«تزوجت شقيقها للحصول على الجنسية»..ترامب يهاجم إلهان عمر ويدعو إلى عزلها    صحة الخرطوم تطمئن على صحة الفنان الكوميدي عبدالله عبدالسلام (فضيل)    بيان من وزارة الثقافة والإعلام والسياحة حول إيقاف "لينا يعقوب" مديرة مكتب قناتي "العربية" و"الحدث" في السودان    يرافقه وزير الصحة.. إبراهيم جابر يشهد احتفالات جامعة العلوم الصحية بعودة الدراسة واستقبال الطلاب الجدد    المريخ يكسب تجربة البوليس بثلاثية و يتعاقد مع الملغاشي نيكولاس    البرهان يصدر قراراً بتعيين مساعد أول للنائب العام لجمهورية السودان    حسين خوجلي يكتب: السفاح حميدتي يدشن رسالة الدكتوراة بمذبحة مسجد الفاشر    راشفورد يهدي الفوز لبرشلونة    ((سانت لوبوبو وذكريات التمهيدي يامريخاب))    وزير الزراعة والري في ختام زيارته للجزيرة: تعافي الجزيرة دحض لدعاوى المجاعة بالسودان    بدء حملة إعادة تهيئة قصر الشباب والأطفال بأم درمان    نوارة أبو محمد تقف على الأوضاع الأمنية بولاية سنار وتزور جامعة سنار    لجنة أمن ولاية الخرطوم: ضبطيات تتعلق بالسرقات وتوقيف أعداد كبيرة من المتعاونين    قبائل وأحزاب سياسية خسرت بإتباع مشروع آل دقلو    ما حقيقة وصول الميليشيا محيط القيادة العامة بالفاشر؟..مصدر عسكري يوضّح    "المصباح" يكشف عن تطوّر مثير بشأن قيادات الميليشيا    هجوم الدوحة والعقيدة الإسرائيلية الجديدة.. «رب ضارة نافعة»    هل سيؤدي إغلاق المدارس إلى التخفيف من حدة الوباء؟!    الخلافات تشتعل بين مدرب الهلال ومساعده عقب خسارة "سيكافا".. الروماني يتهم خالد بخيت بتسريب ما يجري في المعسكر للإعلام ويصرح: (إما أنا أو بخيت)    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء مثيرة.. تيكتوكر سودانية تخرج وترد على سخرية بعض الفتيات: (أنا ما بتاجر بأعضائي عشان أكل وأشرب وتستاهلن الشتات عبرة وعظة)    تعاون مصري سوداني في مجال الكهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حصلت على أموال طائلة من النقطة.. الفنانة فهيمة عبد الله تغني و"صراف آلي" من المال تحتها على الأرض وساخرون: (مغارز لطليقها)    شاهد بالفيديو.. شيخ الأمين: (في دعامي بدلعو؟ لهذا السبب استقبلت الدعامة.. أملك منزل في لندن ورغم ذلك فضلت البقاء في أصعب أوقات الحرب.. كنت تحت حراسة الاستخبارات وخرجت من السودان بطائرة عسكرية)    ترامب : بوتين خذلني.. وسننهي حرب غزة    أول دولة تهدد بالانسحاب من كأس العالم 2026 في حال مشاركة إسرائيل    900 دولار في الساعة... الوظيفة التي قلبت موازين الرواتب حول العالم!    "نهاية مأساوية" لطفل خسر أموال والده في لعبة على الإنترنت    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل خاص حضره جمهور غفير من الشباب.. فتاة سودانية تدخل في وصلة رقص مثيرة بمؤخرتها وتغمر الفنانة بأموال النقطة وساخرون: (شكلها مشت للدكتور المصري)    محمد صلاح يكتب التاريخ ب"6 دقائق" ويسجل سابقة لفرق إنجلترا    السعودية وباكستان توقعان اتفاقية دفاع مشترك    المالية تؤكد دعم توطين العلاج داخل البلاد    غادر المستشفى بعد أن تعافي رئيس الوزراء من وعكة صحية في الرياض    دوري الأبطال.. مبابي يقود ريال مدريد لفوز صعب على مارسيليا    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا ود القضارف يسخر من الشاب السوداني الذي زعم أنه المهدي المنتظر: (اسمك يدل على أنك بتاع مرور والمهدي ما نازح في مصر وما عامل "آي لاينر" زيك)    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    الشرطة تضع حداً لعصابة النشل والخطف بصينية جسر الحلفايا    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    عثمان ميرغني يكتب: "اللعب مع الكبار"..    