الهلال السعودي يتعادل مع ريال مدريد في كأس العالم للأندية    لما سقطت طهران... صرخت بورسودان وأبواقها    "الأمة القومي": كامل ادريس امتداد لانقلاب 25 أكتوبر    6 دول في الجنوب الأفريقي تخرج من قائمة بؤر الجوع العالمية    فقدان عشرات المهاجرين السودانيين في عرض البحر الأبيض المتوسط    عودة الخبراء الأتراك إلى بورتسودان لتشغيل طائرات "أنقرة" المسيّرة    "حكومة الأمل المدنية" رئيس الوزراء يحدد ملامح حكومة الأمل المدنية المرتقبة    الحكم بسجن مرتكبي جريمة شنق فينيسيوس    30أم 45 دقيقة.. ما المدة المثالية للمشي يومياً؟    الإدارة العامة للمباحث الجنائية المركزية تتمكن من ضبط منزل لتزييف العملات ومخازن لتخزين منهوبات المواطنين    هل سمعت عن مباراة كرة قدم انتهت نتيجتها ب 149 هدفاً مقابل لا شيء؟    لماذا ارتفعت أسعار النفط بعد المواجهة بين إيران وإسرائيل؟    بين 9 دول نووية.. من يملك السلاح الأقوى في العالم؟    وزارة الصحة تتسلّم (3) ملايين جرعة من لقاح الكوليرا    "أنت ما تتناوله"، ما الأشياء التي يجب تناولها أو تجنبها لصحة الأمعاء؟    تقرير رسمي حديث للسودان بشأن الحرب    يوفنتوس يفوز على العين بخماسية في كأس العالم للأندية    نظرية "بيتزا البنتاغون" تفضح الضربة الإسرائيلية لإيران    التغيير الكاذب… وتكديس الصفقات!    السودان والحرب    الأهلي يكسب الفجر بهدف في ديربي الأبيض    عملية اختطاف خطيرة في السودان    بالصورة.. الممثل السوداني ومقدم برنامج المقالب "زول سغيل" ينفي شائعة زواجه من إحدى ضحياه: (زواجي ما عندي علاقة بشيخ الدمازين وكلنا موحدين وعارفين الكلام دا)    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل زفاف بالقاهرة.. العازف عوض أحمودي يدخل في وصلة رقص هستيرية مع الفنانة هدى عربي على أنغام (ضرب السلاح)    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية فائقة الجمال تبهر المتابعين وتخطف الأنظار بتفاعلها مع "عابرة" ملك الطمبور ود النصري    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل زفاف بالقاهرة.. العازف عوض أحمودي يدخل في وصلة رقص هستيرية مع الفنانة هدى عربي على أنغام (ضرب السلاح)    شاهد بالصورة والفيديو.. مطربة أثيوبية تشعل حفل غنائي في أديس أبابا بأغنية الفنانة السودانية منال البدري (راجل التهريب) والجمهور يتساءل: (ليه أغانينا لمن يغنوها الحبش بتطلع رائعة كدة؟)    شاهد بالفيديو.. ظهر بحالة يرثى لها.. الفنان المثير للجدل سجاد بحري يؤكد خروجه من السجن وعودته للسودان عبر بورتسودان    الهلال السعودي يتعادل مع ريال مدريد بهدف لكلٍ في كأس العالم للأندية    هل هناك احتمال لحدوث تسرب إشعاع نووي في مصر حال قصف ديمونة؟    ماذا يفعل كبت الدموع بالرجال؟    الإدارة العامة للمباحث الجنائية المركزية تتمكن من الإيقاع بشبكة إجرامية تخصصت فى نهب مصانع العطور بمعاونة المليشيا المتمردة    أمام الريال.. الهلال يحلم بالضربة الأولى    9 دول نووية بالعالم.. من يملك السلاح الأقوى؟    الصحفية والشاعرة داليا الياس: (عندي حاجز نفسي مع صبغة الشعر عند الرجال!! ولو بقيت منقطها وأرهب من الرهابة ذاتا مابتخش راسي ده!!)    