كنّا نعتقد أنَّ الرقم الذي ذكره وزير المالية في برنامج مؤتمر إذاعي كان رقماً خرافياً لعدد رسوم الخدمات التي قال إنها قد وصلت الي 36 ألف رسم ، ولكن قبل أن نفيق من هول الصدمة الوزارية إذا بمدير ديوان الحسابات بالمالية السيد هاشم آدم مهدي يقر ويعترف باستحالة تطبيق نظام التحصيل الإلكتروني بعد اكتشاف الوزارة أنَّ عدد الرسوم هو 173 ألف رسم !!! أنا شخصياً لا أستبعد أن يصل الرقم يوماً ما الي مليون أو أكثر في هذه الجبَّانة الهائصة !!! إستحالة التطبيق تأتي من أنَّ أجهزة التحصيل الإلكتروني تحتاج الي ترميز بحيث يُعْطى كل رسم رمزاً معيناً يميزه ، ونسبة للعدد الهائل للرسوم البالغ أكثر من 173 ألف رسم فقد عجزت هذه الأجهزة عن ترميز هذا الكم الهائل ، وذلك يعني ببساطة أنَّ عدد الرسوم المفروضة في السودان لم يخطر ببال أي شركة مصنعة لمثل هذه الأجهزة أن تضعه في تصوُّرها وحساباتها ، وعليه يصبح السودان متفوقاً على كل دول العالم في عدد رسوم الخدمات المفروضة على المواطن ، ومتفوقاً كذلك في كمية أموال الخدمات المحصلة عن طريق هذه الرسوم !!! واستناداً الي ما قاله مدير ديوان الحسابات بالمالية فإنَّ جهوداً مضنية قد بُذلت من قبل الوزارة وشركة النيل منفذ المشروع والهيئة القومية للمعلومات لتقليص هذه الرسوم الي 39 ألف رسم ، ولم يحدثنا سيادته عن الفرق بين العددين والبالغ 134 ألف رسم هل سيتم إخطار الشركات المصنعة لأجهزة التحصيل الإلكتروني لتقوم بتصنيع أجهزة جديدة خصيصاً للسودان ، كما كانت تفعل شركة سجائر البينسون البريطانية ، لتستوعب هذه الزيادة الخرافية ، أم أنَّ هذه ال 134 ألف رسم سيتم تحصيلها ورقياً كما كان سابقاً لتصب في جيوب أؤلئك المجرمين الذين ابتدعوها ، أم سيتم الغاؤها وإزاحتها عن كاهل الشعب الذي ظل يدفعها على مدى ربع قرن دون أن تُقَدَّم له مقابلها أي خدمات تُذكر ؟!!! مجلس الوزراء ورئيسه أيضاً لا يعلمون عدد هذه الرسوم لذلك حددوا لوزارة المالية ترميز عدد 2000 رسم بواسطة أجهزة التحصيل الإلكتروني ، وإذا أخذنا بالعدد الذي حدده مجلس الوزراء نجد أن عدد الرسوم غير المرمزة هو 171 ألف رسم مما يعني أنَّ ما تقوم به وزارة المالية هو نوع من العبث يترك الجمل بما حمل لأنصار التجنيب ويمكِّنهم من استخدام إيصالات تحصيل مضروبة ليس لوزارة المالية ولاية عليها بعد أن قامت الوزارة بإعدام أورنيك 15 الورقي . وزارة المالية عينها على هذه الرسوم الكثيرة وتريد أن تضع يدها على هذا الكنز الذي لا ينفد ولكن فشل التحصيل الإلكتروني في إستيعاب وترميز هذا الرسوم هو الذي يحول دون ذلك ، وستفضل الوزارة أن تترك لهؤلاء المتلاعبين فرصة تحصيل الرسوم بأساليبهم الملتوية بدل أن تقوم بإلغائها ، حتى يتيسر لها لاحقاً إيجاد طريقة الكترونية تمكنها من السيطرة عليها . هل كان يخطر ببال أحد قبل الكشف عن هذه الأرقام الخرافية أنَّ السودان هو الدولة الأولى في العالم في عدد رسوم الخدمات المحصلة من المواطنين ؟!!! لماذا لا يكون في المقابل أنَّ السودان هو الدولة الأولى في العالم من حيث ترقية وازدهار الخدمات التي تقدمها الدولة للمواطنين مقابل ما يدفعون ؟ أهل السودان يدفعون 173 ألف رسم ، وهذا ما لا يفعله أي شعب آخر في العالم ، منها رسم سرج الحمار ، ورسم لجام الحصان ، ورسم حفرة الدخان ، ورسم تعويذة الشيطان ، ورسم إضطهاد الإنسان ، ورسم عبوة البمبان ، ثم تتردى الخدمات كل يوم تشرق فيه شمس السودان ، وتشهق عمارات أؤلئك المجرمين وتزدان !!! لو إفترضنا أنَّ حصيلة رسم سرج الحمار هي أقل عائدات الرسوم وتُدرُّ سنوياً مليون جنيه وضربنا هذه الحصيلة في عدد الرسوم البالغ 173 ألف لحصلنا على 173 مليار جنيه تكفي لترقية خدمات التعليم والصحة والمياه والصرف الصحي بدرجة تفوق اليابان وسنغافورة والدول الإسكندنافية !!! ما معنى أن يتم فرض رسوم لا يعلمها مجلس الوزراء ولا وزارة المالية ، وتثقل كاهل المواطن ولا تعود له في شكل خدمات ؟!!! من الذي يفرض هذه الرسوم ولماذا لا يُحاسب على مدى ربع قرن من الزمان ويُسأل عن المال الذي جمعه وفيما أنفقه ؟ كيف يُلقى باللوم في هذا الكم الهائل من الرسوم على التوسع في الحكم المحلي ولا تُسأل الحكومات المحلية عن هذه الفوضى العارمة التي لا يمكن أن تحدث في دولة محترمة ؟ كيف استطاع هذا الأخطبوط الإنقاذي أن يستغل الدولة ويسخرها ويستثمرها لصالحه كدكان ؟!!! الوطن كله الآن يعيش أزمة في المياه والكهرباء وسوء المعيشة ، ولا يمكن لعاقل أن يصدق أنَّ هذا هو الوطن الذي يُجبى فيه 173 ألف رسم للخدمات !!! تنظر الي العمارات حولك تراها مترفة وباذخة تسُدُّ الأفق ، وتنظر خلالها الي الشوارع تراها مهترئة وغارقة في عفن السايفونات التي تطفح على أكياس النفايات المبعثرة في كل مكان ، وتزكم أنوف المارة روائح مجاري مصارف الأمطار الممتلئة بكل قاذورات الدنيا ، ثم ترفع رأسك الي الأشجار فتراها مغلفة بأكياس البلاستيك الطائرة والمتناثرة في كل حدب وصوب ، وتنظر الي سماء الخرطوم فيرتد إليك بصرك متعباً من سحب عوادم السيارات والركشات وكُتَل الغبار التي تجعل هواءها فاسداً وغير صالح للإستخدام البشري !!! إنَّ الذين أكلوا هذه الأموال وتركوا الوطن كله بلا خدمات ، هم أؤلئك الذين يتخبطهم الشيطان من المس في قلب الخرطوم وهم لا يعلمون ، وهم أؤلئك الذين يأكلون في بطونهم ناراً وفي السَّعير سيسجرون !!!