لمن يدَّعون أن الجيش عجز عن صد مسيرات مليشيات الدم السريع الإرهابية    والي الخرطوم يبحث مع نائبة المفوض السامي لشئون اللاجئين قضايا اللاجئين وخطة الولاية لترحيل الأجانب    مجلس الوزراء السعودي يُفوِّض وزير الخارجية لإنشاء مجلس تنسيق سعودي – سوداني    500 مليون جنيه من وزارة شؤون مجلس الوزراء للعلاج المجاني بالجزيرة    تقرير: السودان تحول من مرحلة أزمة العملة إلى "ما بعد العملة"    رئيس مجلس السيادة الانتقالي يزور مطار الخرطوم الدولي ويؤكد عزم الدولة على القضاء على التمرد    تحذير من تموضع حوثي عبر غطاء إيراني قرب السواحل السودانية    ترامب: نهاية حماس ستكون وحشية إن لم تفعل الصواب    3 أندية سودانية تطلب الانضمام للدوري الرواندي    إحباط تهريب مواد كيميائية وبضائع متنوعة بولاية نهر النيل    قوات الدفاع المدنى تنجح فى إنتشال رفاة جثتين قامت المليشيا المتمردة بإعدامهما والقت بهما داخل بئر بمنزل    وفاة الكاتب السوداني صاحب رواية "بيضة النعامة" رؤوف مسعد    إيران تلغي "اتفاق القاهرة" مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    وزارة الدفاع الكولومبية تعلن دعم مشروع قانون يحظر أنشطة المرتزقة في البلاد    الإتحاد الأوروبي يُدين الصراع المستمر في السودان ويراه مهدداً للمنطقة    محمد صلاح ليس وحده.. 5 أسباب وراء انهيار ليفربول    بدء عمليات حصاد السمسم بالقضارف وسط تفاؤل كبير من المزارعين    بقيادة"السافنا"..خطوة مثيرة للميليشيا في مدينة سودانية    طائرات مسيّرة تضرب منطقة مطار الخرطوم قبل ساعات من إعادة افتتاحه    ردّ ناريّ من ضابط عسكري سوداني    دولة أجنبية تحاول زعزعة منتخب السعودية    الأمل يدشن الإعداد تحت إشراف منعم تيه وأبوبكر شريف    القوز يتوج بطلاً للسوبر بعد فوزه على اتحاد الشرطة بثنائية مثيرة بأبوحمد    مليشيا محمد حلفا!!    ترامب يتوعد: سنقضي على حماس إن انتهكت اتفاق غزة    ( "لينتي" كفكفت من عيني دمعات الليالي وجدتُ نفسي غارقا في الحب عاشقاً، محباً ومُريدا).. شاهد ماذا كتب العريس أحمد العربي لزوجته لينا يعقوب في أول يوم لهما بعد نهاية حفل زواجهما الأسطوري    القضارف.. توجيه رئاسي بفك صادر الذرة    المريخ يرحب بإقامة قمة في بنغازي تكريما للجمهور السوداني    شاهد بالفيديو.. الفنانة السعودية زينة عماد: (أحييت حفل في الخرطوم حضره 5 ألف شخص وأحدهم قال لي أنك سودانية وهذا إطراء حلو)    شاهد بالصورة.. حسناء الشاشة السودانية تخطف الأضواء وتسحب البساط من الجميع في حفل زواج "أحمد ولينا"    شاهد بالصورة والفيديو.. أثناء جلسة إعلان ثياب سودانية.. مصور يشبه عارضات أزياء حسناوات بكلاب "الليدو" وإحداهن تنفجر في الضحكات وترد عليه: (قل هو الله أحد)    أسطورة ليفربول مهاجماً صلاح: يجب رميه في الدكة    مدير شرطة اقليم الأزرق يثمن جهود إدارة المباحث الجنائية المركزية بالاقليم في كشف غموض العديد من الجرائم    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط عدد( 74) جوال نحاس بعطبرة وتوقف المتورطين    أسعار الذهب إلى أين؟    