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    تخصيص مستشفى الأطفال أمدرمان كمركز عزل لعلاج حمى الضنك    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَام [6]
نشر في حريات يوم 14 - 07 - 2015


مَائَةُ عامٍ مِنْ عُزْلَةِ الدُّرُوسِ المُهْدَرَة
(مَبْحَثٌ فِي قِيمَةِ الاعْتِبَارِ التَّارِيخِي)
كمال الجزولي
"إلى رُوحِ جَدِّي لأمِّي مُحَمَّد وَدْ عَبْدَ الكَريمْ الأَنصَاري الذي
عَاشَ لأكثَرَ مِن نِصفِ قَرْنٍ بَعْدَ (كَرَرِي)، راكِلاً الدُّنيا بِمَا
فِيهَا، ومُتَرَقِّباً القِيامَةَ، فِي كُلِّ مَرَّةٍ، يَومَ الجُّمُعَةِ القَادِمَةْ"!
***
تزامن اندياح جحافل الأنصار على شوارع الخرطوم مع انتهاء
مؤتمر برلين من تقسيم العالم إلى متروبولات ومستعمرات!
استدار منطق "المهديَّة الثَّورة" ليشكِّل مأزق
"المهديَّة الدَّولة" من حيث وجوب هدم الوجود .. لا تغييره!
يقع ناقصاً، بل ظالماً، أيُّ تثمين للخليفة ما لم يستصحب
استحالة الدَّعوة التي أورثه إيَّاها المهدي لاعتزال الحياة الدُّنيا!
انقضت سنوات الثَّورة ولمَّا تكن قد انقضت رسالتها في تصدير دعوتها
إلى عالم كانت رأسماليَّته تتهيَّأ للدُّخول في مرحلتها الإمبرياليَّة!
(17)
لعلَّ من أبرز الأمثلة على تشدُّد الإمام الثَّائر في التمسُّك بمنظومة مبادئ العدل والمساواة التي تتمحور حول قيَمة "الزَّهد"، بالغاً ما بلغ نباح الفرص المواتية بقطاف المصالح "الدنيويَّة"، أنه فضَّل مصادمة أرستقراطيَّة الكبابيش "النوراب"، والثَّورة لمَّا تزل، بعدُ، طريَّة العود، وفي أشدِّ الاحتياج للسَّند والمؤازرة، الماديَّتين على وجه الخصوص، من مضخاتهما الرَّئيسة في المجتمع، على أن يساوم، ولو قدر قيراط، بشئ من تلك المبادئ والقيَم. فقد أصدر منشوراً يخاطب الكبابيش، ضمن آخرين، في أوَّل سنة 1300ه، الموافق 3 أبريل سنة 1883م، طالباً "ألا يتشاجر اثنان في طريق الزَّرع، ولا يدَّعى أحد وراثة الأرض من آبائه وأجداده ليأخذ عنها خراجاً، أو يقيم بها من هو ساكن لأجل ذلك" (الأحكام والآداب للإمام محمد احمد المهدى ضمن: ع ع إبراهيم؛ الصِّراع بين المهدى والعلماء، ص 81 83). كما طلب من الكبابيش، في ذات المنشور، أن يردُّوا ما نهبوا من دفع الله ود محمَّد الجَّهني، وأن يكفُّوا، عموماً، عن نهب أموال المسلمين (نفسه).
وربَّما كان من الضروري أن نشير هنا إلى المكانة الخاصَّة التي شغلتها "الأرض" ضمن مفهوم "الثَّروة" عند "النُّوراب"، وما ارتبط بها من مفاهيم "الدَّار" و"التَّبَع"، فضلاً عن مفهوم "القيمان"، مِمَّا توفَّر عبد الله على إبراهيم على تقصِّيه في مبحثه القيِّم "المهديَّة والكبابيش: نحو مشروعيَّة للمعارضة"، وذلك من أجل تقدير أفضل لمدى التَّهديد الذي انطوى عليه "زهد" المهديَّة الطهراني ذاك لمجمل البنى الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والأخلاقيَّة التي عرفها المجتمع الكبَّاشي، كمثال، منذ مطالع القرن الثامن عشر (الصراع بين ..، ص 71 93).
