بقلم : المجبوب عبد السلام المحبوب : في مثل هذا الشهر (سبتمبر) من العام 2002م إنتقل إلى رحمة الله بمدينة (شيكاغو) الأمريكية الاستاذ أحمد عثمان المكي أحد أهم رموز التحرير والثورة في الحركة الاسلامية السودانية. ورغم أن اسمه في ذاكرة الكثرين ووجدناهم موصول بذكرى ثورة شعبان الطلابية 1974م، إلا أن اختياري لكمتي الحرية والثورة في أول هذا السياق في وصف (ود المكي) يذهب أبعد مدى بكثير من محض قيادته لتلك الثورة من موقعه رئيساً لإتحاد طلاب جامعة الخرطوم في الدورة التي قدر الله لها أن تشعل تلك الانتفاضة. فقد جاء(أحمد عثمان المكي) إلى الحركة الاسلامية يافعاً بعد أن غشئ لبعض القوت تيار الاسلام السلفي الذي كانت تمثله –يومئذ- جماعة انصار السنة المحدية، ولكن ذات الشعلة التواقة للحرية والكمال المتقدة في روحه الحية حملته في يسر إلى رحاب الحركة الاسلامية الحديثة، والتي كانت سمتها الرئيسة المائزة هي (شمول في الفكرة والدعوة)، وقد أتاحت لها تلك السنة في المنهج والأطروحة أن تضم بين أجنحتها في – أهل وسهل- أنماط من المدارس والافكار تبدو ظاهرة فيميل بعض اعضائها للتصوف وتأثر آخرين بمناهج السلفية وتحرر سوادهم الاعظم من كل ذلك نحو سمت عام يكاد يميز به المجتمع عضو الحركة الاسلامية من المنتسبين إلى مدارسها الاخرى. لكن (ود المكي) بعد مضي نحواً من ثمان حجج معلماُ في مدارس التعليم العام دخل إلى جامعة الخرطوم يحمل معالم المثال في سمات الشخصية التي كانت تتطلع إلى أفقها مناهج الفكر والترية والثقافة لمستقبل الحركة الاسلامية، وكانت السمة المائزة لتلك الشخصية هي الحرية وبكلمة أدق التحرر. قدم (ود المكي) في بساطة رائعة انموذج المسلم الموصول بثقافة عصره ومشكلاته، وبما يحمل من (كارزيما) القائد المتكامل أرسى صورة القدوة لجيل بأكمله في الحركة الاسلامية، انفتح على ثقافة العصر وجعل السياسية بوضفها عبادة كما الادبيات الاخوانية، ثم وضع الاهتمام بها في قلب تدين المسلم المسؤول الذي يهتم بالأمر العام لأنه سبيله للتغيير نحو حياة أفضل. فالسياسة رغم الفهم المسيطر الذي يصلها بالمخادعة والمخاتلة والحيل والمكائد، حاول أحمد عثمان مكي وجيله التعاطي معها بوصفها ميدان النظال الرئيسي ومشروع الحياة. لقد كان العالم سياسياً في مطلع الخمسين والستين من القرن الماضي، وكانت الطليعة في العالم أجمع تعتبر أن السياسة هي السهم الارفع وكل ما هو أساسي وقيم هو سياسي والأدب والفكر تابع، فما من طالب في فرنسا إبان الستين إلا وتجد في غرفته صورة شي جيفارا أو شارل ديغول كما يقول فيلسوف فرنسي من أئمة ذلك العصر، وكان في السودان هتاف (عائد عائد ود المكي) على كل حنجرة ولسان من تلميذ الابتدائي إلى طالب الجامعة إلى عامة مثقفي السودان، الذين ارتبطوا لأول مرة بقائد ذو إلهام فريد بعد الاسماء اللامعة التي اضاءت سماء السياسة السودانية في الستينات أمثال الصادق المهدي والترابي وعبد الخالق محجوب. وإلى أوان أولى انتخابات تعددية بعد سقوط دكتاتورية نميرى كان اسم (أحمد عثمان مكي) يتللألأ في صور القائمة الانتخابية لخريجي الجبهة الاسلامية القومية ضمن الاقليم الشرقي (إذ عاش ود المكي نشأته الاولى في مدينة كسلا)، وكان يتلألأ ببريق ثورة شعبان رغم مضي أكثر من أثني عشر عاماً بين فجر الثورة 1974م وأوان الانتخابات في 1986م. فأحمد عثمان مكي لم يتولى قط منصباً في ظل دكتاتورية النميري مع وجود