بعد أدائه القسم في «الشيوخ».. ياسر جلال يستعين ب مشهد كوميدي ل «مرجان أحمد مرجان»    حسين خوجلي يكتب: التنقيب عن المدهشات في أزمنة الرتابة    وزير الخارجية المصري: ننسق مع السعودية لإنهاء الحرب في السودان بسرعة    حكومة الجزيرة تدعم مركز القلب بمدني بمولد كهربائي 550 KV    الرئيس التركي: الصراع في السودان"يؤلمنا بشدّة"    القبض على الفنانة عشة الجبل    الذهب السوداني.. لوبيات تتحكم وسلطة خانعة    محافظ بنك السودان المركزي تلتقي مديري عموم المصارف وتؤكد على الإصلاح المؤسسي واستقرار النظام المصرفي    إيقاف جميع التعاملات النقدية في ولاية سودانية    تطوّرات مثيرة في جوبا بشأن"رياك مشار"    شريف الفحيل: تهديد جمال فرفور سبب مغادرتي السودان وتقديمي اللجوء في كندا    هكذا جرت أكاذيب رئيس الوزراء!    جريمة اغتصاب "طفلة" تهز "الأبيض"    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    وزير الصحة يشارك في تدشين الإطار الإقليمي للقضاء على التهاب السحايا بحلول عام 2030    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    الاقصاء: آفة العقل السياسي السوداني    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وعْيٌ قاصرٌ لنخبةٍ حاكمةٍ عن التنوّع الديني
نشر في حريات يوم 04 - 01 - 2016


جهاد الزين
لست "أحاكم" أحداً في تركيا. ولكنْ أشير إلى الخلفية الثقافية والوعي التاريخي لفكرة التنوع كما تراها بعض نخب الحكم اليوم باعتبارها معضلة عميقة ومخيفة تطرح مدى أهلية هذه الثقافة للتعاطي مع مشرق عربي بهذا التركيب الشديد الفسيفسائية الدينية الطائفية.
الحداثةُ التركية بصفتها مشروع رهان كامل على الحضارة الغربية مثّلهُ تأسيسُ الجمهورية عام 1923 انْحَكَمَتْ بلعنة تكوينية ليست هذه الحداثة مسؤولةً عنها وحدها. هي لعنة أن شرط الولادة السياسية للجمهورية كان التصفية على أساس قومي ديني.
ليست الحداثة التركية مسؤولةً عن هذه التصفية وحدها لأنها نتجت وكان لا بد أن تنتج من صراعَيْن قوميّيَن – دينيّين بين الأتراك وكل من الأرمن واليونانيين. كان لا بد لأن الفريقين على كلٍّ من الجبهتين نظرا إلى الصراع باعتباره صراعا وجوديا على أرض واحدة، الأرمن في القوقاز والجنوب والغرب الجنوبي من الأناضول، واليونانيون في اسطنبول وتراسيا الشرقية وشمال غرب الأناضول ومركزهُ إزمير. ومعهم، خصوصا مع الأرمن، تلاشى السريان والأشوريون والكلدان "فرق عملة" كما يُقال.
بالنتيجة، وُلدت تركيا الجمهورية من دون مسيحيين تقريبا. و"التقريباً" يعني رحيل وترحيل 98 بالماية منهم فقد كان الصراع قد أصبح "إما نحن أو أنتم" بكل ما تعنيه هذه الكلمات من معنى. لذلك هذه التصفية ليست مسؤولية الأتراك وحدهم.
ما يعنينا في الحاضر وظهر بشكل خطير في العام 2015 أن تركيا الدولة التي نجحت بفضل الخيار الغربي بقيادة مصطفى كمال أتاتورك في أن تصبح الدولة المسلمة الأكثر تقدما حداثيا سياسيا واقتصاديا، هذه التركيا الجمهورية لا تعرف التنوع الديني (المنتهي مع الدولة العثمانية) وبالتالي فإن نظرتها الحداثية غير معنية بموضوع هذا التنوع وتكافح النمط التعددي الآخر الذي تبقّى، قومياً مع الأكراد ومذهبياً مع العلويين. "الجهاز العصبي" التركي للنخبة الحاكمة الجديدة لا يتفاعل مع معضلة تراجع التعدد الديني في مجتمع واحد. ولا يزال يمتنع عن الاعتراف الكامل بالتعدد القومي والمذهبي.