(18)
إنقضت سنوات (المهديَّة الثَّورة)، ولمَّا تكن قد انقضت، بعدُ، رسالتها التي لم تقتصر، أصلاً، على تحرير السُّودان، فحسب، بل حملت على عاتقها، أيضاً، ومنذ البداية، عبء (تُقرأ: مأزق) تحرير البلدان الإسلاميَّة، بأسرها، من حكم آل عثمان وغيرهم من الأجانب، والانطلاق بدعوة المهديَّة، من ثمَّ، لتصديرها إلى عالم كانت رأسماليَّته، وقتها، تتهيَّأ للدُّخول في مرحلتها الإمبرياليَّة، وتصدير الرساميل الضَّخمة، من فوق سنام كلِّ الاحتكارات الهائلة، والتروستات العملاقة، بعد أن أتخمت في الغرب، حتَّى أسنانها، بمنجزات التَّنافس "الحُر"، والثَّورة الصِّناعيَّة، والقدرات غير المحدودة الآخذة في التَّعمُّق والتَّمدُّد، رأسيَّاً وأفقيَّاً، لرأس المال المالي، إبن سفاح الرِّباط غير المقدَّس بين رأس المال الصِّناعي ورأس المال البنكي، يحدوها الأمل في تجاوز أزمتها، أوان ذاك، بتجديد مصادرها للخام، وتوسيع أسواقها للتَّصريف. فبأيِّ معيار، إذن، يمكن وزن ذلك العبء الذي حملته "المهديَّة الدَّولة" على عاتقها، في إطار محدِّداتها العقائديَّة الصَّارمة، وفي ضوء أشراطها التَّاريخيَّة المعلومة، محليَّاً، وإقليميَّاً، وعالميَّاً؟!
(19)
أطفأت القاعة الفخيمة التي شهدت انعقاد "مؤتمر برلين"، بمبادرة من ألمانيا وفرنسا، ثريَّاتها الكريستاليَّة الضَّخمة التي ظلت أنوارها المبهرة تتلاصف تحت قبَّتها على مدى الأشهر الشِّتائيَّة الثلاثة، من نوفمبر 1884م إلى فبراير 1885م. وعلى حين كان مندوبو الدُّول الأربع عشرة المشاركة في ذلك المؤتمر يجمعون أوراقهم، بحرص، من على الطاولات، ويعيدونها، بعناية، إلى الإضبارات، ويزنِّرونها، ثمَّ يحكمون وضع معاطفهم وقبُّعاتهم استعداداً للرَّحيل، كانت لا تزال كلُّ العبارات والكلمات الطنانة التي انشحنت بها قراراتهم، من سنخ "حريَّة التِّجارة في حوض الكنغو"، و"حريَّة الملاحة عبر الأنهار الأفريقيَّة"، وما إلى ذلك، غير كافية، البتَّة، لمداراة الهدف الأساسي من المؤتمر: اقتسام مناطق النُّفوذ في وسط أفريقيا بين ضواري الإمبرياليَّة العالميَّة، وتدشين مرحلة جديدة تخزى تاريخ العالم باختزالها لواقع علاقاته الجيوبوليتيكيَّة، على أعتاب القرن العشرين، إلى محض "متروبولات" و"مستعمرات"!
في نفس تلك اللحظة، للعجب، كانت جحافل "الفقراء الذين لا يُعبأ بهم" تنداح على شوارع الخرطوم، مدينة التُّرك، لتستكمل حلقات انتصارها المؤزَّر على جيوش الصَّلف الأجنبيِّ، بقيادة غردون باشا، ولتمسح عرق النَّضال المتفصِّد من الجِّباه الأنصاريَّة النَّبيلة، ولتغسل آخر قطرات الدَّم الغازي العالقة، وقتئذٍ، بصفحات السُّيوف الوطنيَّة الماجدة، ولتعلن ميلاد الدَّولة الوطنيَّة الموحَّدة المستقلة الأولى في تاريخ السُّودان دولة المهديَّة.
