ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية    شاهد بالفيديو.. شاعرة سودانية ترد على فتيات الدعم السريع وتقود "تاتشر" للجيش: (سودانا جاري في الوريد وجيشنا صامد جيش حديد دبل ليهو في يوم العيد قول ليهو نقطة سطر جديد)        ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    محلية حلفا توكد على زيادة الايرادات لتقديم خدمات جيدة    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    مناوي ووالي البحر الأحمر .. تقديم الخدمات لأهل دارفور الموجودين بالولاية    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَام [7]
نشر في حريات يوم 15 - 07 - 2015


مَائَةُ عامٍ مِنْ عُزْلَةِ الدُّرُوسِ المُهْدَرَة
(مَبْحَثٌ فِي قِيمَةِ الاعْتِبَارِ التَّارِيخِي)
كمال الجزولي
"إلى رُوحِ جَدِّي لأمِّي مُحَمَّد وَدْ عَبْدَ الكَريمْ الأَنصَاري الذي
عَاشَ لأكثَرَ مِن نِصفِ قَرْنٍ بَعْدَ (كَرَرِي)، راكِلاً الدُّنيا بِمَا
فِيهَا، ومُتَرَقِّباً القِيامَةَ، فِي كُلِّ مَرَّةٍ، يَومَ الجُّمُعَةِ القَادِمَةْ"!
***
انطَلَقَتْ العَصَبيَّةُ العَشَائِريَّةُ والقَبَلِيَّةُ والجِّهَويَّةُ تَسْتَثْنِي نَفْسَها
مِن "خِطابِ الزُّهْدِ" بِلا أَدْنَى مَرْجِعيَّةٍ دِينِيَّةٍ أو اسْتِحْقَاقٍ دُنْيَويٍّ!
لَمْ تَعُدْ الدَّعْوَةُ الثَّوْريَّة القَديمَةُ قَادِرَةً عَلى
لَجْمِ انْفِجَارِ الصِّرَاعِ حَوْلَ قَضِيَّتَي "السُّلْطَةِ"
و"الثَّرْوَةِ" خُصُوصاً قَبْل كَرَرِي مُبَاشَرَةً!
"إنت يا ولد النِّجومي هِوَيِّن أخوانك الذين معك كلهم
استشهدوا فأنت إلى متى تحيا خائفاَ من الموت"؟!
الخليفة مستعجلاً حملة غزو مصر
مَا كَانَ لِلجَّانِبِ الإِشْكَالِيِّ فِي مَشْرُوعِ "المّهديَّةِ الدَّوْلَةِ" أنْ يَغيبَ عَن
الحِسَابَاتِ الاسْتِخْبَاريَّة لِبِرِيطَانيا الخَارِجَةِ مِن مُؤتَمَرِ بَرْلِينَ بِحِصَّةِ الأَسَدِ!
(23)
لا يخفى، حتى على النَّظر العابر، عمق التَّناقض بين "الإعراض" عن الدُّنيا كقيمة أساسيَّة في الخطاب المهدوي الذي أعاد تشكيل الوعي الاجتماعي خلال مرحلة "الثَّورة"، وبين "الإقبال" عليها كاستنتاج أوَّلى يستفاد من وقائع الصِّراع الذي نشب حول "السُّلطة" و"الثَّروة"، بعد تأسيس "الدَّولة" ووفاة قائدها ورمزها الاستثنائي، أي بين "خطاب الزُّهد" وبين "ممارسات" الشَّرائح العليا في المجتمع التي مازجت بين النَّزعتين الأوتوقراطيَّة والثِّيوقراطيَّة في إدارة جهاز الدَّولة، وبخاصة قوى العصبيَّة العشائريَّة والقبليَّة والجِّهويَّة المتمثِّلة في "الحزب التَّعايشي"، والتي انطلقت تستثني نفسها من "خطاب الزُّهد"، بلا أدنى مرجعيَّة "دينيَّة" أو استحقاق "دنيوي"، فلم تورث "ملح الأرض" الكادحين الذين كانوا يطمحون إلى الحياة الأفضل، كمردود مستحق ل "ثورتهم"، سوى السَّراب وقبض الرِّيح! فتلك الشَّرائح ما نشبت تبدى من روح التَّكالب على "السُّلطة" و"الثَّروة"، بكلِّ الوسائل المشروعة وغير المشروعة، ما أفضى، في نهاية المطاف، إلى تفكيك وحدة التَّنوُّع، وتجريف الجَّبهة الداخليَّة، واستشراء القهر الاجتماعي، والاستعلاء الجِّهوي، والفساد المالي والإداري، والاستقواء بالسُّلطة السِّياسيَّة، والاحتماء بالمنعة الحربيَّة، والانفراد بمرجعيَّة التَّأويل الدِّيني لظواهر الصِّراع السِّياسي، على النحو الذي أفاض الشَّيخ الأنصاري الجَّليل بابكر بدري في تفصيله.
