ذات رمضان، أوقفت أحد سائقي “أمجاد”، وبعيد لحظات من ركوبي للسيارة جاءني صوت تلك الفرق “الانقاذية” تردد بعض المدائح النبوية على أنغام موسيقى “هادئة”، فطلبت من السائق باحترام أن يوقف هذا “الكاسيت”، فقال لي ” ياخ دا مديح والدنيا رمضان”!، قلت له ” أنا مخيّر وعلى كيفي”، وبدا الشاب حائراً من أمره، فقلت له، سيبك من دا. شغل شريط غنا”، فنظر إلى مندهشاً، فتابعت “أنا بحدد لنفسي الشي العايز أسمعو”، فاستجاب وأخرج كاسيت لمغني، وبعد لحظات بدأ ” يتمايل” من الطرب، فابتسمت، ولما أدرك سر ابتسامتي “قال ” يا عمك الجماعة ديل جننونا، ولا زم الواحد يعمل فيها منهم ويسمع حاجاتهم، بس لكن إنت زول ظريف”. ولا يغيب عن ذلك استغلال الدين في السياسة، وإشغال الناس ببعض “الفتاوى”، والقضايا “الانصرافية، وليس غريباً أن تنتشر تلك الشعارات فوق لوحات مضيئة، مثل تلك التي تقول ” السودانيون أكثر شعب يصلي على النبي”، وهو شعار رفعته إحدى الإذاعات الدينية، ولسنا هنا بصدد انتقاد فكرة “الصلاة على النبي” بقدر ما أريد التركيز على استغلال الدين في أي خطاب، ولو كان تجارياً، وهو أمر يجعل الناس يتمسكون بالقشور، ويتعاملون مع الأشياء من فوق “السطح”. و ليس غريباً أن يتحوّل كثيرون إلى ” تروس” في ماكينة الإنقاذ، أو أناس يلهثون وراء “رزق اليوم باليوم”، أو طامحين لثراء عريض في أزمنة القطط السمان، وتدفقات ريع النفط، لنتحول ” جميعنا” إلى “استهلاكيين”، لا ” منتجين”، في كل شيء،؛ في السلع، وحتى الأفكار، ويريدون لنا أن نردد خلفهم مثل الببغاوات ” شعاراتهم الخاوية المضمون”، ونسبح بحمد الذي قهرنا، ومارس علينا الاستبداد، ونبشر بمشاريعهم التي عملت على ” إذلال “الشعب، عن طريق القوانين القمعية، وأدوات تنفيذها الإرهابية، وخير مثال لذلك قانون النظام العام. ويمكن أن نشير هنا؛ إلى أنّ مليون وستمائة ألف “جلدة” يفترض أن تكون قد ألهبت ظهور النساء السودانيات خلال عام واحد وفقاً لقوانين النظام العام، وهي قوانين تعبر عن نظام حكم مستبد، بدأ تاريخه بإنشاء “بيوت الأشباح، لقهر كل من يطالب بالحرية، وبمحاولة مصادرة أرزاق النّاس عن طريق “الصالح العام”، أو الفصل التعسفي، وهما فصلان يعكسان قسوة النظام، وطرائق تفكيره كي يبقى في سدة السلطة، ولو ” ترق كل الدماء”. أما قوانين؛ “العدالة الناجزة فيقصد منها؛ إضعاف الناس وتعذيبهم نفسياً حتى يتمكن “الإنقاذيون” من عملية إعادة إنتاجهم داخل سياق “المشروع الحضاري”، وتحويلهم إلى ” مجموعة من الجوقة المنصاعة، والذليلة، أو على طريقة العبد الذي يتألم لألم سيده، على حد تعبير المفكر الأمريكي مالكوم اكس، والذي يشير إلى عبيد المنازل، وعبيد الحقول، وهو ما يريده سدنة “الإنقاذ “؛ حتى ينفردون هم بالسلطة، بعد التكريس لمجتمع ” شائه” تغلب عليه النزعات “الانتهازية”، و”السلبية”، وحب الذات، والخلاص الفردي. وبالطبع فإنّ “الإنقاذ” قصدت وضع كل السودانيين داخل ” مسارها”، كي يكونوا تابعين، أو نسخاً مشوهة، لا تستطيع الفعل، لأنّها سلبية، ومنزوعة الإرادة، وفاقدة للعزيمة، وكم كان عبد الرحمن الكواكبي مصيباً حين كتب في سفره ” طبائع الاستبداد أنّ ” الحكومة المستبدة تكون طبعاً مستبدة في كل فروعها من المستبد الأعظم إلى الشرطي, إلى الفرّاش, إلى كنّاس الشوارع, ولا يكون كل صنف إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقاً, لأنّ الأسافل لا يهمهم طبعاً الكرامة وحسن السمعة إنّما غاية مسعاهم أن يبرهنوا لمخدومهم بأنّهم على شاكلته, وأنصار لدولته, وشرهون لأكل السقطات من أي كانت ولو بشراً أم خنازير, آبائهم أم أعدائهم, وبهذا يأمنهم المستبد ويأمنونه فيشاركهم ويشاركونه, وهذه الفئة المستخدمة يكثر عددها ويقل حسب شدة الاستبداد وخفته, فكلما كان المستبد حريصاً على العسف كلما احتاج إلى زيادة جيش الممجدين العاملين له والمحافظين عليه. لذلك ليس غريباً أن يسعى “المقهورون” إلى تصديق كل ما تبثه وسائل دعايته من “أكاذيب”، فنلاحظ أنّ البعض يخرج في مسيرات إدانة ما يدور في غزة، أو البوسنة، لكن لا تهُزّ شعرة من رؤوسهم أخبار مقتل الآلاف في “دارفور”، وهم أيضاً يرغون ويزبدون حين سماعهم خبر اغتصاب سيدة في بلد بعيد، لكنّهم يتعاملون بلامبالاة عند سماع أي خبر عن حادثة مماثلة في أية بقعة من بقاع السودان، دون أن يعمل الذهن، ويحفز داخله العقل النقدي للحوار مع الذات، ومع الآخر، وقبل أن ينحاز بلا وعي إلى الروايات الحكومية، وفي الغالب هي روايات بقصد ” شهادة البراءة”. فالحرب في دارفور هي “نهب مسلح”، والحديث عن جرائم حرب هو “مؤامرة”، والحديث عن “تزوير الانتخابات” هو حديث بائسين، ” فروا من النزال، والحديث عن “الفساد”، لا يصدر سوى من “المعارضين”، ومن الذين لا يملكون المستندات، والذين يقصدون ” تشويه” المشروع المثالي، وتلطيخ “الثوب النظيف”. وفي النهاية تهدف الأنظمة المستبدة إلى تحويل الشعوب إلى جماعات من اللامبالين بما يدور حولهم، وقد تصل اللامبالاة قمتها؛ كأن يمر حادث كبير في السودان، مثل تقسيم البلاد كلها مرور الكرام، ويتعامل معه الناس بلا مبالاة، فيخرجون إلى الشوارع يتحدثون ببرود شديد، ويرددون مثل الببغاوات أحاديث العنصريين، وسادتهم الكرام، بأنّ انفصال الجنوب ” خير لنا ولو كرهنا ذلك”. لكن رغم محاولات تغييب وتزييف الوعي، المتعمدة لتحويل “الجماهير” إلى “حالة سلبية”، أو متماهية في النظام، أو منكفئة على ذواتها، فإنّ تجارب التاريخ تؤكد أنّ لكل شيء حدود، ولكل استبداد سقف لا يمكن تجاوزه وإن طال الزمن، وحولنا ذلك التسونامي الذي يضرب بعنف أنظمة كان البعض يعتبرها قوية وراسخة، لكن طاقات الشعوب