حظيت بدعوة، من حيث لا أدري ولا أحتسب من رئيس نيجيريا السابق أوباسانجو شخصياً، لحضور المؤتمر الرابع لمنبر تانا عالي المستوى المعني بقضايا الأمن في القارة الإفريقية، والذي عُقد في يومي 18 و19 أبريل الجاري بمدينة "بحر دار" السياحية في أثيوبيا التي تحيط بها من عدة جوانب بحيرة تانا الشهيرة مصدر مياه النيل الأزرق. وجذبني لتلبية الدعوة أن موضوع المؤتمر لهذه السنة هو: العلمانية والدين السياسي وأثره على أمن القارة الإفريقية، وكأنما العنوان يشير إلى أن الدين حين يتدخل في السياسة يصبح مهدداً لأمن المجتمع! وبما أني لا زلت من المحسوبين على التيار الإسلامي العريض، برضىً مني حينا وبلا رضى في أحيانٍ أخرى، فينبغي أن أنبري للدفاع عن الفكر الذي أنتمي إليه إذا تناوشته الأعداء رغم التجارب البائسة التي قدمتها تنظيمات الإسلام السياسي عندما أتيحت لها فرصة المشاركة في الحكم أو الانفراد به. وتوقعت أن السياسيين والمفكرين والأكاديميين الأفارقة الذين يحضرون ذلك المؤتمر من الدول الإفريقية جنوب الصحراء،وجلهم من المسيحيين والعلمانيين، (سيجلدون) الإسلام السياسي جلد غرائب الإبل! ولا تعوزهم الأدلة بما يرونه يومياً في القنوات الفضائية من فعائل بوكو حرام في نيجيريا، وحركة الشباب الإسلامي في الصومالوكينيا،وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا، والقاعدة بمسمياتها المختلفة في اليمن وليبيا والمغرب، وجماعة أنصار الشريعة في تونس، وجماعة طالبان في أفغانستان وباكستان وغيرهم. وقلت في نفسي لا بد من حضور هذا المؤتمر لأداء واجب المُقل وهو الدفاع عن الفكرة، أي حق المتدين في أن يعكس عقيدته في سلوكه السياسي دون أن ينتهك حقوق الآخرين، مع تخطئة السلوك المتشدد أو المنحرف لتطبيقها في حياة المجتمع. ومنبر تانا عالي المستوى للأمن في إفريقيا تأسس في 2011م بمبادرة مستقلة من معهد دراسات السلام والأمن (IPSS) التابع لجامعة أديس أببا والذي عُرف بنشاطه الجم في حقل الدراسات الأمنية والسياسية على المستوى المحلي والإقليمي، وتلقف الفكرة رئيس وزراء أثيوبيا السابق مليس زيناوي واتصل بعدد من الرؤساء الأفارقة لوضع الفكرة موضع التنفيذ، وكان يأمل أن يصبح منبر تانا قوياً وشهيراً مثل "مؤتمر ميونخ لقضايا الأمن الأوربي". وتولى معهد دراسات السلام والأمن السكرتارية التنفيذية للمنبر منذ نشأته إلى اليوم لم تختطفه منه آلية حكومية أو حزبية! وتتولى إدارة المنبر لجنة استشارية برئاسة أوبسانجو وعضوية ثابو أمبيكي ورئيس جمهورية بوروندي السابق ومستشار رئيس وزراء أثيوبيا بروفيسر إيشيتي والسفير محمد سحنون وبروفيسر محمود ممداني وآخرين، وللمنبر لجنة فنية متخصصة من داخل أثيوبيا وخارجها من بينهم عبدل محمد وأليكس دوفال؛ الخبيران في النزاعات السودانية وهي تقوم بنصيحةالسكرتارية في الشؤون الفنية المتعلقة بقضايا الأمن. وعادة ما يتم ملتقى المنبر في شهر أبريل من كل عام بمدينة بحر دار ليتدارسوا قضية ّهامة ذات أبعاد أمنية متشعبة، يدعى لمناقشتها مجموعة متميزة من الرؤساء والمسؤولين الحكوميين والأكاديميين والخبراء المختصين والدبلوماسيين والباحثينوالإعلاميين وممثلين عن المرأة والشباب. وقد أقام