وبالحق، فإن ما أنجزته "الثَّورة" كان، عند ذلك الحد، كافياً لإعلان انتصارها الحاسم، بكلِّ المعايير، والدُّخول في مرحلتها التالية: بناء "الدَّولة" لإعمار ما خرَّبه الترك، وتحقيق "الوجود المغاير"، كمردود مستحق لأولئك الكادحين الذين جعلوا ذلك الانتصار ممكناً ببلائهم وفدائهم العظيمين.
(20)
لكن، لئن كان ذلك هو منطق "التَّاريخ"، فإن منطق "المهديَّة الثَّورة" استدار ليشكِّل مأزق "المهديَّة الدَّولة" الأكبر، وليفرض عليها أن تعيد ترتيب أولويَّاتها لترمي بثقلها كله، لا على طريق "تثوير" ذلك "الوجود"، بل لتعريضه ل "الهدم"، جملة وتفصيلاً، بذريعة استكمال رسالتها الكبرى على الوجه المار ذكره: "هدم هذه الدُّنيا"، و"بناء العالم الآتي"، وحمل قيَم ومبادئ الدَّعوة، ولو على حدود السِّيوف وأسنَّة الرِّماح، إلى جميع البلدان، خصوصاً الإسلاميَّة، لتحريرها على نموذج السُّودان!
كان ذلك العبء، في تلك المناخات الجَّديدة التي خيَّمت على عالم الربع الأخير من القرن التاسع عشر، هو، على وجه الدِّقَّة، التَّحدِّى الأكبر الذي واجه الخليفة، منذ أوَّل بيعته فور وفاة قائد الثَّورة وإمام الثُّوَّار، فى 9 رمضان سنة 1302ه، الموافق 22 يونيو سنة 1885م، بعد مرور أقلِّ من خمسة أشهر على انتصارها، وإعلان دولتها، فى 9 ربيع الثانى سنة 1302ه الموافق 26 يناير سنة 1885م. لذا، فإن أيَّ تثمين لسياسات "المهديَّة الدَّولة"، تحت قيادة الخليفة عبد الله، يقع ناقصاً، بل ظالماً، ما لم يستصحب عِظم المسؤوليَّة الأيديولوجيَّة التي تكاد تلامس حواف الاستحالة، والتي ألزمتها بها القوانين الباطنيَّة ل "المهديَّة الثَّورة"، وفكرها، تحت قيادة الإمام الثَّائر، خصوصاً في ما يتَّصل بامتداداتها الإقليميَّة، وبعدها العالمي، بالدرجة التي جعلت الهمَّ الرِّساليَّ "الكونيَّ" يطغى على الشَّأن "الدَّاخليِّ"، فيقلصه في ميزان الأهميَّة، على خطره، إلى محض محطة عبور transit تكاد لحظةُ بلوغها لا تفي بأكثر من الشُّروع في تجاوزها!
كان سيِّدى الإمام المهدي، عليه السلام، هو الذي حدَّد، بنفسه، هذه المعايير، ضمن النَّسقين الفكري والسِّياسي للدَّعوة. ففي رسالته الشَّهيرة، مثلاً، إلى توفيق باشا، خديوي مصر، خاطبه بقوله:
".. أظهرني الله طبق الوعد الصَّادق رحمة لعباده لأنقذهم .. وبشَّرني سيِّد الوجود (صلعم) بالنَّصر .. وأخبرني بأنِّي أملك جميع الأرض .. و .. هذا أوان المؤمن المصدِّق بوعد الله لا يرى لجميع ما في الحياة الدُّنيا من الفانيات قيمة، ولا يأسف على ما فاته .. وإنَّما يكون مطمح نظره إلى ما عند الله من النَّوال في دار الكرامة والأفضال .. فدقِّق النَّظر، واجمع عليك فكرك .. ولا تغتر بقوَّة حصن بلدك .. ومظاهرة دول أهل الكفر لك .. وقد حرَّرت إليك هذا الكتاب وأنا بالخرطوم شفقة عليك .. وها أنا قادم على جهتك بجنود الله عن قريب إن شاء الله تعالى، فإن أمر السُّودان قد انتهى" (رسالة المهدي إلى خديوي مصر ضمن: ن شقير؛ تاريخ السُّودان، ص 590 594).