ولئن كان ذلك التَّناقض مستبعداً، يقيناً، خلال مرحلة "المهديَّة الثَّورة"، حيث لم يكن لدى الثُّوَّار الكادحين ما يفقدونه، وقتذاك، سوى إدقاعهم، وحيث شكلت أيديولوجيَّة "الزُّهد" ذاتها القوَّة الرَّافعة والمفجِّرة لطاقات فعلهم الثَّوري، فإن بروز التناقض بعد تأسيس "المهديَّة الدَّولة" كان، بالقطع، محتوماً، حتميَّة الصِّراع نفسه كسُنَّة كونيَّة، وكقانون موضوعي، بكلِّ ما حمله ذلك التَّناقض من خيبة الأمل، مقارنة بالاستبشار الذي كان كامناً، ولا بُدَّ، في وجدانهم الجَّمعي، توقُّعاً لنوال حقٍّ مستحقٍّ في بناء "الوجود المغاير"، عقب القضاء على ظلم التُّرك بطبيعة الحال.
بعبارة أخرى، لا تصعب على أيِّ نظر مستبصر في تلك الإشكاليَّة ملاحظة أن فكرة "الحياة الدُّنيا"، كما سبق وألمحنا، لم تكن مطروحة، أصلاً، في سياق الخطاب المهدوي، ك "علاقات" تستهدفها "الثَّورة" بالتَّغيير الرَّاديكالي، أو تتناولها برامج "الدَّولة" بالإصلاح، وفق مبادىء العدالة الاجتماعيَّة في الإسلام، لصالح الكادحين الذين جعلوا ذلك ممكناً، وإنما ك "مفسدة" مطلقة، و"باطل" صراح ينبغي "الزُّهد" فيه، و"الإعراض" عنه، فى كلِّ الأحوال! ولما كان ذلك مطلباً عصيَّاً على الفطرة، وعلى طبائع الأشياء، حيث أن شرط اشتعال كلِّ ثورة إنَّما هو بناء "الوجود المغاير"، فقد تحتَّم أن تتخذ تلك "الدُّنيا المحرَّمة" لنفسها "مسرباً" آخر، "فاسداً" و"ملتوياً" بالضَّرورة، لمن استطاع إلى "الفساد" و"الالتواء" سبيلا، فيصطدم الحُلم، في نهاية المطاف، بواقع التَّناقض الفاجع بين "الخطاب" وبين "الممارسة"، بين "مثال الثَّورة" الذي تشرَّبه الكادحون من تعاليم الإمام الثَّائر، وبين "واقع الدَّولة" الذي ألفوا أنفسهم يرزحون في جحيم قمعه، وقهره، وفقره، ومجاعته، بينما الشَّرائح الدَّاعمة للأوتوقراطيَّة مشغولة بجني ثمار تحلقها حول مركز الحُكم بكلِّ السُّبل! وكم كان الأمير الزَّاكى عثمان صادقاً، للعجب، ويا له من صدق مرذول، وهو ينطق بلسان تلك الشَّرائح في مجلس الشُّورى الأخير عشيَّة كرري، فيستثير غضب الخليفة بتعبيراته الخرقاء!
(24)
هكذا لم تعُد الدَّعوة الثَّوريَّة القديمة قادرة على لجم انفجار التَّدافع حول "السُّلطة" و"الثَّروة"، برغم كل الجهود التي بذلها الخليفة، بأقصى ما أوتي من عبقريَّة في القيادة والإدارة، كي يوصل تركة المهدي إلى غاياتها، ليس، فقط، بتحرير العالم الإسلامي من نير الحكم الأجنبي، بل وبتبليغ "الرِّسالة" إلى العالم بأسره. أما الشَّأن الدَّاخلي فلم يكن له، كما أنفت الإشارة، ثقل في ميزان تلك الغايات، ما يعني أن تهون مصاعب الدَّاخل كلها، وتتراجع مطالبه الملحَّة، بل وتُقمع بالقوَّة الماديَّة إنْ لزم الأمر، حتَّى لا تعلو على مقتضيات المشروع الرِّسالي العالمي .. فما ل "وسخ الدُّنيا" هبَّت الثَّورة!
