في دورة انعقاده الأخيرة في جنيف قرر مجلس حقوق الإنسان تعيين مقرر أممي خاص ليجري تقييماً للآثار السالبة للقرارات التي تتخذها بعض الدول الكبرى بفرض عقوبات ضد دول صغرى ومدى تأثير تلك العقوبات على حقوق الإنسان في الدول التي تُفْرَض عليها تلك العقوبات، وقد أسمى القرار تلك العقوبات (التدابير القسرية الانفرادية) وكلف المقرر الخاص أن يدرس كيف أثرت تلك العقوبات على حقوق مواطني الدول المعنية واختار لهذه المهمة السيد إدريس الجزائري. وقد استهل السيد الجزائري مهمته بزيارة للسودان تلبية لدعوة من حكومة السودان التي ظلت تشكو من الآثار السالبة التي نتجت عن قرار الحكومة الأميركية بفرض عقوبات على السودان منذ قرابة العقدين، ولبى السيد الجزائري الدعوة وقام بزيارة للسودان امتدت لأسبوع من الثالث والعشرين من نوفمبر الماضي وحتى الثلاثين منه وفي نهاية الزيارة أصدر المبعوث الدولي تصريحاً ضمنه (ملاحظات وتوصية أولوية) توصل إليها بعد لقاءات مكثفة مع المسئولين في الدولة بدءاً من نائب رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان، والوزراء وكبار المسئولين الحكوميين، وامتدت اللقاءات لتشمل قادة أحزاب سياسية متحالفين مع الحكومة ومعارضين لها، وممثلين لمنظمات المجتمع المدني، وأساتذة الجامعات، واعتبر المبعوث بيانه مجرد (ملاحظات أولوية) لأن الموضوع يحتاج إلى مزيد من الدراسات المتعمقة والحصول على المعلومات والإحصائيات وتحليل الوقائع، كما أن الخبير أشار إلى (أن التقييم الكامل لآثار العقوبات الأحادية لا يخلو من عدة صعوبات وتحديات منهجية للتمكن من تحديد الآثار السالبة للعقوبات على التمتع بحقوق الإنسان في مجال معين) رغم أنه رصد في تقريره مجالات وجد الأثر فيها واضحاً. ولكن أهم ما احتوى عليه التقرير هو الملخص الذي ورد في نهايته والذي قال فيه: (حتى ترفع، بصفة نهائية) القيود الناتجة عن الإجراءات القسرية الأحادية المفروضة على السودان حتى يطلق العنان لطاقاته البشرية الخلاقة والتي لا زال يذخر بها هذا البلد لابد أن يصبح صوته قويا وموحداً على المستوى الإقليمي والدولي حتى يستجاب لمطالبته المشروعة برفع هذه العقوبات، إذن ومن أجل تحقيق هذه الغاية لابد أن يستمر الحوار الوطني في السودان الذي جاء بمبادرة من الحكومة ولابد أن يكتمل بإشراك كل الأحزاب والحركات السودانية الفاعلة دون استثناء بإقامة حوار جدي وبناء داخل السودان وذلك على ضوء توجيهات قرار مجلس السلم والأمن الإفريقي رقم (539). هذه إذَنْ، هي النتيجة التي خلص لها المبعوث الأممي الخاص الذي زار السودان بدعوة من الحكومة في إطار سعيها لرفع العقوبات المفروضة على السودان، والنتيجة التي خلص إليها هي ذات ما ظللنا نكرره على مدى سنوات من أن أزمة السودان الخارجية هي امتداد لأزمته الداخلية وأنها لن تحل إلا إذا توحدت الجبهة الداخلية عبر مشروع وطني جديد وأن الحوار الذي يقود لمثل هذا المشروع الوطني هو الحوار الشامل الحر الذي لا يستثني أحداً ولا يستبعد قضية ولا يجزئ قضايا السودان ليتعامل مع الأجزاء بدلاً من التعامل مع الأزمة في شمولها، والجبهة الداخلية الموحدة هي مصدر القوه لأي حكومة في أي مكان في العالم. والخارج هو انعكاس للداخل وما دام الوضع الداخلي مأزوماً فإن الوضع الخارجي سيظل متأزما، وقد ظلت الحكومة على كافة مستوياتها تشكو من فرض العقوبات الأميركية وتنادي برفعها ويشاركها الكثيرون في الرأي بأن المتضرر الأول من تلك العقوبات هو الشعب وليس الحكومة ولكن رغم ذلك فإن العقوبات ستظل قائمة وسيظل رفعها رهينا بالإصلاح الداخلي والتغيير، ولكن الحكومة آثرت ألا تلقي بالاً للأصوات المنادية بالتغيير وظلت تواصل سياساتها التي أنتجت الأزمة في المكان الأول. والحديث عن الأوضاع الداخلية أثاره، أيضا، المبعوث الأممي في هذا البيان عندما أشار إلى أن الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية ربما كانت قد تأثرت بالمقاطعة، ولكنها أيضا تتأثر بأسباب داخلية لا تقع ضمن مسئوليته لكن ضمن مسؤولية الخبير الأممي الآخر الذي عهد إليه المجلس بالنظر في أوضاع حقوق الإنسان في السودان والذي سيزور السودان عما قريب، وقد أشار البيان لذلك، وقال: (لهذا السبب يحتاج التقييم الشامل للوضع في السودان إلى مسارين متوازيين يتعمقان في نظر الأسباب الداخلية والأسباب الخارجية لتقييم وضعية حقوق الإنسان من أجل استخلاص صورة كاملة للوضع في هذا البلد). وهكذا نعود لحديث (الداخل) مرة أخرى وعبر خبير أممي جديد مهمته البحث في أزمة خارجية فإذا به يجد نفسه مواجها بالعودة إلى الوضع الداخلي بحثاً عن أسباب الأزمات الخارجية. فهل ترى قراءات الحكومة هذا البيان قراءة راشدة؟