تدهور غير مسبوق في قيمة الجنيه السوداني    التهديد بإغلاق مضيق هرمز يضع الاقتصاد العالمي على "حافة الهاوية"    كيم كارداشيان تنتقد "قسوة" إدارة الهجرة الأمريكية    "دم على نهد".. مسلسل جريء يواجه شبح المنع قبل عرضه    السلطات السودانية تضع النهاية لمسلسل منزل الكمير    المباحث الجنائية المركزية ولاية الجزيرة تنفذ حملة أمنية كبري بالسوق العمومي وتضبط معتادي إجرام    مباحث شرطة الولاية الشمالية تتمكن من إماطة اللثام عن جريمة قتل غامضة وتوقف المتورطين    المملكة تستعرض إستراتيجية الأمن الغذائي لدول مجلس التعاون الخليجي    خسائر ضخمة ل"غانا"..تقرير خطير يكشف المثير    نقل أسلحة إسرائيلية ومسيرات أوكرانية الى افريقيا بمساعدة دولة عربية    والي الخرطوم يصدر عدداً من الموجهات التنظيمية والادارية لمحاربة السكن العشوائي    أدوية يجب تجنب تناولها مع القهوة    (يمكن نتلاقى ويمكن لا)    بالصورة.."أتمنى لها حياة سعيدة".. الفنان مأمون سوار الدهب يفاجئ الجميع ويعلن إنفصاله رسمياً عن زوجته الحسناء ويكشف الحقائق كاملة: (زي ما كل الناس عارفه الطلاق ما بقع على"الحامل")    السودان..خطوة جديدة بشأن السفر    3 آلاف و820 شخصا"..حريق في مبنى بدبي والسلطات توضّح    معلومات جديدة عن الناجي الوحيد من طائرة الهند المنكوبة.. مكان مقعده ينقذه من الموت    إنهاء معاناة حي شهير في أمدرمان    رؤيا الحكيم غير ملزمة للجيش والشعب السوداني    شاهد بالفيديو.. داعية سوداني شهير يثير ضجة إسفيرية غير مسبوقة: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وأوصاني بدعوة الجيش والدعم السريع للتفاوض)    أثار محمد هاشم الحكيم عاصفة لم يكن بحاجة إلي آثارها الإرتدادية علي مصداقيته الكلامية والوجدانية    ما هي محظورات الحج للنساء؟    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كمال الجزولي : الإِبْرَاهِيميَّةُ السِّياسِيَّةِ بَيْنَ التَّدَيُّنِ والذَّرَائِعِيَّةِ فِي فِكرِ التُّرابِي !
نشر في حريات يوم 04 - 11 - 2015

الإِبْرَاهِيميَّةُ السِّياسِيَّةِ بَيْنَ التَّدَيُّنِ والذَّرَائِعِيَّةِ فِي فِكرِ التُّرابِي !
كمال الجزولي
* لا بد أن الترابي رأى في المظهر العسكري للشمولية ما يعيق إقناع دافع الضرائب في الغرب بالتطبيع مع الإنقاذ .. فحلَّ مجلس الثورة!
* عِلة اجتهاد الترابي معاظلة النصوص الدينية لا لوجه الله تعالى وإنما تبريراً لترتيبات سلطوية!
* دعا الزعيم الإسلاموي لأن ينتسب المسلمون لإبراهيم، لا لمحمَّد، تقرباً إلى المسيحيين واليهود وتحسيناً للعلاقات مع الغرب!
* ليس الترابي عقائدياً بالدلالة الدينية وإنما ذرائعي على مذهب التربوي الأمريكي جون ديوي!
(1)
ما يُعرف ب "المشروع الحضاري" مصطلح دالٌّ على مخطط لعمليَّة كبرى أطلقها القسم الرَّئيس من حركة الإسلام السِّياسي في السُّودان، من فوق انقلاب الثَّلاثين من يونيو 1989م، بزعامة حسن التُّرابي، وبغرض إخضاع كلِّ جوانب الحياة السِّياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثَّقافيَّة لما يتَّسق مع رؤية هذا القسم الأيديولوجيَّة.
بمثل تلك الآمال العراض ولج قادة هذا القسم عقد التِّسعينات من القرن المنصرم، متخفِّفين، أوَّل أمرهم، من أيِّ مخاوف، حيث لم تكن ثمَّة حدود، في البداية، لثقتهم في حركتهم وترتيباتهم. لكن ما أن راح ذلك العقد ينزلق، رويداً رويداً، نحو أواسطه، حتى أخذ الخوف مِن فشل "المشروع" يدبُّ في نفوس أصحابه. فالتَّحدِّيات التي لاحت، آنذاك، في أفقه، لم تكن، أصلاً، في حسبانهم، بل، على العكس، كان قد توطن لديهم اعتقاد جازم بأن سائر دول الغرب، والمحيطين العربي والأفريقي، دَعْ بقيَّة دول العالم، ستجد نفسها مضطرة، إن استتبَّ الأمر لنظام الحكم الجَّديد، للاعتراف به، وللتَّعامل معه، ولو من باب الأمر الواقع de facto على الأقل، وكان ذلك يكفيهم.