المنبر منذ نشأته أربعة منتديات الأول في 2012م تحت عنوان: إدارة التنوع وهشاشة الدولة، والثاني في 2013م عن: الأمن والجريمة المنظمة في إفريقيا، والثالث في 2014م تحت عنوان: تحويلات الأموال المشبوهة وتأثيرها على الأمن الإفريقي، والرابع في 2015م بالعنوان المذكور أعلاه والذي حضره ما يزيد على ال 400 شخص من شتى دول القارة الإفريقية كان السودان من أقلها تمثيلا (شخصي الضعيف واثنان مقيمان في لندن منذ سنوات طويلة)! خُصص اليوم الأول للمؤتمر لتقديم المحاضرة السنوية في ذكرى مليس زيناوي، وكانت عن الإفريقانية والنهضة الإفريقية: انعكاسات تراث الرئيس كوامي نكروما، ألقاها المهندس علي ميرفيريوكي مؤسس مجموعة تقنية المعلومات الاستثمارية في تنزانيا والذي كان حاداً وشجاعاً في نقده لتجربة نكروما التي وصفها بالفشل في السياسة والاقتصاد مما أثار قدرا من الجدل والإحباط بين قطاع من المستمعين. وألقى رئيس وزراء أثيوبيا هايلي ماريام كلمة افتتاحية رحب فيها بالحضور كما ألقى وزير الدولة الألماني للشؤون البرلمانية كلمة بصفته ممثلاً لشركاء المنبر كانت عن التجربة الأوربية في العلمانية، ولفت نظري قوله إنهم لا يفصلون بين الدولة والدين. وعقد رؤساء الدول والحكومات التي حضرت المؤتمر جلسة خاصة بهم حضر منهم: رؤساء كل من كينيا ويوغندا وراوندا والصومال ومالي والرئيس السابق لتنزانيا كما حضر أمير كانو الشيخ محمد السنوسي خريج جامعة إفريقيا العالمية. وكان برنامج اليوم الثاني عبارة عن ثلاث حلقات نقاش الأولى عن: علمانيات إفريقيا والمهددات الدينية للأمن، والثانية عن: تسييس الدين والأصولية والأمن البشري، والثالثة التي كان من نصيبي المشاركة فيها عن: العلمانية والديمقراطية وبناء الدولة في إفريقيا. كان من أبرز المشاركين في حلقات النقاش الثلاث: الشيخ راشد الغنوشي والسفير لخضر الإبراهيمي والأمير محمد السنوسي الذي كان مجيداً في مداخلته والسفير هايلي منقريوس وبروفسير فرانسيز من ساحل العاج والدكتور عبد الوهاب الأفندي الذي كتب الورقة المرجعية للمؤتمر بعنوان: ما بعد العلمانية: النزاع الطائفي والتحدي المستديم للدولة الإفريقية. وكانت ورقة شاملة متميزة أُرسلت للمؤتمرين قبل حضورهم ولكني عجبت أن كاتبها لم يعط فرصة لتقديم ورقته على أساس أنها أرسلت قبل وقت للمدعوين كما أن نظام المؤتمر يقوم على حلقات النقاش الصغيرة Panel discussion) ) لعدد قليل من المتحدثين يجيبون على أسئلة محددة يطرحها رئيس الجلسة ويتفاعلون مع ملاحظات الحضور وأسئلتهم. وليس من تقاليد المنبر أن يصدر بياناً أو توصيات بخصوص الموضوع الذي ناقشه ولكن السكرتارية ترسل محضرا شاملاً بالمناقشات للحاضرين وللحكومات والمنظمات الافريقية والجهات التي يهمها الموضوع حتى يلم القارئ بوجهات النظر المختلفة وأسبابها. وأحسبه منهج جيد يستحق الأخذ به لأنه مما يشجع على التعددية المعرفيةفي مجتمع شبه شمولي. وقد كانت خلاصة النقاش أن العلمانية (خشم بيوت) وكذلك التدين السياسي، وعلى المجتمع المعني أن يصل إلى توافق حول هذه القضية المحورية في مناخٍ من الحرية والديمقراطية حتى يحقق الأمن والسلام لجميع مواطنيه ويحفظ للأقليات حقوقها الثقافية والدينية.