أثببت أنّها ” نمور من ورق، وأنّها لا تعدو أن تكون سوى ” جيف متحللة”؛ وإن اكتست بثياب الهيبة والقدسية!. فقد هوى مبارك، وسقط بن علي، وها هو القذافي يترنح بعد ضربات الثوار، فللشعوب عزيمتها، فالجماهير مثل “الوحش الكاسر”، فقط تحتاج إلى تعبئة، وتنظيم، وحشد، وإلى ما يحرك هذا “الوحش”، أو يهز حالة سكونه الظاهري، ومثلما يرى الفيلسوف غوستاف لوبون؛ المفكر الفرنسي ومؤسس «علم فلسفة الجماهير» أنّ “كل ما يهز مخيلة الجماهير هو ما يظهر في شكل صورة لافتة وجلية، لا تشوبها توضيحات إضافية أو لا تصاحبها إلا أشياء عجائبية: انتصار كبير، معجزة كبيرة، جريمة كبيرة، أمل كبير". إنّ “ثورات الجماهير” هي لحظة في فعل زمني مستمر، وهي تتم عبر “التراكم”، أو عن طريق “الطفرات”، وليس بالضرورة عن طريق بيانات، محشودة “إنشاء”، أو “عبارات حماسية خاوية”، لكنها لا تداعب مخيلة هذا “الوحش”، ولذلك؛ ومن وجهة نظري أنّ “الثورة قطيعة معرفية بين القديم والجديد”، وبالطبع فهذه القطيعة لا تتم عبر “التفكير الرغائبي”، ولا بالتمني، بل تحتاج إلى العمل الدؤوب، والالتحام بالناس، ومخاطبة قضاياهم، وتنظيمهم وحشدهم، وبعد ذلك انتظار “اللحظة الفارقة”، أو “انفجار القنبلة الناسفة”، وهو انفجار قد يقع لمجرد حادث صغير، مثل مقتل بائع متجوّل، مع أنّ عشرات أو مئات كانوا قد قتلوا قبله، إلا أنّ التراكم، والتحريض، والتعبئة، والحشد تجعل هذا الفعل انتصاراً لكرامة مثل حالة ” محمد بوعزيزي “التونسي”، أو استشهاد طالب مثل حالة “القرشي” في أكتوبر”، أو ربما لهزة اقتصادية كبيرة، مثل غلاء الأسعار، والجوع، وانقطاع الكهرباء، والمياه، أو كل فعل يمكن أن يثير هذا “الوحش”. و”الوحش الكاسر”، لا توقفه بعد ذلك وسائل القمع، ولا رسائل التهديد، أو الترغيب، حال حصول “القطيعة المعرفية”، فعندما تتكون الكتلة، فعندئذ؛ يذوب الأفراد في الجماعة، وتتولد الروح الجماعية، وهي مثل روح القطيع، ففرد القطيع يشعر بالأمان مع جماعته، وتهزم الجموع داخله قشعريرة الخوف، فيشعر بالقوة، وبالثقة، وبالأمان، ويمكن أن يفعل ما لا يفعله لو كان بمفرده. إلا أنّ ذات القطيع يحتاج إلى قائد، وملهم، أو برنامج مغري للتغيير، وفي حال فقدان ذلك يحدث الفراغ، وتعزف الأنظمة المستبدة على سيمفونية” البديل”، لكن؛ المستبدين أنفسهم مع طول فترات استبدادهم يكونون منفصلين عن الواقع، و لا يصدقون أنّ لهم أخطاء، ويتوهمون بأنّهم قوة لا تُقهر، وأنّهم حقيقة لا يأتي الباطل من خلفها، أو بين يديها، ويحتكرون السلطة، والمعرفة، وسلاح الإرهاب، وحين يقتلون يظنون أنّهم يدافعون عن أوطانهم، وهم في الحقيقة لا يدافعون سوى عن” أمجاد شخصية”، ومكاسب ” ذاتية”، ومن أجلها مستعدون لمحاربة الجميع، وإهدار دماء الكل، وتفريقها ” حارة حارة.. دار دار.. زنقة زنقة”.