غالب الاسماء المعروفة من قادة الحركة الاسلامية في قائمة وزراء نميرى وأعضاء مجلس الشعب والاتحاد الاشتراكي، وبقى أسمه ضمن أسماء قليله أرقت مضجع نميري الآمن لبعض الوقت، فكان أحمد عثمان مكي أيسر الاسماء تقديماً لجمهور الناخبين من الخريجين إذ تحرر من صفة (السدانة) لنظام نميرى أكبر عقدة في دوائر الخريجين. والغريب أن أ؛مد عثمان المكي إحتفظ بذات الموقف من نظام الانقاذ إذ رفض كل منصب عرض له، فقد كان على يقين من الديكتاتور الصغير القابع في أعلب الرؤوس التي كانت تدير عجلة الانقاذ منذ فجرها الاول، ففي انتخابات الخريجين كان المرشح الوحيد من الاسلامين الذي يقول بثقة واضحة أنه سيفوز في أيما دائرة يرشح لها من الجغرافية أو من الخريجين، وفي عهد الانقاذ كان يصر على رفض العروض قائلاً: اذا توليت أي منصب سيعملوا على إفشالي من أول يوم وبعدها يقولون لكم يا محبوب أليس هذا هو (أبو عرامكم أنظروا إليه قد فشل)، فقد كان –يرحمه الله- ذو بصيرة دقيقة في سبر اغوار البشر، وبذات العقل الحر الذي هداه لسيرةٍ في الحياة فذة مبدعة، كان متحرراً في الحكم على البشر، مهما كانوا أصدقائه يؤثرونه ويؤثرهم، لكن موضوعيته الصائبة الساخرة تغلب عندما يهم بإصدار الأحكام واتخاذ المواقف، يقول لك ببساطة: (عمك فلان محدود الذكاء لا يفهم هذا الكلام، وعمك فلان عندما كنت تجتهد في بسط أطروحتك كان في عالم آخر وعمك فلان كان همه منصباً في بذل الشتائم عليك فور ما تكمل حديثك فالأمر واضح… لا تغضب من ذلك). يقول كل كذلك في صدق وحنية ووضوح، فقد كان من سمات تحرره، تحرره من (الغتاتة) السمة السائدة في النخبة الاسلامية السودانية. أول مرة جلست إلى أحمد عثمان مكي مباشرة كانت في منزل البرفيسور (الدكتور عندئذ) ابراهيم احمد عمر، فور خروجه من سجن كوبر بعد المصالحة الوطنية وأنا بعد لم أكمل تسجيل القبول في العام الاول الجامعي، وادركت فوراً مدى التطور الذي بلغته الحركة الاسلامية بعد تجربة السنوات المتاولة في السجون، وهو ذات التعليق الذي سمعته من أحد قادة الحركة الوطنية السودانية غير المنتمين من بعيد ولا قريب إلى التيار الاسلامي (هؤلاء الجامعة استفادوا من السجن جداً). والحق أن السجون كانت المهاد لبداية النظر والتخطيط الاستراتيجي الذي بلغت به الحركة الاسلامية السودانية التمكين، لكن ود المكي كان يقول عن تجربته الخاصة مع السجون: (بعض الناس كان يلعب الورق والبعض يلعب الكرة والبعض يهوم في الأفق ينظر إلى الجمال كيف خلقت.. لكني كنت أقرأ بالقائمة كلما أكملت مجموعة طلبت المجموعة الجديدة.. قرأت في السجن (شروط النهضة) لمالك بن نبي ثمان مرات وقرأت الفلسفة لأول مرة وندمت أني لم أدرسها بدلاً عن التاريخ لأن الفلسفة تنمي العقل وتبعث فيه الحرية والنشاط.. ومنذ لقاء منزل البروف أصبحت صديقاً مقرباًً لود المكي، أو لعلي والأخ صلاح كردمان كنا الأقرب إليه من كل أبناء جيلنا لولا أن أحمد يعطي الكثيرين الشعور بأنه الأقرب إلى الواحد منهم من جميع البشر الآخرين وتلك –لعمرالله- خصلة فريدة نادرة في خصال الزعماء، فأغلب الزعماء لا يحفلون بأسماء الناس ولا أحوالهم ولكن أحمد عثمان مكي يدير شبكة علاقاته الواسعة بأنسانية نادرة فكم من الليالي وجدنا أنفسنا في هزيعها الأخير نقف أمام بيت مظلم صغير يطرقة ود المكي برفق ولكن بإصرار، فقد صمم على أخذنا ونحن في الطريق لندرك (لوفتهانزا) أو (الهولندية) في طريقه