقد كشفت ستيلا، في كلِّ ذلك، مثلما تكشف، الآن، في قصص مجموعة "العودة" هذه، عن أنها ما تنفكُّ تراوح، فكريَّاً وعاطفيَّاً، بين "حماس" عالي النَّبرة، حدَّ الهتاف، ل "الاستقلال" كمنصَّة انطلاق نحو بناء وطن فتيٍّ معافى، وبين "حنين" فائق الدَّفق، حدَّ النَّحيب، إلى الوطن الأم الذي يكفي أنه سيظلُّ الحاضن لمرابع ذاكرة الطفولة، والصِّبا، والشَّباب، بكلِّ ما تعبق به من عبير الآمال الفارعة، والآلام العراض!
وإذن، فليس أقل، بالنسبة لستيلا، من أن يتحقق "الاستقلال" بدلالته الأوفى، الآخذة في اعتبارها مصائر أولئك الضعفاء الصَّابرين، في قاع المجتمع، العاقدين آمالهم على مردوده الشَّامل في "العدالة الاجتماعيَّة"، وإلا فلن يعدو "الاستقلال" معنى "الانفصال"!
...………………………..
...………………………..
المعنى الحقيقي الضخم لقيمة التَّضحية الكامنة في هاتين الواقعتين، مأخوذتين معاً في سياق واحد، لجدير، عند ستيلا، بأن تكرِّس فنَّها لتمجيده، والإعلاء من شأنه، ودفع قومها باتِّجاهه؛ وإنه لأجلُّ مِن أن تحتمل هذه المبدعة المخلصة لمشروع "الاستقلال الوطني"، المنحازة لقضيَّة "العدالة الاجتماعيَّة"، رؤيَّة معاول الفساد تسعى، في كلِّ المواقع، لتيئيس النَّاس منه، ولهدمه في نفوسهم، ولتجريف حُلمهم إلى تمام التَّخثُّر، ومشروعهم إلى قاع الهاوية، فلا تتوانى في أن تُشرع قلمها الذي هو سلاحها في وجوه هؤلاء العابثين بأعزِّ مقدرات شعبها!
وهكذا، فإن هاتين الواقعتين تشكلان، لدى ستيلا، فوق تأثيرهما الوجودي، علامتَي طريق ثقافيَّتين لقيم إبداعيَّة نبيلة، كما تمثَّلان، في الوقت نفسه، بوَّابة انفتاح شخصي للكاتبة على تحوُّلات راديكاليَّة في الواقعَين "الوطني" و"الاجتماعي"، بما يرسم الملامح الفنيَّة والفكريَّة لتجربتها الإبداعيَّة الرَّاهنة، وأهمَّ تطوُّراتها النوعيَّة المحتملة مستقبلاً.
...………………………..
...………………………..
والآن ..
أيُّها القارئ الكريم،
تفضَّل .. على الرَّحب والسِّعة.
ك. الجزولي
شمبات الهجرة
نوفمبر 2014م


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.