الكاتبة : جميلة حسين بعيداً عن الصراع التاريخي والمقولات المتجذرة في الوعي منذ فجر الخليقة حول من كان به البدء: المذكر أم المؤنّث، تغرّد خالدة سعيد خارج السّرب النسوي، والأنا الذكورية لتؤكّد فعل الشراكة والتكامل بين النقيض والنقيض، الرجل والمرأة، لتصرخ بصوتها الضعيف الذي يهدر في آذان سامعيها خشوعاً لامرأة حسمت الصراع حول جدلية البدء، وأوّلية الخلق، فلا المذكر هو المبتدأ ولا المؤنّث هو الأصل، حسب تعبير “يسرى المقدم” (جريدة السفير) مستشهدة بالنص القرآني: “إنّا خلقناكم من نفسٍ واحدة”، لتؤكّد على حضور الإثنين معاً، بلا أفضلية لأحدهما على الآخر. من هنا جاء عنوان كتابها الأخير: “في البدء كان المثنّى” الصادر عن دار السّاقي 2009. وبذلك تُسقط صاحبة “حركيّة الإبداع”، مقولة أن حوّاء من ضلع آدم، وأنها أصل البلاء في سقوطه من جنّته، فلا التفاحة هي الإغراء ولا الأفعى هي الغواية حسب المقولات الغيبية. وبالرّغم من تّأكيد الكاتبة على بَدء المثنّى، إلاّ أنها تسلّط الضوء في كتابها على نساءٍ ألمعيّات تركن بصمات مضيئة في مجال الخلق والابداع، وهنّ حسب ورودهنّ في الكتاب: “لور مغيزل، سنيّة صالح، فدوى طوقان، فاطمة المرنيسي، منى السعودي، ناديا التويني، مي غصوب، سلوى روضة شقير، روز غريّب، ليانة بدر، سعاد الحكيم، أسيمة درويش، أنجليكا فون شويدس، وقصاب باشي”. دعّمت سعيد كتابها بمقدّمة طويلة عن رجلٍ نهضوي ساند المرأة ونادى بتحريرها، وشكّلت كتاباته مرجعاً في عصر النهضة ولا زالت، هو قاسم أمين صاحب رائعتي: “تحرير المرأة”، و”المرأة الجديدة،” اللتين أثارتا جدالاً واسعاً في الشّارع العربي في بداية القرن . قاسم أمين الذي رأى “انّ التّلازم واضح بين انحطاط المرأة وانحطاط الأمّة وتوحشها، وبين ارتقاء المرأة وتقدم الأمّة ومدنيّتها” يقول: “لستُ مبالغاً إن قلتُ أن ما أقامه التّمدّن الحديث من البناء الشّامخ وما وضعه من الأصول الثابتة، إنّما شُيّدَ على حجرٍ أساس واحد هو المرأة “. فقد أدرك، وهو المصلح الاجتماعي والباحث العالِم، أن لا تحرّر لمجتمع ما لم تتحرّر المرأة فيه” (تحرير المرأة). وبهذا نجد أنفسنا مع خالدة سعيد أمام ورشة نقديّة عميقة بعيدة عن النزعة النسوية التي تقابل عنصريّة الذكورة بعنصريّة أنثوية لا تؤدّي إلى حلول مرتجاة، بل تزيد الشّرخ بين الجنسين. ولطالما صرّحت سعيد بأنها ليستُ ضد الذكورة ولا تخوض صراع الانوثة بشكل عصبيّ ضدّ الرجال. فهي مع تصحيح المفاهيم التي تظلم النّساء، ومع العمل على أخذ المرأة دورها الطبيعي والطليعي، وترى كما قاسم أمين أن لا تحرّر للمرأة بمنأى عن تحرّر الرجل من موروثاته… لنصل الى تحرّر الانسان. لذلك تسلّط الدراسة الضوء على تحكّم المذكر بالمؤنث وإلغائه، عبر سياق زمني تاريخي ترسّخ في الوعي المجتمعي عبر أحاديث منسوبة الى الرسول العربي، أو نصوص دينية فهمت بشكلٍ يتناسب وقياس بعض رجال الدين والمثقفين أمثالهم، حيث يُتلَى النّص مجتزءاً بالقول: “إنّ الرجال قوّامون على النساء”، ويُسقطون منه بما أنفقوا… وإذا كانت المرأة هي المنفقة، فلمن تكون القوامة؟ سؤال برسم رجال الدين والنصوص الثابتة الممنوع مسّها. لذلك ترسّخت صورة المرأة الدونية منذ العصر التوراتي، ما أدّى مع مرور الزّمن إلى التسليم الانثوي السائد للسلطة الذكورية والاقرار بأن للرجل حقوقاً ليست لها، وبأن قدراته تضاعف قدراتها، وبات الخطاب النسوي سجين ذهنية الرجال أنفسهم وأصبحت المرأة صوت بغيره لا بذاته كما تقول الكاتبة، فهي بالتالي إبنة فلان وزوجة فلان والخ. خالدة سعيد طرقت موضوعاً شغلَ الخليقة منذ بدئها، بقلم أخّاذٍ ونظرة نقدية موضوعية، وهي الناقدة المتفردة في عالم النقاد والتي رافقت انطلاقة الحداثة الشعرية منذ “مجلّة شعر”، بما تملكه من قدرة على نقد قصيدة واحدة من عدّة أسطر بصفحات طويلة، وبذلك تشارك الشاعر خلقه، لا بل تزيده، وتضعنا أمام نص أروع من النص الأصلي نفسه. فصاحبة “في البدء كان المثنى” لا تصف دواءً جاهزاً لانطلاقة المرأة وتحررها، بل تؤسس لطريق شاقٍ وطويل يتطلب جهداً ووعياً يقوم على زرع وعي المرأة، بالتعليم والابداع ومراكمة المعارف، والكتابة، والحفر الدؤوب في الذهنيّة النسوية والذكورية معاً لنصلَ إلى نتيجة مرجوّة، ولو بطيئة، لكنها أشدّ وضوحاً وأعمق أثراً. ولا يغيب عن كتاب “خالدة سعيد” موقفها الناقد للأحزاب السياسية وحتى الثورية منها التي حملت لواء التغيير وتحرير الانسانية، لكنها عندما وصلت الى السلطة ونعمت بالنصر قالت للمرأة: هيّا عودي إلى المطبخ أو إلى أقرب سرير، فكانت أكثر تخلفاً ورجعية ممن سبقوها، وبذلك تؤكد أن الرجل المثقف والمؤدلج لم يتخلص في أعماقه من النظرة الدونية للمرأة، لأن تربيته المنحازة لجنسه لم تخلصه من عِقد المذكر بالرغم من تحرره قولا ومشافهة وادعاءً… فبقيت الممارسة بعيدة جداً عن النظرية. تدعو “خالدة سعيد” المرأة إلى بناء مشروعها الواضح الذي يحتاج الى تراكم زمني وكمّي من العمل والنضج، ليتم تأسيس عالم يقوم على التكافؤ والتكامل بين المثنّى أصل البشرية. ونخرج بنتيجة وتساؤل: هل ستقدر المرأة على قلب الموازين لصالحها بالفكر والبحث والتعبير الجريء والصريح، و هل ستتحرر النساء بمعزل عن وعي عميق للمذكر نفسه، وهل ننتقل من امرأة كائن بغيره إلى كائن بذاته؟ والى تكريس الآية القرآنية: انّ خلقناكم من نفس واحدة امرأة ورجل؟ عندها يكون التغيير، والقرارالذي لم يعد حكراً على الرجل وحده.