إلى أمريكا .. البيت لأحد صغار الاداريين من موظفي جامعة الخرطوم صار صديقاً لود المكي إبان دراسته بالجامعة ورئاسته اتحادها الطالبي. وإلى تلك الزيارات السريعة وتحديداً إلى احدي الوقفات بين يدي اقلاع طاراته أوحي إلى ود المكي بطريقته الفريدة فكرة الذهاب إلى فرنسا والدراسة فيها، وهي فكرة إضافت إلى مسار حياتي بعداً نوعياً فقد كان يتطلع لتحرير عنصر الحركة الاسلامية من أحتكار الثقافة البريطانية والأمريكية. تولى أحمد عثمان مكي لعهد قصير (مكتب الطلاب) بعد خروجه من المعتقل ولكن قراره في مغادرة السودان للدارسة بأمريكا قطع ذلك العهد الذي ارتسمت عليه ملامح التحرر والتقدم والعمل العلمي من أول يوم، فقد كان عزمه ماضياً نحو اكتساب الخبرة العالمية والتحرر من المحلية، فقد كان يدرك بعمق مدى حاجة السودان سياسة واقتصاداً واجتماعاً لملامسة أفق العالمية، كما كان مدركاً لحاجته الشخصية لهذه التجربة، ولكن خطته في البقاء عامين أو ثلاث على الأكثر احتاحتها رياح التجديد الامريكية العظمى فاستبقته نحواً من ثلاث عقود. فقد كانت المسافة بائنة شاسعة بين أفكار وروئ أحمد عثمان المكي وبين النمط السائد للتنظيم العربي للأخوان المسلمين، وسرعان ما خلبت طريقة ود المكي الباهره في العرض واسلوبه المسرحي في تقديم أفكاره وكاريزماه الطاغية فولوه على الفور الإمارة الكبرى في التنظيم فطفق يجوب الأرض محاضراً ومشاركاً في مؤتمراتهم إلى أن غدى اسمه على كل لسان، وبذات سرعة الصعود أنزل التنظيم العربي النحم السوداني من عليائه وبخل عليه بمجرد مقعد في مجلس الشورى بأمريكا وكانت تلك تجربه كافية ليزهد في المنظمات العربية مهما تكن وإلى الابد. أعادت الجبهة الاسلامية القومية والعهد التعددي، أعادت أحمد عثمان مكي إلى السودان ليكون نائباً في الجمعية التأسيسية ثم رئيساً لتحرير جريدة الراية الناطقة بلسان الجبهة الاسلامية، وسرعان ما تجلى التباين بين نمط ثقافة وسلوك قيادة الجبهة الاسلامية وشبكة علاقاتها الاجتماعية وطريقة سلوك أحمد عثمان التي أضافت إليها أمريكا له تجديداً وثورية، وفي ذات الوقت اتصلت الجبهة الاسلامية (بجذور المجتمع) (Grass Roots) وفق لمصطلح علم الاجتماع، فصارت تعج بشيوخ الطرق الصوفية نظار القبائل وتحورت قيادتها المدنية وتنظيمها الحديث لتكون قريبة شيئاً ما من المجتمع التقليدي، وأضحى الجيمع يرتدي الجلابية السودانية والعمامة الممتدة لأربعة امتار. غير ود المكي بسلوكه عن النمط الامريكي الذي يحفل بالعملي المفيد ولا يركن كثيراً لتعطيل العمل لأجل المجاملات والاجتماعيات والانس السوداني الممتد، ورغم المعارك الصغيرة التي ظلت تنشب بين (ود المكي) وكاقم جريدة الرآية بسبب من خلاف هذا السلوك، فان الخلاف مع المسلك العام للجبهة ظل كبيراً، ورغم تنازلات (ود المكي) الصغرة، مثل اقتناعه بارتداء الجلباب والتخلص عن أناقته المميزة فان حاز على لقب النائب الاكثر غياباً في الجمعية التأسيسية فقد كان يبدد ضجره من حالة عدم الفاعلية السودانية بالاسفار. قضى أحمد عصمان المكي نصف العام الاخير من عمره في الشرق الاقصى وتحديداً في الصين، حيث بدأت معالم حضارة جديدة ناشطة في البزوغ بقوة. لكنه صرف وقتاً طويلاً من أشهره تلك يتأمل ويكتب ويفكر فيما أصاب مشروع الحركة الاسلامية السودانية بعد المفاصلة الشهيرة، وهي أوراق جديرة بأن تقرأ وتنشر لنعرف كيف تأ/ل محنتنا أفضل زعيم لم نحظى به.