كانت هذه المشكلة مجرد مشكلة من التاريخ وليس الحاضر قبل عهد "حزب العدالة والتنمية". ولكن بعد أن انخرط هذا الحزب في الصراعات العربية الضخمة المجاورة الجارية صارت هذه المشكلة ملحة وعميقة وخطرة في المشرق العربي بما فيه مصر. كان العهد الأتاتوركي وخلفاؤه حتى العام 2011 متمسكين باستراتيجية إدارة الظهر لأي دور، غير الاقتصادي، في داخل العالم العربي، أي في بنية دوله وسلطاته. لكن مع التغيير الذي يقوده "العدالة والتنمية" باتت للمشكلة نتائج تتعدى مجرد المستوى السياسي.
باختصار: نحن نواجه مع تركيا رجب طيب أردوغان معضلة عدم وجود اهتمام حيال التنوع التاريخي الذي عرفناه ولا نزال جزئيا في المشرق: مسيحيين وطوائف مسلمة عديدة وجماعات من أديان أخرى.
أظن، إذا شئنا التقييم العميق للكيفية التي أخذ عبرها "حزب العدالة والتنمية" الحاكم قرار دعم أو حتى المساهمة في خلق "داعش"، يجب أن ننطلق أساسا من أن هؤلاء السياسيين الذين يصنعون قراراً كهذا ليسوا حساسين أو حتى معنيين، بعكس أهل المشرق العربي ونخبه، بموضوع التعدد الديني ووجود المسيحيين. وعلينا أن نفترض أن وَقْعَ طردِ المسيحيين والأيزيديين من الموصل عليهم ليس بالاستهوال الذي نفترضه. فهذه النخبة ليست لديها بيئة حيّة لمثل هكذا تنوع. والتنوع الذي تعرفه لم يعد عثمانيا: هو تركيا معاصرة تتجمع فيها جماعات من شعوب مسلمة فقط. الشركس والأرناؤوط والغز والشيشان والقبارصة والسوريون وووو… من هذه الجماعات المسلمة. أما الفسيفساء الدينية الهائلة التي كان يجمعها الإطار العثماني فقد ولّت مع الولايات القديمة المسلوخة العربية والبلقانية وما تبقى منها تلاشى معظمه خلال سنوات تأسيس الجمهورية بفعل تضارب مصالح وتهورات ارتكبها على ما سيصبح أرضَها كلُّ المتصارعين وليس الأتراك وحدهم كما سبقت الإشارة.
إتنولوجيا واجتماعيا وثقافيا لا تنوعَ دينيّاً في الوعي الجمهوري التركي. ولذلك فإن ما تفعله "داعش" أو أي تنظيم متطرف إسلامي آخر في تصفية تنوع عمره مئات السنين بل أربعة عشر قرنا مع الإسلام، هذه التصفية ليست بالفداحة التي نتصورها في القاهرة وبيروت ودمشق وحلب لدى صانع القرار التركي الحالي الممتلئ بشعور الدفاع عن الأكثرية المسلمة المتطابق مع المصالح الجيوسياسية لتركيا. أكثرية (سنّية) لا تجد نخبة "حزب العدالة والتنمية" ضيراً في تحويلها فجأةً إلى أقلية (تركمانية) ملتبسة خارج تركيا وبفارق كلمات قليلة في جملة تبريرية واحدة لسياسة التدخّل "الخارجي" الذي يريد أن يخبرنا بشكل غير مباشر أنه تدخّلٌ "داخلي".
لذلك ليست المسألة هي وجود نوايا أردوغانية داعشية سيئة أو عدم وجودها بل هي مسألة عدم وجود حساسية ثقافية ومشاعرية حيال النتائج الكارثيّة التي تترتب على بنية المنطقة التي تطمح الدولة التركية إلى تكريس نفوذها فيها.