على أن الرِّياح غير المواتية التي قد تأتي أحياناً بما لا تشتهي السُّفن هبَّت تملأ أشرعة النظام، من كلِّ حدب وصوب، بعداء ما انفكَّ يرجُّه، ويزعزعه، ويدفع به دفعاً إلى الغرق! من ثمَّ كان لا بُدَّ لأساطينه، تحت وطأة إحساس خانق بخطر العزلة الخارجيَّة، فضلاً عن ضغط المعارضة الدَّاخليَّة، من التفكير في مخرج من المأزق الذي ألفوا أنفسهم بين فكَّيه.
(2)
اقتضى الأمر اجتراح خطة جديدة تنحو، من جهة، للتَّقارب مع الغرب، رغم كلِّ التَّنظير الذي ما فتئ ينصبُّ على التَّيئيس، بالمرَّة، من جدوى استمالته، كون اليهود والنَّصارى لن ترضى عنك حتَّى تتَّبع ملتهم، في استخدام ركيك للآية القرآنيَّة الكريمة؛ كما تنحو، من جهة أخرى، للموادَّة مع البلدان العربيَّة، بعد كلِّ الهجاء الذي طال قادتها عبر الصُّحف، وأجهزة الإعلام، وسائر المنابر العامَّة، في ما لا يشبه سوى إعلان الحرب. لكن، على حين شكَّل التَّقارب مع الغرب همَّ الحركة الأوَّل، لم تشكِّل علاقاتها مع العرب عُشر مِعشار ذلك الهمِّ، فقد قرَّ في عقيدتها السِّياسيَّة، بتبسيط مخلٍّ، أن ترميم ذات البّيْن مع الغرب كفيلٌ وحده باستتباع ترميمها مع العرب، ضربة لازب!
وبطبيعة الحال لم تكن لتغيب عن تقدير التُّرابي، كعرَّاب للنِّظام الإسلاموي وحركته الحاكمة، صنوف المعيقات التي قد تعترض مسار تلك الخطة، وضرورة التَّحسُّب الباكر لها. ومن أهمَّ تلك المعيقات مظهرُ الشُّموليَّة العسكري للنِّظام، وقتها، والذي رأى الرَّجل، ولا بُد، أن من شأنه عرقلة مسعى أيَّة حكومة غربيَّة، إنْ رغبت، في إقناع دافعي الضَّرائب بالتَّطبيع معه، لا سيَّما في ظلِّ "ديموقراطيَّة ليبراليَّة" تقوم على "المحاسبة" عبر صناديق الاقتراع، دورة إثر دورة، كآليَّة للتَّنافس الحزبي! من ثمَّ لم يهدأ للتُّرابي بال حتَّى تمَّ حلُّ "مجلس قيادة الثَّورة" في 16 أكتوبر 1993م، وتحويل معظم أعضائه إلى ولاة، ووزراء، وسفراء بالملابس المدنيّّة!
قد يحاجج بعض الإسلامويين بأن ذلك الإجراء ترتَّب، أصلاً، على اتِّفاق مسبق بين قادة الإسلامويين المدنيِّين والعسكريِّين قبل الانقلاب! لكن سرعان ما سيتَّضح أن هذه الحُجَّة مردود عليها بلسانين، أوَّلهما زعيم بأن التاريخ المتَّفق عليه، إن كان ثمَّة اتِّفاق أصلاً، هو منتصف العام 1992م، وليس أواخر العام 1993م؛ وثانيهما أن العسكريِّين، عندما سألوا التُّرابي كم سيبقون في الحكم بصفتهم العسكريَّة تلك، حدَّد لهم ثلاثين سنة!