لهذا السَّبب، وغيره، صحَّ عندنا النقد الذي وجهه عبد الله علي إبراهيم لاستنتاجات محمد إبراهيم أبو سليم بشأن تعاليم المهديَّة وتشريعاتها عن "الأرض" بكردفان، ضمن المنشور المار ذكره، والذي منع الكبابيش وغيرهم من ادِّعاء وراثة الأرض، أو التَّشاجر عليها، أو تحصيل الخراج من ساكنيها، حيث اعتبرها أبو سليم ".. انتقالاً من مثاليَّة الصَّالحين إلى واقعيَّة الحاكمين" (الأرض في المهديَّة، ص 62 63)، وثمَّنها كبرنامج للتَّغيير الاجتماعي، وبالتالي ".. لمس فيها نوعاً من مبدأ الأرض لمن يفلحها الذي قد يبرِّره اتِّساع الأراضي في المناطق المطريَّة بكردفان .. (فرأى) أن المهدي مال، أوَّل أمره، إلى إلغاء المِلْكيَّة .. ثم انتهى إلى اشتراط الشُّروط التي تحدُّها عندما انتقلت إدارته إلى الأراضي النيليَّة الضَّيِّقة المشحونة بالنِّزاعات"، بينما رأى عبد الله في تلك التَّشريعات "سياسة عمليَّة" تهدف لتحجيم سطوة أرستقراطيَّة الكبابيش القائمة بالأساس على نمط معين من ملكيَّة الأرض هو "تبريد الدار"، أي جعلها خالصة لصاحبها، وما يترتب على ذلك من علاقات ك "التَّبع" و"القيمان"، مثلما رأى فيها "دعوة لتحرير قبائل التَّبع مثل جهينة والكواهلة وبنى جرَّار" التي ناصرت المهديَّة، وتأليبها على "النوراب" ذوي المصلحة الأكيدة في النِّظام القديم (ع ع إبراهيم؛ الصِّراع ..، ص 81 82 83).
(25)
ما كان لذلك الجَّانب الإشكالي في مشروع "المهديَّة الدَّولة" أن يغيب، استراتيجيَّاً، عن الحسابات الاستخباريَّة لبريطانيا الخارجة من مؤتمر برلين بحصَّة الأسد. فقد ظلت ترصد "مصاعب الدَّاخل" المتمثَّلة في غياب برامج التَّغيير الاجتماعي، والتَّركيز على عسكرة الحياة لصالح المشروع الرِّسالي الإقليمي والعالمي، ورهْن النَّشاط الاقتصادي كله، من ثمَّ، لصالح المجهود الحربي، مِمَّا تسبَّب في الضَّوائق، والمجاعة، والانقسامات القبليَّة، والتَّناقضات الجِّهويَّة، واستبداد القوى الأوتوقراطيَّة، واستشراء المظالم الاجتماعيَّة، وتكريس سياسة قمع المعارضة التي لم تقتصر على الأشراف و"أولاد البلد" وحدهم، بل اتَّسعت، وتنوَّعت، وتدرَّجت من المواقف السَّالبة إلى الصِّدام المسلح، من معارضة الرأي التي انخرط فيها علماء ومتصوِّفة، إلى معارضة القبائل التي شملت الكبابيش، والشُّكريَّة، والعبابدة، وغيرهم، بما فيهم من ناصروا المهديَّة أوَّل أمرها، ثمَّ ما لبثوا أن انقلبوا عليها، كقبائل الجَّزيرة، والبقَّارة، والفور، والنوبا، فضلاً عن المعارضة من بطن الحركة المهديَّة نفسها، كمعارضة المنَّا اسماعيل وحركة أبو جميزة مثلاً (راجع: محمد محجوب مالك؛ المقاومة الداخليَّة للحركة المهديَّة".
