تلويحة احترام لبورقيبة فاروق يوسف نوبل للسلام توجت تجربة الحوار السياسي التونسي، وهو حوار ما كان من الممكن أن يكون موجودا لولا ما زرعه بورقيبة في نفوس التونسيين من شغف بالحياة المدنية. هذا ما يعترف به مؤيدو الرجل ومعارضوه. لقد ترك بورقيبة معارضة تحترمه وتكن له التقدير بالرغم من أنه قيدها وحرمها حرية الحركة مما اضطرها إلى اختيار المنفى. أليست جائزة نوبل للسلام التي استحقتها تونس عن جدارة هي ثمرة نضال مجتمع مدني، كان الحبيب قد حرص على بنائه في النفوس قبل التشريعات والقوانين؟ لم يكن نظام زين العابدين بن علي إرثا بورقيبياً وإن كان النظام نفسه قد أدعى ذلك للتغطية على طابعه الانقلابي. المعجزة التونسية هي ذلك الارث. معجزة أن يكون هناك مجتمع مدني وسط طوفان من الحركات والجماعات المتطرفة التي تدعو إلى هدم ذلك المجتمع، بحجة فساده وضلاله وخروجه على الدين. كان ذلك المجتمع قد رضخ بأريحية لما أسفرت عنه صناديق الاقتراع فصعدت حركة النهضة الاسلامية، وهي أحد فروع جماعة الاخوان المسلمين إلى السلطة. ثلاث سنوات من حكم الحركة التي يتزعمها الغنوشي كانت كافية لإقناع المجتمع بعدم اتساق مشروعها (الديني) مع مسلمات العيش التي أراد التونسيون من خلال ثورة الياسمين تكريسها سبلا لحياة حرة كريمة، تكون بمثابة تتويج لبطولة الشاب محمد البوعزيزي ولكرم تضحيته التي اشعلت فتيل الثورة. وحين هُزم الغنوشي وحركته في الانتخابات التالية وضع الجميع ايديهم على قلوبهم خوفا على تونس من رد فعل يكون على غرار رد فعل جماعة الاخوان في مصر حين طردها الشعب من الحكم. غير أن التونسي الغنوشي تعامل مع ارادة الشعب بقدر لافت من الاحترام، وبدلا من أن يكون مصيره السجن والنفي من الحياة السياسية مثلما حدث لمرسي فإنه اعترف بهزيمته وقرر أن ينضم إلى الحراك الديمقراطي معارضا بطريقة سلمية. ما فعله الغنوشي حفظ له كرامته وانقذ حركته من التشرذم والضياع وجنب تونس السقوط في دوامة العنف والارهاب. كان ذلك دليلا على أن الرجل يدرك أن قوة التاريخ يمكنها أن تقهر الوقائع الأنية المؤقتة. وهو ما يعني اعترافه بأن انتصار حركته بمشروعها الديني لم يحدث إلا بسبب الاضطراب الذي تعرض له المجتمع التونسي بسبب أحداث الثورة وأن ذلك المجتمع ما أن استعاد توازنه حتى قرر أن يسحب تفويضا لم يكن موفقا. لم تكن صدفة أن يشن النهضويون حين كانوا في الحكم حملة ضد قانون الاحوال الشخصية الذي سُن في زمن بورقيبة من أجل الغائه والعودة بالمجتمع إلى العصر الذي سبقه. كانت تلك الحملة تهدف إلى محو أهم آثار الحقبة البورقيبية، وهي حقبة الاستقلال وبناء نظام اجتماعي يعتمد على المساواة في حقوق المواطنة وواجباتها. تلك الحملة هي التي أعادت جزءا كبيرا من المجتمع التونسي إلى صوابه وهي التي أفقدت حركة النهضة قدرتها على المضي بمشروعها الديني، بعد أن فقدت رصيدها الشعبي. يومها باتت الخيارات واضحة. النهضويون أنفسهم أظهروا حرصا على أن لا يسمح فشلهم للتيارات المتطرفة بالتسلل إلى الشارع بحجة الاحتجاج فأختاروا الحوار السياسي. وهو ما جعلهم يستعيدون شيئا من مصداقية، كانوا فقدوها. غير أن المجتمع المدني كان هو اللاعب الأكبر الذي استطاع عن طريق قلب الموازين لصالح توجهاته المدنية أن يستعيد معادلة اجتماعية، كان بورقيبية قد أسس لها عن طريق قوانين الهمت الشعب فكرة عن المساواة لا يمكنه التفريط بها. نوبل للسلام توجت تجربة الحوار السياسي التونسي، وهو حوار ما كان من الممكن أن يكون موجودا لولا ما زرعه بورقيبة في نفوس التونسيين من شغف بالحياة المدنية.