العرب والسياسة أين الخلل ؟ لمحمد جابر الأنصاري وفيق غريزي على الرغم من التألق الروحي والعقلي والعمراني للحضارة العربية الاسلامية، فإن تاريخها السياسي ظل اضعف عناصرها على الاطلاق، وأشدها عتمة. فهي حضارة جميلة ورائعة لكنها ظلت تعاني غالباً من فقر دم سياسي، ومن انيميا سياسية من حيث الواقع العملي على صعيد التطبيق والنظم والممارسة، وذلك منذ التأزم المبكر للخلافة الراشدة، الى الاجهاض السياسي المريح لمشروعات النهوض العربي، في عصرنا الحديث والمعاصر. «وصحيح ان المثاليات النظرية السياسية لدى مختلف الفرق الاسلامية كانت تبشر المؤمنين بأوضاع افضل، الا ان الواقع السياسي ظل، في الماضي والحاضر على السواء، يمثل اقوى نقض ونفي لتلك المثاليات مما ادى الى ترسيخ حالة حادة من الفصام بين اليوتوبيا والواقع المعاش المتداول، كما لم يحدث، ربما في تاريخ اية أمة اخرى». وكلما اتسعت الفجوة الانفصامية بين خدر الوعي وبؤس الواقع، امعنت اليوتوبيا ووصيفتها الايديولوجيا في ادعاء المثاليات الافلاطونية او المتافيزيقية، بينما الواقع السياسي المعاش يزداد بؤساً، بدون ان يمتد جسر للعبور التاريخي بين الوعد والانجاز، بين النظرية والممارسة، كما في التجارب السياسية الماثلة للامم الاخرى. لماذا يتكرر رسوب العرب في اختبارات السياسة؟ معضلة صارت مقيمة في الحياة السياسية للعرب، وعادت لتطرحها، بإلحاج الاخفاقات السياسية العربية المتلاحقة في الآونة الاخيرة في الداخل والخارج، وعلى اكثر من صعيد. وهي بطبيعتها اولوية علمية وبحثية وفكرية، لكنها في الوقت ذاته اولوية سياسية مصيرية ملحة وعاجلة وضاغطة حسب رأي المؤلف، الذي يؤكد انها حاجتنا الى التحديق بعيون مفتوحة، وبفكر مفتوح قبل كل شيء، «في ظاهرة تدني مستوى الاداء السياسي في الحياة العربية، وعلى امتداد الوطن العربي، بصورة تدعو الى القلق الشديد والى ضرورة ايلاء هذه الظاهرة المزمنة والمقيمة في واقع العرب ما تحتمه من اعتراف اولاً بوجودها وخطورتها البالغة». فهناك مشكلة في الغالب بين العربي وبين تقبله للحقائق والوقائع القائمة حتى لو حاصرته. ثم الشروع في دراستها ومناقشتها في اوساط المفكرين والساسة والمثقفين والمواطنين العرب كافة بما تستحقه من تشخيص معرفي علمي موضوعي قبل كل شيء، ثم بما تتطلبه من تحليل وتفسير ومراجعة، ونقاش واسع في مختلف المنابر العربية. ويقول المؤلف: «ان الازمات السياسية العربية المتلاحقة، والاخفاقات العربية المتتالية في العمل السياسي، والتأزم المزمن في الاوضاع السياسية العربية، رسمية وشعبية، سلطة ومعارضة، لهي حالات لا تفسر نفسها بنفسها، وعلينا ان نفهم ونتفهم العوامل المتداخلة، وطبيعة القاعدة المجتمعية (السوسيولوجية) العامة». ومجمل الجذور السياسية التاريخية التي تنتج، وتعيد انتاج تلك الازمات والاخفاقات السياسية بصورة متتابعة، ازمة بعد اخرى، وفي تفريخ متزايد لها… وهذا يعني ان يكون البحث المعرفي في تكوين العرب السياسي مطلباً لا غنى عنه. ويتساءل المؤلف: «ألم يحن الوقت الى تحويل مأساتنا السياسية الذاتية هذه الى موضوع مختبرات علم السياسة وعلوم الاجتماع والتاريخ والاقتصاد لنتمكن من موضعة المأساة… وبالتالي الامساك بها.. وتشريحها، وتحديد الأورام الخبيثة فيها، واجراء العمليات الجراحية لها.. والاتفاق على العلاج الناجع لها؟ القاسم المشترك في التجارب الايديولوجية رغم التباين بل التناقض الكبير، بين الحركات والايديولوجيات السياسية التغييرية التي مرت على بلدان المنطقة العربية بعامة، من تحديثية علمانية، الى قومية وسطية، الى دينية اصولية «فإن ثمة شبهاً كبيراً وخطيراً يجمع بينها على اختلافها«. هذا الشبه حسب اعتقاد المؤلف، الذي يكون عاملاً مشتركاً وظاهرة متأصلة ثابتة فيها جميعاً، يتمثل، باختصار، في انها كانت وما زالت قادرة على هدم ما لا تريد، لكنها غير قادرة على بناء… ما تريد. ويقول: «استطاع الاتجاه التحديثي في بدايات القرن خلخلة عدد من التقاليد والقيم والافكار القديمة ونزعها من مكانتها، لكنه لم يتمكن من تثبيت وتأصيل قيم الحداثة الحقيقية، الا فيما يتعلق بالمظهر دون الجوهر، وبالقشور دون اللباب، حتى هذه المظاهر التحديثية لم تستطع البقاء في وجه التحدي الاصولي الذي اكتسحها مؤخراً». واستطاع المد القومي الوحدوي اسقاط عدد غير قليل من الانظمة القطرية الرجعية في عنفوان كما دحر الاستعمار في الكثير من معاركه، لكنه عندما دخل في تجربة بناء نظامه القومي ودولته الوحدوية كان الفشل من نصيبه، في اكثر من تجربة. وفي الفترة الحالية يرى المؤلف ان الحركات الاصولية استطاعت اسقاط مصداقية عدد غير قليل من الانظمة في البلدان العربية، لكنه يصعب القول انها قدمت نموذجاً ناجحاً مشعاً وجاذباً للآخرين سواء على صعيد تجاربها الحزبية التنظيمية او تجاربها السلطوية الرسمية وهي تمارس الحكم. المفارقة بين القدرة على تحقيق انقلاب الدولة والعجز عن بناء الدولة تحتاج الى تمحيص دقيق من جانب المعنيين بأمر حركات التغيير والاصلاح في العالم العربي. الثقافة السياسية العربية والبؤس المعرفي تعاني الثقافة السياسية عند العرب من تضخم هائل من جانبها الايديولوجي والمثالي الطوباوي، ومن ضمور وفقر دم بالمقابل من جانبها الواقعي والعملي، والتحليلي النقدي. ومن هذا الاختلال الاساسي في بنيتها العامة يقول المؤلف: «يتولد قسط لا يستهان به من الخلل والقصور في السلوك السياسي العربي الناجم عن ذلك الوعي المختل بحقيقة السياسة. اذ يقل في ثقافة العرب السياسية، من جانب، حجم الادراك بأبعاد الواقع السياسي الملموس والمتعين سواء فيما يتعلق بحقيقته التاريخية المديدة، التي لا تتخللها سوى ذكريات ورومانسيات الانتصارات الفاعلة في صياغة تاريخهم السياسي سلباً او ايجاباً، او فيما يتعلق بالحقيقة المعاصرة لواقعهم السياسي الحديث والراهن في الداخل والخارج». وتعويضاً عن ذلك، فان الطوباويات والايديولوجيات السياسية، وما تختصر فيه من شعارات غير قابلة للتقويم والمراجعة هي التي تحتل الحيز الاكبر من بنية الثقافة السياسية العربية مستمداً من الموروث السياسي الديني في التفكير والتفسيق، ومعاييرها المعاصرة في التخوين والانحراف والوصم. وحتى لا نتصور ان التأزم السياسي المزمن