ليست كل النخب التركية طبعا في هذه الحالة. فالكثير منها يدافع عن معادلة أتاتورك الشهيرة، "سلام في الداخل سلام في الخارج" ومعظم هذا الكثير بات اليوم يعارض نمط الحكم الأتاتوركي الذي يستند إلى وصاية عسكرية على الحياة السياسية حتى وهو ينتقل بفعالية لمواجهة الحكم "الرجبْ طيِّبْ أردوغاني" الذي أسس بعد إنهائه وصاية العسكر دولةً بوليسيةً مدنية قمعيةً باتت مستندة إلى شعبوية تنتقل تدريجيا من المدن وتتركّز في الأرياف.
المعضلة هي التالية: نريد الحداثة التركية كضرورة متقدمة لاختبار علاقتنا كمسلمين بالحداثة ولكن ماذا نفعل مع الوعي التنوعي الذي لدينا والمختلف عن تركيا؟
كتبت إليف شفاق الروائية التركية المقيمة بين اسطنبول ولندن مقالا في "الفايننشال تايمز" قبل أيام عن الصراع الذي دار بين البلديات التي يسيطر عليها "حزب العدالة والتنمية" وبين البلديات التي يسيطر عليها "حزب الشعب الجمهوري" حول استخدام رموز عيد الميلاد المسيحي وشخصية بابا نويل وكيف صدرت فتاوى ضد هذا الاستخدام باعتباره معاديا للإسلام حتى بلغت حد قيام مظاهرة احتجاج أمام متجر يستخدم رمزي الشجرة وبابا نويل. إلى حد درجة، كما تقول إليف شفاق، غياب هذه المظاهر في بلديات الحزب الحاكم (AKP) وحضورها في بلديات "حزب الشعب الجمهوري" (CHP).
هذا يجعلنا نتذكر حادثة "مبايعة" أبي بكر البغدادي في أحد مساجد اسطنبول في بدايات ظهور "داعش" وخلالها ما نُشِر في الصحافة التركية عن نسبة إعجاب كبيرة بين شباب "حزب العدالة والتنمية" بتجربة "داعش". وقبل فترة قليلة رفض جمهور كرة قادم حاشد عبر الصفير الوقوف دقيقة صمت حدادا على ضحايا هجمات باريس الإرهابية.
لست أحاكم أحدا في تركيا. ولكنْ أشير إلى الخلفية الثقافية والوعي التاريخي لفكرة التنوع كما تراها بعض نخب الحكم اليوم وكما لا تراها باعتبارها معضلة عميقة ومخيفة تطرح مدى أهلية هذه الثقافة للتعاطي مع مشرق عربي بهذا التركيب الشديد الفسيفسائية الدينية الطائفية.
أتابع كصحافيٍّ الشأنَ التركي بشكلٍ مباشر منذ ليس أقل من ثلاثة وعشرين عاما. إلى عشرات المقالات والرسائل السياسية وبعض الدراسات تعلّمتُ من وانجذبتُ إلى تركيا غنية جدا في تراثها الإسلامي المنفتح وتختزن قوة تصميم ناجحة على الحداثة من جيل إلى آخر وتساجل نفسها بما ينبغي أن نستفيد منه كثيرا في بلداننا العربية وانشددتُ إلى جمال وعظمة وتعقيد وضخامة وقساوة ورومنطيقية مدينة اسطنبول… لكنْ هذا العام 2015 تولّدت لديّ مشاعرُ خوفٍ على تركيا، تركيا النموذج المفتَرَض للديموقراطية والتقدّم الاقتصادي الحقيقي. بمعنى ما، يتولّد انطباع لدى كثيرين هذا العام أن تركيا الاستراتيجية والسياسية والاجتماعية تعود لتتكثَّف في مسألة واحدة "ثقافية".
تركيا إذن، في لحظة مآلها وليس تطورها الحالي، تواجه أزمة ثقافة قاصرة عن استيعاب صورة ديموقراطية وحداثية للتنوع، تتجلّى في تجديد لا سابق له للحرب مع أكراد الداخل وعجز جدي عن تجديد فقهي ودستوري لاستيعاب علويي الداخل وآثار كارثية من التورط في نمط سياسات تدعم القوى الاستئصالية لتنوُّعِ منطقتنا. ولذلك نحن نواجه في المشرق العربي معضلة هذا القصور التركي بل خطره.
نريد الحداثة التركية بل نحتاجها حتما ولكنها اليوم حداثة مريضة بطموحات شخص وقصور نخبة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.