فى إطار ذلك المشهد ، وفى ذلك الظرف التَّاريخي الحرِج، أخذت في التَّكشُّف، رويداً رويداً، ملامح الصِّدام المحتوم بين المشروعين: الإمبريالي القائم في "تصدير رأس المال"، والمهدوي القائم في "تصدير الثَّورة"!
(21)
وإذن "فإن أمر السُّودان قد انتهى" بمحض انتصار "الثَّورة" وإعلان "الدَّولة"، على حدِّ تعبير الإمام المهدي! كان ذلك هو المعطى الفكري شديد التَّناقض والتَّعقيد، والكامن في صلب المشروع السِّياسي الاقتصادي الاجتماعي للدَّولة الوليدة، في عين اللحظة التي تمَّت فيها البيعة لسيِّدي ود تورشين، وفى حدود المستوى المتاح من الوعي الاجتماعي العام بالعصر، وبالذَّات، وبالآخر. فلئن كان مفهوم "الدَّولة" ينطوى، في بعض تعميماته، على دلالة الآليَّة التي تبرز، في درجة معيَّنة من التَّطوُّر، كضرورة لا غنى عنها للتَّحكُّم بحركة إعمار "الحياة الدُّنيا"، وإدارة علاقات النَّاس الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة في إطار نشاطهم الرَّامي لإنتاج الخيرات الماديَّة، تلبيةً لحاجاتهم البشريَّة، باعتبار ذلك بمثابة المحدِّد الأساسي والأهمُّ لكلِّ التغيُّرات التي تقع في مسار تطوُّر المجتمع، وفى ظلِّ القدر المعقول من عوامل ديمومة واستقرار هذا المجتمع، فإن مشروع "المهديَّة الدَّولة"، رغم كلِّ ما بذل الخليفة من جهد في تنظيمها، وما أبدى رجاله من عبقريَّة فذَّة في هذا الشَّأن، ظلَّ مطروحاً، بإلحاح، على خط التَّناقض الجَّوهري مع هذا المفهوم، حيث كان، عليه رحمة الله ورضوانه، مكبَّلاً، تماماً، بثوابت الخطاب المهدوي الصَّارم الذي لا محيد عنه، والذي شاد مرجعيَّته الفلسفيَّة الأساسيَّة على "الزُّهد" المطلق في "جاه الدُّنيا الفاني"، و"متاعها الخسيس"، والطلب الصَّادق ل "نعيم الآخرة" وحده، دون سواه، دَعْ البُعد الخارجي المتمثل في واجب "تصدير" هذه القيَم والمعاني إلى العالم بأسره، ولو ب "قوَّة السِّلاح"!
هكذا تحتَّم أن تصطبغ كلُّ ترتيبات الدَّولة بصبغة هذا المشروع المتوطن في معنى "الإعراض المطلق" عن الدُّنيا، والتطلع ل "الاستشهاد" بإلحاح! ومن ثمَّ فُرض على السُّيوف أن تبقى مسلولة لا تهجع في أغمادها حتَّى بعد انتصار "المهديَّة الثَّورة"، وأن تتسارع وتائر تأسيس "المهديَّة الدَّولة"، وبالأخص حاضرتها أم درمان، لا كخليَّة حركة مدنيَّة تكدح في "إعمار الحياة"، وتحرس استقرارها وتطورها بمبادئ المساواة، والإخاء، والشُّورى، وحكم القسط، وسائر قيَم العدالة الاجتماعيَّة، وإنما كثُكنة عسكريَّة ضخمة لجنود في حالة طوارىء مستمرَّة، وجاهزيَّة دائمة stand by للقتال في أيَّة بقعة في العالم يُطلب منهم "تحريرها" و"أسلمتها"، أو "الشَّهادة" دون ذلك، علاوة على ما هو مفترض فيهم، أصلاً، وفق ذات المنطق، من "إعراض تام عن هذه الدَّار الفانية التي لا تزن عند الله جناح بعوضة" (رسالة المهدي إلى أهل مراكش المستوطنين مصر، المرجع نفسه، ص 594).