أخيراً، عندما تمخَّضت "مصاعب الدَّاخل" تلك عن انفجار الصِّراع الدَّمويِّ المأساويِّ المحتوم والمؤجَّل بين القوَّتين الأساسيَّتين في إطار "المهديَّة الدَّولة"، وهما "أولاد العرب" و"أولاد البلد"، لم يكن انتصار أيٍّ منهما ليعنى، في منظور النَّشاط الاستخباري الأجنبي المحموم، أكثر من إضعافهما معاً، تمهيداً لتفكيك الجَّبهة الدَّاخليَّة، كمقدِّمة لازمة لكسر شوكة الدَّولة الوطنيَّة كلها.
(26)
لقد رمى ذلك النَّشاط الاستخباري الإمبريالي، في بعض وجوهه، مع خواتيم القرن التَّاسع عشر، إلى تصوير ".. المهديَّة بأنها دولة متسلطة يحكمها حفنة من الرُّعاة .. وأن الأوضاع فيها وصلت دركاً سحيقاً من الفوضى والعنف الوحشي، وأن خلاص أهل السُّودان هو عبء الرَّجل الأبيض" (م س القدَّال؛ تاريخ السُّودان الحديث، ص 215). وبالفعل ظلت حُمَّى النَّشاط الاستخباري الأجنبي تزداد استهدافاً لاستقلال البلاد، كلما ازدادت "بنادق السلطة" ارتفاعاً إلى "صدور الرَّعيَّة"! فليس من قبيل الصُّدفة، مثلاً، أنه، وتحت الإشراف المباشر للمخابرات المصريَّة، صدر كتاب ونجت باشا "المهدويَّة والسُّودان المصري Mahdism and the Egyptian Sudan" عام 1891م، في نفس التَّاريخ، تقريباً، الذي شهد المواجهة الدَّمويَّة العاصفة التي زلزلت أركان الدَّولة بين الأشراف والتَّعايشة. وصدر كتاب القس النِّمساوي جوزيف أهرولدر "عشر سنوات في أسر المهدي Ten Years Captivity in the Mahdi's Camp" الذي قام بتحقيقه والإشراف على ترجمته ونشره ونجت نفسه عام 1895م، في ذات الوقت الذي كان فيه الخليفة شريف يرزح تحت التَّعذيب والإذلال، مكبَّلاً بالحديد، في كوخ من القش! كما صدر كتاب النِّمساوي الآخر رودلف سلاطين "السَّيف والنَّار في السُّودان Fire and "Sword in the Sudan الذي حققه ونشره ونجت أيضاً عام 1896م، في عقابيل التَّصفيات الواسعة التي طالت "أولاد البلد"، وأيلولة أمر الدَّولة، نهائيَّاً، ل "أولاد العرب"، قبل وقت طويل من كرري عام 1898م. وما يلبث أن يتكشَّف مغزى ذلك كله حين نذكر أن ونجت هذا لم يكن أديباً، ولا مؤرِّخاً، ولا ناشراً محترفاً، بل كان، ببساطة، رئيساً لجهاز المخابرات المكلف بخدمة الاستراتيجيَّة البريطانيَّة في أفريقيا، والسُّودان في موقع القلب منها، خلال الفترة التي أعقبت اعتماد مؤتمر برلين ل "قسمة الذئاب" في القارَّة!
(27)
لم تتوفَّر، يقيناً، لسيِّدي الخليفة، في ظروف المستوى المتاح من الوعي الاجتماعي، والعزلة الخانقة التي ضربها على نفسه وعلى البلاد، فضلاً عن ضعف استخباراته، الدِّراية الوافية بالطبيعة الموضوعيَّة لصراع المصالح المتناقضة، وموازنات القوى الاستراتيجيَّة في المنطقة وفي العالم، دَعْ ما بلغه علم السِّلاح، أوان ذاك، وصناعته. مع ذلك، بل ربما لذلك، اندفعت سياسته الخارجيَّة، بأقصى عزمها، وبكلِّ شروخ جبهتها الدَّاخليَّة المفكَّكة، على خط عدواني مباشر ضدَّ الجيران والعالم، ففاقمت من حال ضعفها وعزلتها، وأهدت العدوَّ مبرِّراً إضافيَّاً لكسرها عسكريَّاً؛ فتلك السِّياسة:
أ/ أقحمت الدَّولة الوليدة في ملابسات صراع الأمراء في بقاع نَجْد وحايل والحجاز، من جهة، وفي ما بينهم وبين الحكم التركي القائم هناك من جهة أخرى (نفسه، ص 193).
