أوردتُ في هذه الزاوية سابقاً طُرْفة جَدِّنا دفع السيد ود الفضيل الذي غَشِىَ وهو فى طريقِه الطويل (شيخ البَنِيَّة) ..آنَسَه ومازَحه ما شاء له التداعى قافزاً فوق أسوار الوقار والهيبة المضروبة عُرْفاً حول مسيد الشيخ ، ثم طلب إليه أن يدعو له اللهَ مُيَسِّرَ كلَّ أمرٍ عسير ، وأنْ يفتح (الكتاب) الكبير – حمولة صبىٍّ شقىٍّ (مدَرْدَحْ) – ليُباركَ خطواتِه السادرة فى فجاج الصعيد البعيد . فعل (شيخ البَنِيَّة) كلَّ ذلك فى لحظات قليلة .. أطرق بُرْهةً ثم أرسل عينيْهِ إلى سماء المجهول الملبَّدة بالغيوب ثم صفق بكفَّيْه وسْط فرقعة حبَّات مسبحة اللالوب العتيقة ، مُشيراً لجَدِّنا (دفع السيد) بالتوكُّل على الله ومواصلة المسير .. إذاً جاء عليكَ الدَّور يا دفع السيد لدفع مستحقَّات (الشيخ) وتسديد فاتورة أتعابه وإنْ شئتَ قُل (البَياض) ..رفع الجَدُّ جلبابَه وادخل يدَه فى جيب (العراقى) .. أخرج حافظة نقود (جُزلان) كمخلاةِ الحمير عندما فرَغ مِن فَضِّ طيَّاتِها الكثيرة والمتداخلة ، ثم أخذ ينتقى وينتخب مِن قاعِها القصىِّ ما يُمكن أنْ يدسِّه فى يدِ الشيخ (غمْتة مُزيِّن) ، ليمضى – بعد ذلك – إلى حال سبيلِه .. فما فتئ الجَدُّ يتحسّس – داخل المحفظة- جُنيْهاً فيُزيحه جانباً ..يتلمَّس (طرَّادة) فيتجاوزها .. يقع بين يديه (الريال ابو جمَل) يدفعه بعيداً .. (شِلِنْ) ، (أم قرشين) ... وهكذا حتى سئم الشيخ مِن صنيع الجَدِّ هذا ، فقال ضاحكاً وهو يُخلِّل لحيتَه : - إنتَ يا ودَّ الفضيل الجنيه كتير عَلَىْ يعنى؟! ليقول جَدُّنا (دفع السيد ودَّ الفضيل) مُنتفضاً : - هوى آ (شيخ البَنِيَّة) بعد ده سَوَّلَكْ دَرَقة وسيف !! وللذين فاتهم المغزى إنَّه يُريد أن يقول له : إنْ كان ما تتقاضاه مقابل الزيارة والتبرُّك جُنيهاً كاملاً إذاً عليك بالسيف والدَرَقة لتُصبحَ قاطعَ طريقٍ ( همباتي عديييييل كدى) ! ولو قُدِّر لجدِّنا – رحمه الله – أن يشهدَ يومَنا هذا لعلِم كم كان شيخ البنيَّة (صاحب البياض) رحيماً بحَوارِيِّه مقارنةً بسيف الحكومة المسلول لسفْك دم حيلة المواطن المغلوب على أمره .. وكيف أنَّ سيف الحكومة هذا لم يترُك شبراً في جسد ميزانية مواطنيه إلاَّ وفيه (كَجْمة) مَكْس أو (قَرْمة) ضريبة ، حتى وصل به الأمر إلى قاع تلك تلك الحُفرة الكائنة في رُكْنٍ قصيٍّ من عريشة خصوصيَّتها .. الحُفرة المبطَّنة بالفخَّار والمحفوفة بهالة النَّطْع المُعفَّرة بالوَدَك والطِّيب وعُصارة (الكِسْرة) .. المستعصمة بشَمْلة الحميميَّة والإستكانة والمودَّة ! تلك الحُفرة المخفورة وراء الخِدْر اخترقَها سيفُ الجباية وتغلغل في أحشاءِها ثم خرج مزهُّواً بصليل الظَّفَر ورنين الدراهم الحسناوات ليبُثَّها همبتة أشواقه الجريئة : رِكِبْ لِكْ فوقْ جموحاً مابْتدورْ اللَّكه جيتِكْ كارِفَ المَحْلب بدور الدِّلْكه مِن جخنون دروبِك ما بخاف والشِّبْكه دحين يامْ رشيم ارجيني فوق الدَّكه !! لا تكمن المشكلة في فرض ذلك الوالي رسوماً على حطب