مهما يكن من شيئ، فقد انطلق التُّرابي، بتلك العقيدة السِّياسيَّة، يسافر، ويحاضر، ويحاور، هنا وهناك. فجاءت، في السِّياق، أبرز زياراته للفاتيكان، ولواشنطن، ولأوتاوا، وإلى ذلك محاضرته المحضورة بجامعة قالا "القلعة" بمدريد، في أغسطس عام 1994م، عن الحركات الإسلاميَّة بشمال أفريقيا، فضلاً عن لقاءاته، في باريس، بحاخامات اليهود، والتي أثمرت، بلا شكِّ، في إنجاح اجتماع السَّاعتين الذي رتَّبته له المخابرات الدَّاخليَّة الفرنسيَّة، مع مديرها فيليب روندو، بقاعة كبار الزُّوَّار بمطار شارل ديجول، في حضور محي الدِّين الخطيب، الملحق الأمني بسفارة السُّودان هناك، وعطا المنَّان بخيت، السِّكرتير الأوَّل، وهو الاجتماع الذي فتح الطريق، في ما بعد، لصفقة تسليم كارلوس مقابل صور الأقمار الصِّناعيَّة التي مكَّنت الخرطوم من تسديد ضربة ناجحة، آنذاك، لمعسكرات الجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان، الأمر الذي لم يغفره جون قرنق للفرنسيِّين حتَّى بعد أن شغل منصب النَّائب الأوَّل لرئيس الجُّمهوريَّة، في عقابيل اتِّفاق نيفاشا عام 2005م. وغنيُّ عن الذِّكر، ولا بُدَّ، أن أكبر وأهم أجهزة الاستخبارات الغربيَّة لم تكن بعيدة، بالطبع، عن مشهد تلك التَّحرُّكات.
سوى أن مردود كلِّ تلك الخطوات التي اتخذت للتَّقارب مع الغرب، سعياً لفكِّ عزلة النِّظام الدَّوليَّة والإقليميَّة، لم يكن مُرضياً للكثير من أركان الحركة والنِّظام الإسلامويَّين، حيث لم يُحسب ذلك المردود، في اعتبارهم، مكافئاً لما بُذل في سبيله! مع ذلك فإن الغرب لم يرتو، على ما يبدو، بل واصل إلحاحه في المطالبة، وفق منهج العصا والجَّزرة، بإنفاذ المزيد من تلك الإجراءات، حتَّى بلغ الأمر، في خواتيم التِّسعينات، حدَّ المساس "الخطر" بموقع الرَّئيس نفسه، مِمَّا أفضى، عام 1999م، ضمن أسباب أخرى، مباشرة وغير مباشرة، إلى شقِّ الحركة والنظام، من فوق ما عُرف ب "مذكِّرة العَشرة"، ثمَّ إلى واقعة "المفاصلة" الشَّهيرة التي أطاحت بالتُّرابي نفسه، وبأحلامه الشَّخصيَّة، إلى خارج السُّلطة!
وتلزمنا الإشارة، هنا، إلى أن التُّرابي سعى، في ما بعد، كما ولم يقصِّر بعض خصومه داخل الحركة والنِّظام الحاكم في مجاراته بالمقابل، إلى إدارة ذلك الخلاف، لا بالاقتصار على طابعه السِّياسي العملي، فحسب، وإنَّما بدلق مختلف المدلولات الدِّينيَّة على سطحه، بما في ذلك التَّكفير والتَّكفير المضاد!
لكن لئن جرى جُلُّ ذلك، مع ذلك، في مستوى "السِّياسة العمليَّة"، كما أشرنا، فإن الانقلاب الأكبر، في الحقيقة، كان قد وقع في المستوى "الفقهوفكري"، قبل تلك "المفاصلة" بسنوات، حيث أن تفاقم عزلة النِّظام، واشتداد الضُّغوط عليه، وتزايد المخاطر الناجمة عن كلِّ ذلك، فضلاً عن شُحِّ وتباطؤ مردود التَّطبيع مع الغرب، قد أفضى إلى حَمْل التُّرابي على ظهر مغامرة "فقهوفكريَّة" غير مسبوقة بكلِّ المقاييس!
(3)
في البداية لم يكن الأمر مغامرة بهذا المعنى، بل جاء رافلاً في بردة البراءة الدِّينيَّة، من خلال خطاب راح الرَّجل يبثُّه لتقريب الإسلام، حسب ما أوضح بنفسه، إلى الذِّهن الغربي، المسيحي واليهودي، محاولاً تقديم الإسلام لهذا الذِّهن في مستوى ينفي عنه أيَّ انطباع بالتَّشدُّد في معاداة "الآخر الدِّيني"، على وجه الخصوص، وذلك بالتَّركيز على أنه جاء مصدِّقاً لما أنزل على عيسى، وموسى، وجميع الأنبياء قبلهما، حتَّى أباهم إبراهيم، حيث كان دينهم، أجمعين، هو الإسلام العام، أي الإيمان بربوبيَّة الخالق وحده، وعدم العبوديَّة لسواه.