راجع الى طبيعة ذاتية في العرب ومتأصلة فيهم، علينا التأمل بعض الشيء في مجمل العوامل الموضوعية التي ادت الى هذا التأزم. قراءة تاريخية لتجربة العرب السياسية حتى لا نبالغ في التجريح الذاتي لأنفسنا بسبب ضخامة حجم التراجعات العربية الراهنة وحتى لا نفسر معضلتنا العميقة المستعصية بتفسيرات جزئية ووقتية متغيرة بتغير الواقع والظروف والملابسات الآنية، لا بد من منظور المؤلف، من وقفة متأنية مع الجذور الإجتماعية التاريخية لأزمة الكيان العربي، وأزمة العقل العربي وأزمة الإنسان العربي، ولكي نحدد مدى مسؤولية الماضي عن أزمات الحاضر بما هو إمتداد مؤثر في تكويننا الراهن. وكما قال المفكر الفرنسي بيير فيلاد: «أن تفكر سياسياً بشكل جيد، فعليك أن تقرأ تاريخياً بشكل جيد». إن رصد المتغيرات الراهنة أمر لا بد من الإستمرار فيه بطبيعة الحال. لكن العقل العربي مطالب اليوم أكثر من أي وقت مضى بعدم الإكتفاء بهذا الرصد الحدثي للمتغيرات الراهنة، والإطلالة من وراء ذلك على العوامل الإجتماعية والتاريخية والحضارية الفعالة التي جعلت من الكيان العربي ما هو عليه الآن. فهذه العوامل هي التي تتغذى منها أغلب التراجعات والإنتكاسات في الحياة العربية المعاصرة. وما يطرحه المؤلف هنا هو مجرد إجتهاد فكري قابل للحوار في محاولة لتفسير التمزق العربي الداخلي، وضعف القابلية الإنتاجية والحضارية في المجتمعات العربية، وسهولة تعرضها للمؤثرات والتحديات الخارجية وعلى الأخص: «لما يمكن أن نسميه إعادة إنتاج الكوارث السياسية التي أخذت تتعرض لها في العقود الأخيرة بشكل متواتر». نحو سيولوجيا سياسية عربية العوامل الفعالة المؤثرة في الواقع السياسي العربي: رسمياً وشعبياً، أنظمة ومعارضة، قطرياً وقومياً؛ هي بطبيعة الحال عوامل عديدة ومتشابكة، خصوصاً في هذه المنطقة الحساسة من العالم: سواء ما نبع منها من الداخل العربي ذاته، على مختلف مستوياته وأنحائه، أو ما صدر عن القوى الخارجية على إختلافها، بما لها من مصالح متجذرة في المنطقة العربية واهتمام بالغ بموقعها الاستراتيجي. ويرى المؤلف ان جل اهتمام الخطاب السياسي العربي قد تركز على هذه العوامل الظاهرة، والمباشرة دون الالتفات بدرجة وافية إلى عوامل اشد خطورة في تقدير المؤلف من هذه العوامل لكونه التربة العامة، والبنية التحتية المستديمة حتى الآن، التي تتغذى منها وتستند الى طبيعتها مختلف العوامل الذكورة في تأثيرها العميق على الصيرورة السياسية العربية ومسلكياتها وتجلياتها. اياً كانت طبيعة الأنظمة والأيديولوجيات المرحلية الطافية على السطح. إن هذه الأحداث الكبرى، والهزائم والانعطافات الرئيسية، رغبم تكررها وتواترها ترد ببساطة «تارة الى الرجعيين، وتارة الى الانفصاليين، وتارة إلى الثوريين، وتارة الى الفرنسيين، وأحياناً إلى هذا الحاكم الفرد أو ذاك، أو حتى إلى واقعة أو مقابلة مفردة أجراها بشكل أو بآخر». ومن تحصيل الحاصل في الواقع وتفسير الماء بالماء دوران الخطاب السياسي حول هذه العوامل في حد ذاتها، وبمعزل عن طبيعة القاعدة السوسيولوجية العامة القابلة للانفعال بها، هذا الانفعال