بدأت علاقتنا مشتعلة كما هو متوقع.. فقد دعيت فى زمن قديم لأشارك فى برنامج الاتجاه المعاكس بقناة الجزيرة قبل أن تنهار فى هاوية العداء لمصر، والحوار مع حسن الترابي. وبرغم أن الحوار مع رجل كهذا كان بالنسبة لى فرصة للاشتباك فلم أسافر وجرى بيننا على الهواء هو فى الدوحة وأنا فى القاهرة، واشتبكنا اشتباكا حادا أشعلته ناران نار سودانية فبعد الإعلان المبكر على غير المعتاد عن هذا الاشتباك انهالت علىّ مكالمات من رفاق سودانيين من بقاع مختلفة ليس السودان من بينها فقد كان البطش هناك طائشا وكل منها يهدينى تشجيعا ومعلومات وأسماء وبيانات وجرائم يرتكبها النظام السودانى آنذاك حيث كان الترابى المهندس الأساسى لمسيرة النظام وللانقلاب الذى أتى به، وبالمقابل "وكما أبلغنى د. حسن الترابى فيما بعد" اتصل به صديقى العزيز الذى لا أنسى صداقته مهما كان اختلافنا وخلافنا المرحوم عادل حسين الذى حذره بشدة من "طول لساني" ومن استخدامى مفردات مثل التأسلم والإرهاب المتأسلم والإرهاب يبدأ فكرا، واتصل القاسم صاحب البرنامج راجيا ألا أستخدم هذه المفردات ورفضت وبعد إلحاح قلت له يتوقف على مجرى الحوار. وبدأنا فإذا بالدكتور الترابى يأتى عاصفا مزودا بتاريخى السياسى فى الحزب الشيوعى وبسجنى فى زمن عبدالناصر كدليل على وطنيتى وكان ردى عاصفا وحاول القاسم الانحياز للترابى ليحميه فظل يقاطعنى فصحت به بينى وبينك هذا الميكروفون ونزعته من الجاكت فإما أن تصمت وإما سألقى بالميكروفون فى وجهكما وعند هذا ظهر الترابى مبتسما وقال عبارة غريبة "نختلف ولكن ليس لهذا الحد" فعاتبته على عبارة قالها عندما عددت له بالأسماء والوقائع عمليات اغتيال لطلاب جامعة الخرطوم الذين أضربوا عن الدراسة فى ذلك الزمان فأعرض بوجهه بحركة مسرحية وقال "وأعرض عن الجاهلين.. صدق الله العظيم" وردد هذه حيلة الديكتاتور المستبد العاجز عن الدفاع عما يفعل، وبعد "ليس إلى هذا الحد" والعتاب من جانبى لنبدأ بمناقشة فكرة بعيدة عن الوقائع اليومية فلعلها مليئة بالأخطاء فلماذا لا نناقش رأيك فى قيام حكومة تعلى شرع الله، ولماذا تعارضها هل بسبب انتمائك الأيديولوجى أم هو اعتراض مبدئي. وقلت رأيى وأجابنى ببرود من شعر بألا جدوى للحوار مهما استطال، وما أن انتهى وقت البرنامج حتى لحقنى بمكالمة تليفونية قال فيها أشياء غريبة فقد تبدى مندهشا من أننا نحن الاثنان مثقفان عصريان وكلانا درس فى أوروبا هو فى لندن ثم باريس وأنا فى ألمانيا، وكلانا يسعى لفهم حقائق العلاقة بين الإسلام والمجتمع ونحن الاثنان على طرفى نقيض، فلماذا لا تزورنى فى الخرطوم ونجلس معا نعصف البعض بما نعرف فانفجرت ضاحكا وسألنى فأجبت لقد كتبت فيكم مقالا أزعجكم وكان عنوانه "هذا الجراد المرتدى زيا عسكريا" فقال قرأته ولهذا أدعوك لترى بنفسك، وأعترف لك مقدما أننا ارتكبنا ونرتكب أخطاء أنا لا أرضى عنها فقلت ومن يدريك أن أحدا ينتقم منى من ظهرك؟ فكان الدور عليه كى يضحك ولكن ضحكة صارخة كضحكتي، ثم قال دعها للظروف فزيارتى للقاهرة ليست يسيرة فى هذه الأيام. .. ومضت أيام واختلف الترابى مع شركائه فى الحكم وأدخلوه السجن وأفرجوا عنه وظل معارضا لكن الأهم أنه ظل مفكرا، يسعى نحو التلاؤم شبه المستحيل بين حكم يرتدى ثيابا دينية وبين ديمقراطية وعدل. ومضت سنوات حتى زارنى سودانى من رجاله وأعطانى مظروفا به كتاب للترابي.. كنا فى بداية 2004 والعلاقات مع الترابى من الجانب المصرى لا بأس بها لكنه لم يأت، تأملت العنوان "السياسة والحكم.. النظم السلطانية بين الأصول وسنن الواقع" وكعادتى قرأت ما هو مكتوب على ظهر الغلاف وقرأت "يجدد الدكتور حسن الترابى مفهوم السلطان ويصله بالناس والشورى والمجتمع مصدر الإجماع والسلطة فى الإسلام، ومهما انحرف التاريخ بالمصطلح إذ استبد الفرد دون الشعب أو أخذ السلطة بالوراثة أو غصبها بالقوة أو بالانقلاب، فإن بناء أنظومة الحكم الإسلامى لا يكون إلا بالحرية الأتم والشورى الأوسع والعقد الاجتماعى المؤسس على الرضا والاختيار" ونحيت الغلاف لأبدأ فى مطالعة الكتاب فأدهشنى الأهداء الذى جعلنى أتمنى أن ننفذ حلمنا القديم بأن نجلس جلسات طوال منفردين ليعصف كل منا الآخر بأفكاره.. أما الإهداء فهو.. الأستاذ الدكتور رفعت السعيد العقل المشتعل تحررا وتساؤلا.. سعيا أن يسود العدل.. العدل كل هذا الكون عزيزى حسن الترابي.. ألهبت الهموم والاهتمامات ظهورنا وغمرتنا الأحداث بطوفانها ونسينا أن نحقق حلمنا باللقاء ونسيت أنا أن أشكرك على هذا الإهداء الملهم، لقد استهلكتنا أحلامنا، فهل تقبل الآن شكرى لك واعتذارى على تعسفى فى الحوار معك. الاهالي