غير أن المشكلة الكبرى التي شكلت تحدِّياً حقيقيَّاً لذلك الخطاب تمثَّلت في أن غالب الجُّمهور الذي استهدفه الرَّجل في الغرب، من مسيحيِّين ويهود، لا يعترف بالإسلام أساساً، فلا معنى للقول بأنه يعترف بموسى وعيسى، ما جعل من ذلك المدخل خطة غير ذات جدوى، أصلاً، فما الحل؟!
لم يجد الزَّعيم الإسلاموي، يومها، ما يواجه به ذلك التَّحدِّي، سوى خطة بديلة تكاد تكون بلا مثيل، ليس، فقط، في أدبيَّات حركة الأخوان المسلمين التي انحدرت منها حركته نفسها، وإنَّما في كلِّ تاريخ حركة الإسلام السِّياسي في المنطقة بأسرها، على تنوُّعها، ناهيك عن السُّودان. مستخلص تلك الخطة، ببساطة، أنه، طالما كان الإسلام يعترف بجميع الأنبياء، في تسلسل رجوعيٍّ حتَّى أباهم إبراهيم، فلماذا يصرُّ المسلمون على الانتساب الضَّيِّق إلى محمَّد، ولا ينسبون أنفسهم إلى إبراهيم، الانتساب الواسع، الجامع لهم مع المسيحيِّين واليهود؟!
(4)
في الإطار نشر التُّرابي مقالة توجيهيَّة شهيرة من جزئين، بعنوان "مرتكزات الحوار مع الغرب"، بمجلة "دراسات أفريقيَّة" المُحكِّمة، الصادرة عن "مركز البحوث والتَّرجمة بجامعة أفريقيا العالميَّة". ولم يكتفِ بذلك، بل امتدَّ تأثيره الذي لا يحتاج لإثبات، على صعيد الفكرة الرَّئيسة لمقالته تلك، كي يشمل الأستاذين الجَّامعيَّين: حسن مكي الذي نشر إلى جواره، في نفس العدد، مقالة أخرى بعنوان "حوار الرَّسول الكريم مع اليهود"، وأحمد علي الإمام الذي نشر مقالة ثالثة بعنوان "بشائر مستقبل العالم الإسلامي في وجه التَّحدِّيات الحضاريَّة المعاصرة".
وفي الجزء الثَّاني من مقالته المشار إليها، أورد التُّرابي المقتطف المطوَّل التالي: "غالب الأوربيِّين، وقد غفلوا عن دينهم، قد يستفزُّهم المسلم إذا خاطبهم من خلال المشترك الفكري للأديان الكتابيَّة، لأنهم، أصلاً، لا يعترفون بالإسلام، ولهذا نرى أن يكون الخطاب مدرجاً في سياق المقارنة من خلال الحدث الإبراهيمي لأنه هو الأصل المشترك للأديان جميعاً، ويمكن للمسلم ألا ينسب نفسه إلى محمد النَّبي، بل يمكن أن يقول، تلطفاً، إنه لا يريد أن يُسمَّى (محمَّديَّاً)، ليخاطبهم كأنه يريد التَّحدُّث عن هذا التَّقليد الدِّيني الواحد في السِّلسلة النَّبويَّة منذ إبراهيم، وأن تتابع الأنبياء جميعاً ليس إلا تجديداً في تنزيل ذات القيم والمعاني خطاباً لأقوام مختلفين، وفي ظروف وابتلاءات مختلفة. إن هذا هو منهج القرآن في الحوار بين المسلمين والكتابيِّين في سورة البقرة، إذ بعد أن بيَّن العلل التي طرأت على الدِّيانة الكتابيَّة بعد الرِّسالة، ردَّهم كافَّة إلى أصول الدِّين الإبراهيمي، وهو الإسلام. ومن هذا الأساس نحن ندعو إلى أن يتحوَّل الخطاب الإسلامي إلى هذا المشترك الرِّسالي الذي تبدأ به السِّلسلة النَّبويَّة، وكيف أنه لم يقتصر على المحليَّة الجُّغرافيَّة، ولا على الجُّغرافية الزَّمانيَّة، وإنَّما تحرَّك برسالته في كلِّ الشَّرق الأوسط، من العراق إلى فلسطين، فهناك زرع أبناءه وخلافته التي حملت سنَّته، ومن ثمَّ إلى أطراف مصر، ثمَّ إلى مكَّة حيث ترك هناك تراثه وخلافته أيضاً، وبعد ذلك كان إبراهيم عليه السَّلام أوَّل من بدأ يوسِّع دعوة الدِّين السَّماوي الكتابي، لا لقومه خاصَّة مثل الأنبياء من قبله، ولكنه أوَّل نبي وسَّع امتداد الجُّغرافيا على سياق خطابه العالمي، ففتح آفاقاً عالميَّة لرسالته. إننا بمثل هذا السِّياق العلمي في الطرح نستطيع أن ندخل على الغرب الذي يتأثَّر بالعالميَّة" (ع/12، يناير 1995م، ص 18 19).