العميق المتصل زماناً عبر حقب عديدة مهما تبدلت عناوينها السياسية، والممتد مكاناً بمختلف الاقطار العربية، ما انشغل منها بإسرائيل وما نأى لبعده عنها، ما خضع للاستعمار وما لم يخضع، ما ازّمته الثروة وما أزّمته الثورة، أو الفقر، ما سبق إلى درب التطور والنهضة، وما بدأها لاحقاً. بين التوحد والتعدد إن استمعنا للعرب قادة وافراداً، وجدناهم على الصعيد الشعوري والذهني وحدويين يؤمنون بوجود أمة عربية واحدة، كما يعبرون عن ذلك في دساتيرهم وكتاباتهم واشعارهم، وقلما جاهر العربي بخطاب انفصالي أو انعزالي، الا في حالات نادرة، كأن يكون من بيئة جبلية منعزلة ومن غير نطاق الأكثرية، أو يكون قد مر لتوه بتجربة مريرة باسم الوحدة مورست فيها مختلف اساليب التنفير منها، (كما حدث للكويت مؤخراً بين أمثلة عربية أخرى في تاريخنا المعاصر، وكما حصل للبنان إبان الغزو السوري له). أما إذا طالبنا العربي بالشروع في تحقيق الوحدة عملياً يقول المؤلف: فإنه عندئذ يبدو كائناً من نوع آخر، إنه أمام الاختبار الوحدوي العربي العملي والواقعي، كائن في منتهى الحذر والتردد، والتأجيل والتسويق.. فعندها تكتسب الحدود القطرية قداسة ما بعدها قداسة، وتدل أدق التفاصيل والصغائر القطرية في الاعتبار». ويبدو الانفصال واضحاً في بداية مشروع الوحدة غير المتحققة. ولا يقتصر هذا النكوص على مشروعات الوحدة بل يشمل ابسط مشروعات التعاون والتنسيق. ويتساءل المؤلف: فما تفسير هذه الظاهرة، أو المفارقة بين مشاعر وحدوية فياضة.. ومواقف إنفصالية لا تتزحزح؟ هل هي شيزوفرينيا عربية بين شخصيتين، شخصية وحدوية ظاهرة عامة، وشخصية إنفصالية باطنية خاصة؟ بين الوطني والقومي يبدو الفكر المشرقي القومي هو الأكثر إعاقة وقصوراً، حيث نشأ بمواجهة مخطط سايكس بيكو التجزيئي في منطقة الهلال الخصيب، فسيطر عليه هاجس هذا المخطط، ولم يتمكن في غمار تلك المواجهة غير المتكافئة في حينه من رؤية العوامل والظواهر الموضوعية للتعدديات العربية الا من زاوية تلك المؤامرة الدولية التقسيمية التي لا بد من الاقرار بأثرها بطبيعة الحال، ولكن في حدود حجمها الطبيعي ومع ضرورة النظر إلى المعطيات الموضوعية الأخرى المتعلقة بظاهرة التعدد العربي. ويقول المؤلف: «لا يمكن للعربي أن يقاربها ويعايشها الا وهو متلبس بنوع من الجرم، على الرغم من أن الواقع الوطني القطري هو الواقع اليومي المعاش على مختلف الأصعدة لكل مواطن عربي، وهو منطلقه ومنفذه لكل تعاط آخر، قومياً كان أم إقليمياً أم دولياً«. وبغض النظر عن مدى شعورنا الذاتي تجاه مشروعية أو شرعية ذلك الواقع الوطني من زاوية مثالياتنا القومية أو الدينية. ويتضح هذا الخلل المفهومي في الفكر المشرقي القومي تجاه البعد الوطني، إذا قادنا موقفه هذا بموقف الفكر المغاربي الوحدوي، الذي يصبو حسب رأي المؤلف إلى وحدة المغرب العربي الكبير، من دون أن يقف من الحقيقة الوطنية لدول المغرب العربي موقف التأثيم والإدانة، معتبراً البناء الوطني لبنة في طريق البناء القومي. العرب والسياسة أين الحل؟ محمد جابر الأنصاري دار الساقي بيروت 2015 عن ملحق نوافذ.