ب/ واصلت ضغطها المعنوي على سلطنات غرب وشمال أفريقيا، كما في رسائل الخليفة المتلاحقة، مثلاً، إلى حياتو بن سعيد ورابح الزبير، بسلطنة ودَّاى، ملحَّاً في طلب الاستجابة الفوريَّة لداعي المهديَّة، إضافة إلى تذكيره المستمر لمحمد السَّنوسي في ليبيا بضرورة الإسراع في القيام لنصرتها (نفسه، ص 193).
ج/ توجَّهت، أيضاً بدعوة الخليفة لسكان مصر "أهالي الرِّيف والجِّهات البحريَّة كافة" للانخراط في سلك المهديَّة، وتحذيرهم من المخالفة، أو توهُّم انقطاع المدد الإلهي بوفاة المهدي، وتأكيده لهم على عزمه استكمال رسالة المهدي بفتح مكَّة، والقسطنطينيَّة، واليمن، والشَّام، أسوة بسيرة المصطفى (صلعم) وأصحابه (ضمن ن شقير؛ تاريخ السُّودان، ص 678). وبعث، في ذات المعنى، بالرِّسالة سالفة الذِّكر إلى الخديوي توفيق عام 1887م يأمره بالتَّسليم، وينذره بأن الهمم قد نهضت لتوجيه الجِّيوش نحوه (ضمن المصدر، ص 682). كما بعث، في نفس السَّنة، بإنذارين آخرين: الأول للسُّلطان عبد الحميد ".. واعلم أننا قد فرغنا من فتوحات السُّودان منذ أزمان، وسمت بنا همَّتنا إلى فتح الجِّهات البحريَّة والممالك المصريَّة" (ضمن المصدر، ص 689)، والأخرى إلى الملكة فكتوريا يدعوها لاعتناق الإسلام، ويتوعَّدها بمصير هكس وغردون وستيوارت الأوَّل والثاني إذا لم تسلم للمهديَّة (ضمن المصدر، ص 684 685)، وزاد الفولكلور الشَّعبي بأن تداول، دونما تثبُّت أو توثيق، بل ربَّما، فقط، من باب الفخر والتَّباهي بفروسيَّة الخليفة، أنه وعَدَها بتزويجها إلى يونس الدِّكيم في ما لو أسلمت، وحسُن إسلامها!
ضمن ذلك السِّياق، جاءت الوقائع المأساويَّة لحملة ود النِّجومي في الشَّمال. فعلى حين كان ذلك القائد المتمرِّس يتروَّى في حساب خطواته قبل أن يقدم على أيِّ عمل عسكري تجاه مصر، كان الخليفة يستعجل الغزو (م س القدَّال؛ تاريخ السُّودان الحديث، ص 194 195). ولمَّا لم يكن الأخير ليحتمل أدنى اعتراض من أيٍّ من قادته العسكريِّين، دَعْ أن يكون هذا القائد بالذَّات هو عبد الرحمن النِّجومي، أحد أبرز أقطاب "أولاد البلد" الذين كان صراعه معهم محتدماً في أوجه، فقد اختلط حنقه المرير عليه، في تلك اللحظة، بتطلعه الجَّامح لتحقيق نصر عسكريٍّ بأيِّ ثمن. وكان من نتاج تلك العوامل الذَّاتيَّة السَّالبة أن عَمَدَ لتعنيف ذلك القائد العظيم علناً، بقوله له:
"إنت يا ولد النِّجومي هِوَيِّن، أخوانك الذين معك كلهم استشهدوا، فأنت إلى متى تحيا خائفاَ من الموت؟!" (ب بدري؛ تاريخ حياتي، ص 55).
وقد حقَّ لبعض المحللين أن يروا في تلك الإهانة المُحرِّك الأساسي لاندفاع ود النِّجومي على طريق الغزو، بلا رويَّة أو تدبُّر، فقط من باب التَّنازل اليائس عن تقديره الشَّخصي الذي كان يراه صواباً، والامتثال، فحسب، لأمر الخليفة الذي كان يراه خطأ (م س القدَّال؛ تاريخ السُّودان الحديث، ص 195).
(نواصل)
***


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.