كلَّما أنْبَتَ الزمانُ قناةً *** ركَّبَ المرءُ في الَقناةِ سِنانا ! أحمد بن الحُسين ما أسفَرَ صبحٌ أو عسْعَس ليلٌ إلاَّ وأَنَّ جُرحٌ من أعماقِ وريدِه أو صديدِه ..وناجت نُدْبةٌ مصيرَها وسوءَ سبيلِها ..ما طوى يومٌ صحائفَ غُدُوِّهِ أو رواحِه قبل أن يُسدِّدَ أحدُهم /هنَّ طعنةً نجلاءَ في خاصرة أو صدْر أو ظهر أحدِهم /هنَّ ! لا مناص – إذن- من توقيعِ الجُرح على الجسَد كإجراء حتْميٍّ وضربيةٍ مفروضةٍ على الإنسان ما دام عُضواً فاعلاً أو غير فاعلٍ في منظومةِ هذه الحياة الدنيا ، كفرد يستوجب بقاءُه بين مجتمعه الأخذَ والعطاءَ وتنكُّب دروب وشِعاب العيْش الوعْرة أحياناً ! ولأنَّ الجِراح قولاً كانت أو فعلاً ( خشُم بيوت ) ، فضلاً عن كونها أصبحت (حُمَّى خفيفة) مقارنةً بما يقترفه بنو آدم من آثام وفظائع برْبريَّة تُعيدُنا إلى دوامِس القرون الأولى ؛ كذبح الإنسان لأخيه الإنسان من الوريد إلى الوريد كما تذبَحُ الشاة ! وأحياناً حرقه وتفجيره لتمزيق اوصاله وترك أشلاءه على قارعة الفضائيَّات و الأسافير ! ولأنَّ الجراح (خشُم بيوت) فقد تجاوزتْ جِراح الأوطان والأُمَم أيضاً إلى تمزيق أطرافها وتقطيع أجزاءِها إرْباً إرْباً ، وبيع كرامة شعوبها في نخاسة التسويات الخارجيَّة والاسترضاء المَنفعي من أجل البقاء على سُدَد السُّلطات واستدامة خيراتِها باحتلاب مواردها وتبديد ثرواتها ، حتى يشكَّهم بن الحسين بسهْم بيته : مَن يهُنْ يسهُلْ الهوانُ عليهِ *** ما لجُرْحٍ بميِّتٍ ايلامُ ! والأنكى من ذلك تكميم أفواه الوْعي وناشريه كبْتاً للصراخ والآهة ، حتى يتحوَّل جهاز الإحساس بهذه الآلام إلى آلةٍ صمَّاء بكماء عمياء ، إمَّا بفعل اليأس أو التغييب أو الاستكانة أو القهر والخوف ! وعندها يُصبح الوخذ بالقلَم – في نظر الجارحين – ضرب من ضروب الدَّجل والشعوذة والمُكابرة ، بل يصير قلم (البِكْ) سلاحاً جائراً مشهوراً في وجوههم يجِب خفضُه !!! ولسانُ حالهم يقول عليكم بجِراح الهوى بعيداً عن (الهواء) الذي يقتلع رؤوس أموال أقلامكم ، يفوتهم أنَّ كلَّ المُدى والخناجر في هذا الكون خارجةٌ من بيت طاعة أغماد الحُبِّ ونقيضه ، كلَّ الأظافر الجارحة نابتةٌ فوق أصابع حبّ الذوات والأنانيَّة والحسد وتصفية الحسابات وجنْي المكاسب أو رجاء المآرب ، كلّ السِنان الحاقدة نمتْ ورَبَتْ بفضل أسمدة الاهتراءات النفسيَّة وإسقاطات الخيبات المؤدية إلى الفشل الحياتي الذريع ! بعضُهم يطعنكَ لأجل آخرين ثم لم يلبثوا أن يوجِّهوا يده القابضة على المُدية ذاتها إلى صدره لتنغرس حتى نصلَها ، المُحتفظ ببصمته بين رئتيْهِ ! بعضهم يجرحك – مُفترِضاً فيك السذاجة والغباء – وينام ملءَ جفنيْهِ حتى تسقط سكينه الراعفة دماً من يده ؛ فإذا ما غرق في النوم ؛ انقلب عليها لتغوص في أحشائه ، ثم لا يصحو أبداً ! إنَّما الأسوأ هو مَن يجرحكَ وآخرين من دونك ثم يجرح نفسه هو دون أن يشعر أنَّه فعل شيئاً ذا بال أكثر من كونه داس بنعله على خيارٍ مُرتَجلٍ اهتبله كيفما اتَّفق كان يُمكن أن يكونه أيَّ عابرٍ أو حاضر ! بعضُ الجراح تندمل على مُديتِها الصدئة حتى تظُنَّنَّ كلَّ الظنِّ أنك برئتَ منها تماماً ؛ فما أن يعبُر فوق فضاءِها مغناطيس الزمن ؛حتى تنبثق عن دماملها وهي تخرُّ اللحمَ خرَّاً فينفجر صديدها ! وبعض جِراحنا نتركها تنام كالفتنة ،كلَّما تملْملتْ دثَّرناها بالتأسي وزمَّلناها بالصبر الجميل ، في محاولة تنزيه ال (أنا) و(الغيْر ) عن اقترافها ودرْء السبب والمُسبِّب عن حدوثها كفعل حياةٍ طبيعيٍّ أو حادث عرَضيِّ اقتضتْه مزاحمة الدُّرُب وتصاريف القدر ؛ وإنْ ظلَّتْ فاغرةً فُوهاتها إلى يوم يُبعثون ! لا شكَّ أنَّ داخل كلِّ نفسٍ جراحٌ ونُدُوبٌ مثل التي على جسد (الزين ) بطل الطيب صالح ، لها قِصصٌ وغُصَصٌ وعَبَراتٌ وعِبَر ؛ إلاَّ مَن رحم ربِّي ..أو بعض الذين ماتت جلود أرواحهم ولم تُستبدَل بغيرها ! فإن صبر المرءُ وتسامى فوق آلامها وتجنَّب اجترار ذكراها أو كابر أو جزع فإن الجراحَ لن تتخلَّى عن ابتسامها وافترار شفاهها في وجه المجروح ، كما يقرِّر شاعر اليمن (البردوني) : بي من جِراح الروحِ ما أدْري وبي *** أضعافُ ما أدري وما أتوهَّمُ أبْكي فتبتسمُ الجراحُ من البُكا *** فكأنَّها في كلِّ جارحةٍ فَمُ يا لابتسامِ الجُرحِ كم أبكي وكمْ*** ينسابُ فوق شِفاهِه الحمرا دَمُ ! هذا وإنْ كلٌّ منكم – أيَّها الجارحون – إلاَّ وارِدُها إن عاجلاً أو آجلاً ، ولكن حتى ذلك الحين يُمكنكم أنْ تتلمَّظوا قول شكسبير على لسان (روميو ) في مسرحيته (روميو وجوليت ) : مَن لم يذُقْ طعمَ الجِراح ؛ يَسْخَرْ من النُّدُوب !!! [email protected]