الدخان الذي هو عادة سودانية عابرة محيطات وبحار وجوَّابة مطارات ، لم تتركْها السودانيات أينما كُنَّ دتخل وخارج البلاد ! كما لا تكمن المشكلة – عزيزي القارئ – في العصا الغليظة التي ترفعها الحكومة في وجه شعبها البارِك فقراً مُدقعاً ، تلك الموسومة برفع الدعم عن المحروقات والقمح كمعالجة بائسة لعجزها الإقتصادي وفشلها الذريع في تسيير دولاب الدولة إلاَّ من خلال عصْر الشعب السوداني الفضل عسى أن تَسْتخرج من ضلوعه (الناشفة ) قليلَ زيتٍ يبلّ ريق الصدأ المتراكم بين غضاريف رُكبها (المعصْلجة ) ومفاصلها المتآكلة التي تسمع لها صريراً وهي تصرُّ على مواصلة المسير نحو الهاوية ! إنما المشكلة الحقيقية هي الماكينة العقْليَّة ذات المِقْود (المفْتول) التي لا تعمل إلاَّ ببنزين (الإستفزاز) وزيت (اللامبالاة) ، وكليْهما يصبُّ على نار الحفيظة ،والنار كما يصفها أهل الدفاع المدني هي عدوٌّ أعمى وأصمّ ..ورغم ذلك فإنَّ هذه الماكينة غير البكماء تصطدم بكلِّ ثابتٍ ومتغيِّر في طريقها ثم تحرِّر له على عجلٍ شهادة غباء فحواها (غلطان المرحوم) ! أنظر مثلاً السيِّد وزير الإستثمار الذي التهمت النارُ – قبل فترةٍ- جزءاً من وزارته حيث لا تزال تشوُّهاتها ونُدُوبها السوداء ياقيةً على الجُدُر ..أنظر إليه وهو يُشعل فتيلاً لُغويَّاً مُتِّكأً على فرضيَّية غباء الشعب ، إذ يقول إنَّ الشعب السوداني تعوَّد على الرخاء ويصعب فطامه !! أيُّ رخاءٍ وأيُّ بطيخ – يا سعادة الوزير – لشعبٍ يرزح ستة وأربعين في المائة منه تحت خطِّ الفقر ؟! تُرى هل سقطتْ كلمة رخاء سهواً في موقع نقيضتها ، أم سقطنا نحن غباءً تحت عجلة الماكينة العقلية ذات المقود (المفتول) ! وها هو ذا السيِّد وزير المالية يصبُّ برميلاً من لا مبالاته على النار التي لا تستطيع خنقها أو تجويعها أو مكافحتها ببودرة (البرود) أو فوم (الطناش) وهو يقول في مطلع هذا الإسبوع بعدم حوجة وزارته الرجوع إلى البرلمان لإجازة رفع الدعم عن الوقود ! ثم يهدِّد البرلمان – وفق صحافة الثلاثاء – بعقوبات حال رفع الدعم دون موافقته ! كما أعلن رئيس لجنة الأمن والدفاع بالبرلمان أنَّ إجازة قرار رفع الدعم دون إيداعه البرلمان يخالف قانون الموازنة . حسناً ..ماذا جرى بعد ذلك لبرلمان الحكومة المُسمَّى مجازاً ببرلمان الشعب !! ما حدث هو أن وافتْنا صحافة الأربعاء بعوانين على شاكلة : البرلمان يسمح برفع االدعم دون الرجوع إليه !و المالية والبرلمان يتفقان على رفع الدعم عن المحروقات ! وياها المحريَّة فيكم !!! ويبقى السؤال ..تُرى أيهما أحقُّ – يا أولي العزم والحسم والحزم- بالفعل ،إعادة المُجنِّبات من الشركات الحكومية وما أكثرها إلى حظيرة المالية واسترداد المُعتَدَى عليهنَّ من أموال عامة – وفق المراجع العام – من حلاقيم التماسيح المتشمِّسة على شواطئ الأمن والأمان ، أم الرجوع أو عدم الرجوع لبرلمان - مثل الدوكه ال ما بتْحمى- لإجازة المزيد من العنت والمشقَّة والضنك على الشعب المكدود ؟؟!!