(22)
بالنَّتيجة، فَرَضت أيديولوجيَّة "المهديَّة الثَّورة" على "المهديَّة الدَّولة" أن تتقدَّم العسكريَّة militarism لتحتل، بكلِّ خصائص الصَّرامة، والشِّدَّة، والمبالغة في الحزم، موقع الصَّدارة من النَّشاط الاجتماعي، وأن تطبع الحياة كلها بطابع الجَّفاء الغليظ الذي لا يعرف توسُّطاً في الدِّين أو الدُّنيا، ناهيك عن عدم واقعيَّته، وعدم تأهُّله لتقدير ميزان القوَّة على الصَّعيدين الإقليمي والدَّولي، وأن تتراجع إلى المرتبة الثَّانية كلُّ الأنشطة الإداريَّة، والتِّجاريَّة، والزِّراعيَّة، والحرفيَّة، والتَّعليميَّة، والثَّقافيَّة، والإبداعيَّة، بل وأن تتقلص حتَّى الممارسات المتَّصلة بالأمزجة الإنسانيَّة في أكثر صورها براءة، والاحتياج الطبيعي للتَّرويح عن النَّفس في أكثر تعبيراته بساطة، ليصبح كلُّ ذلك إمَّا محرَّماً تصعب ممارسته في العلن، وإمَّا مباحاً، ولكن مستلحقاً بالمجهود الحربي، مكرَّساً لخدمته، ومستمدَّاً مبرِّراته من مقتضياته.
وبالتَّبعيَّة أضحى منطقيَّاً، تماماً، أن تترجَّح كفَّة الكوادر العسكريَّة على كفَّة الكوادر المدنيَّة، لجهة السُّلطة، والنُّفوذ، والمكانة السِّياسيَّة والاجتماعيَّة. وفاقمت من أثر كلِّ هذا وذاك عمليَّات التَّهجير الضَّخمة ل "أولاد العرب" من مراتعهم الأصليَّة في الغرب إلى أم درمان والسُّهول الوسطى الزِّراعيَّة عموماً، في سياق الموازنات القبليَّة والجِّهويَّة التي لجأ الخليفة لانتهاجها، كما سلفت الإشارة، لأجل إعادة صياغة مركز الحكم في الوسط، وتعديل تركيبة بيئته التي لطالما اعتبرها غير مواتية لسلطته حال غلبة الأشراف، عشيرة المهدي، و"أولاد البلد" عليها. فقبائل "أولاد العرب" الرَّعويَّة كانت هي القوى التي تحمَّلت، بالأساس، العبء الأكبر من القتال أيَّام الثَّورة. ثمَّ ها هي الآن تُنتزع، قسراً، من دائرة نشاطها الرَّعوي، وتقاليد حياتها المتوطنة في الطلاقة التي لا تلائمها قيود الاستقرار الحضري، ليقذف بها إلى الوسط، فتشكِّل عبئاً إضافيَّاً على بيت المال، وتستنزف غلة الجَّزيرة التي حُبست عليها (م شبيكة؛ تاريخ شعوب وادي النيل، ص 698)، في واقع ثقافي وديموغرافي مغاير، بين قبائل زراعيَّة وتجاريَّة مستقرَّة، تتمتَّع بدرجة أعلى من الوعي الاجتماعي القومي، وتأهيل أكثر، تبعاً لذلك، في ما يتصل بقيادة المجتمع، وتسيير دفَّة الحكم، وبلورة فكرة الأمَّة (م س القدَّال؛ تاريخ السُّودان الحديث، ص 165 168)، ويسيطر عليها الإحساس بأنها الأكثر دراية بشؤون الإدارة، والدِّين، والتِّجارة (م شبيكة؛ السُّودان في قرن، ص 248).
سياسة التَّهجير تلك تتحمَّل، بالضَّرورة، وفضلاً عن مفاقمتها لشروخ الجَّبهة الدَّاخليَّة، وزر الدَّمار الذي حاق بالقطاعين الزِّراعي والرَّعوي، مِمَّا كان له أفدح الأثر في مجاعة سنة 1306ه (1888م 1889م) التي حصدت من الأنفس ما لم تحصد حروب المهديَّة مجتمعة (م شبيكة؛ تاريخ شعوب ..، ص 698 ).
(نواصل)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.