ولم تغب فكرة الإبراهيميَّة، بنفس هذه الدَّلالة، عن المحاضرة التي ألقاها التُّرابي ضمن فعاليَّات المؤتمر العام لشباب الإسلامويِّين المسمَّى "الاتحاد الوطني للشَّباب السُّوداني"، والذي انعقد بقاعة الصَّداقة بالخرطوم في، أو حوالي، فبراير/مارس 1998م، بمشاركة وفود من مختلف بلدان العالم، بما فيها أمريكا وأوربَّا. ففي تلك المحاضرة بشَّر التُّرابي بدستور 1998م، كما دعا الشَّباب للتَّأسِّي بحركة الطلبة في باكستان وأفغانستان "طالبان"، وبحركات الشَّباب والطلاب في أوربَّا، وركَّز، بوجه مخصوص، على أطروحته المعروفة ب "تحالف أهل الإيمان"، حيث أطلق، في السِّياق، نداءه الشهَّير إلى الشَّباب، والذي تناقلته الصَّحافة وأجهزة الإعلام، يومئذٍ، على أوسع نطاق: "تمرَّدوا، فقد كان إبراهيم متمرِّداً"!
(5)
كان من الممكن، على أيَّة حال، استقبال كلِّ ذلك باعتباره اجتهاداً مشروعاً، ومناقشته، عقليَّاً، على هذا الأساس، في ما لو كان صادراً من التُّرابي لوجه الله تعالى، مثلما سبق للنَّاس أن استقبلوا اجتهاد الأستاذ الشَّهيد محمود محمَّد طه، اتفقوا أو اختلفوا معه، وبصرف النَّظر عن موقف من دبَّروا لاغتياله، لاحقاً، بسبب ذلك الاجتهاد، وفيهم جماعة التُّرابي نفسه.
لكن عِلة اجتهاد التُّرابي الكبرى، بخلاف اجتهاد الأستاذ الشَّهيد، إنَّما تكمن في معاظلته المفضوحة للنُّصوص الدِّينيَّة بما يأمل أن يسدَّ لديه حاجة ملحَّة لتبرير ترتيبات سلطويَّة أبعد ما تكون عن وجه الله تعالى؛ فهي حاجة يصحُّ وصفها، والحال هكذا، ب "الذَّرائعيَّة"، ليس في معناها كأداة بسيطة من أدوات المعرفة، بل كمذهب متكامل في الحياة والمعرفة يتعارض مع المُثُل والمبادئ العقيديَّة، ويكاد يمثِّل الإسهام الفكري الوضعي الأمريكي الأهمَّ خلال الرُّبع الأول من القرن الماضي، وهو المذهب الذي يدعو، حسب مؤسِّسه فيلسوف التَّربية جون ديوي (1859م – 1952م)، لإخضاع النَّظريَّات والأفكار كلها إلى غايات محدَّدة، إنْ خدَمَتها يؤخذ بها، وإلا فلا جدوى من ورائها، إذ لا قيمة لأيَّة نظريَّة أو فكرة، بالغاً ما بلغت قدسيَّتها، إلا بنتيجتها العمليَّة!
التُّرابي، والأمر كذلك، ليس "عقائديَّاً"، بالدَّلالة الدِّينيَّة، وإنَّما هو "ذرائعيٌّ"، بامتياز، في معنى مذهب جون ديوي، وعلى مَن يخالفنا الرَّأي إعادة قراءة هذه المقالة من أوَّلها!
***


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.