تقود القوى السياسية والمدنية العلمانية التونسية جهودا مشتركة لإجهاض جهود حركة النهضة ل"ابتزاز" مبادرة الرئيس الباجي قائدالسبسي بتشكيل حكومة وحدة وطنية بشكل يعزز نفوذها وتموقعها في الحكومة القادمة. وتأتي تحركات القوى العلمانية وسط أنباء تفيد بأن رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي الذي "انقلب" على الحبيب الصيد، يدفع باتجاه تركيبة "محاصصة حزبية" يتقاسم فيها النداء والنهضة عدد حقائب وزارية بنسبة 70 بالمائة. وجاءت جهود علمانيي تونس في وقت تتذمر فيه الأحزاب السياسية سواء منها المؤتلفة في الحكومة الواقفة على مشارف "الإقالة" الدستورية أو المعارضة، من "ضغوط" يقودها الغنوشي حاليا في داخل تونس وفي خارجها على الرئيس الباجي من أجل "إنتزاع" أكثر ما يمكن من تموقع النهضة ضمن تركيبة الحكومة المرتقبة بما يروج لصورتها السياسية الملفوفة بجلبابها العقائدي. وفيما بدا الغنوشي وكأنه يحاول من خلال تحركات سياسية مثيرة للجدل والمخاوف من تصاعد نسق قيام الحركة الإسلامية ب"تضييق الخناق" على صلاحيات قائدالسبسي، سارع العلمانيون إلى حشد جهودهم وإلى التحذير من مغبة الانزلاق في أي شكل من أشكال ارتهان قرار قائد السبسي لضغوط الغنوشي. وإزاء مخاطر جهود الغنوشي المسكون بالخوف من شراسة عداء العلمانيين للنهضة، حشدت الجبهة الشعبية الأربعاء أبرز القوى السياسية الديمقراطية وفي مقدمتها حزب المسار الاجتماعي والحزب الجمهوري وحركة الشعب وميثاق اتحاد القوى الوطنية التقدمية في اجتماع ساخن هو الأول من نوعه حذرت خلاله من مواصلة انتهاج "أسلوب المحاصصة الحزبية". ويقول حمة الهمامي الناطق باسم الجبهة الشعبية إن الاجتماع "جاء تتويجا لمشاورات موسعة مع مكونات المعارضة الديمقراطية التقدمية"، مشددا على أن "مختلف القوى أجمعت على أن أزمة تونس مردها اختيارات الائتلاف الحاكم المرتهنة للمحاصصة الحزبية على حساب مشاركة القوى الديمقراطية". وترافقت جهود علمانيو تونس مع تقارير صحيفة تونسية نقلا عن دوائر سياسية مطلعة قالت إن كل من الغنوشي وقائدالسبسي توصلا إلى "اتفاق" سياسي يقضي ب"اقتسام تركيبة حكومة الوحدة الوطنية بين النداء والنهضة بنسبة 70 بالمائة بينهما في حين "تكرما" بنسبة ال30 بالمائة الباقية على اتحاد الشغل ومنظمة أرباب العمل وعدد من الأحزاب الصغرى التي لا وزن لها. وتشدد القوى العلمانية السياسية المعارضة على رفضها لمساعي "الشيخين" حشرها في "الزاوية"، وتجريدها من "دورها الوطني"، ساعية بكلّ شراسة إلى إجهاض تركيبة حكومة محاصصة حزبية تعيد تونس إلى المربع الأول من خلال توحيد موقفها وتشخيص الواقع السياسي وإعطاء الأولوية للحوار حول البرامج لا إلى الحرب على التوزيع الغنائمي للحقائب الوزارية. ويقول حمة الهمامي في تعليق على جهود الغنوشي الهادفة إلى "ابتزاز" المبادرة إن الأحزاب التقدمية الديمقراطية تجمع على أن تونس اليوم في أمسّ الحاجة إلى "حوار حقيقي غير مغشوش حول أزمة الحكم وصياغة برامج بعيدا عن الحسابات واستهداف القوى التقدمية والاتفاقات التي تحاك من الخلف". غير أن النهضة لا تتردد في الرد على العلمانيين واصفة إياهم ب"الاجتثاثيين". وترى القوى التقدمية الديمقراطية "ضرورة توسيع التشاور مع القوى المدنية بشان البرامج والاختيارات التنموية والسياسية" ملاحظا أنه "يمكن بعد ذلك النقاش حول آليات الحكم" مع "القطع مع أساليب المحاصصة الحزبية". والأربعاء، أعربت حركة مشروع تونس التي أسسها ويقودها محسن مرزوق لإجهاض الإسلام السياسي عن استعدادها المبدئي للتفاعل مع المبادرة على أن تكون تركيبة الحكومة بمنأى عن المحاصصة الحزبية التي تقف وراء "الأزمة السياسية في ظل غياب برنامج وتجديد منهجي للعمل الحكومي". وتحذر الحركة مما أسمته "الشخصنة ومحاولات إحداث مجرد تغييرات شكلية في الولاءات داخل تركيبة الحكومة وتوزيع الحقائب الوزارية" في موقف يرفض مطلقا تركيز تركيبة الحكومة بناء على جهود راشد الغنوشي. وفي أعقاب إعلان المساندة التقى الخميس مرزوق بالسفير الأميركي بتونس دانيال روبنشتاين بمقر الحزب وتدارسا الوضع العام بالبلاد سياسيا واقتصاديا وتنمويا، بالإضافة إلى الوضع الإقليمي في بادرة تحمل أكثر من رسالة. وعلى الرغم من امتناع كل من مرزوق وروبنشتاين عن تقديم أية إيضاحات بشأن خلفيات اللقاء في هذا التوقيت بالذات إلا أن سياسيين رأوا في اللقاء رسالة من أحد أبرز المقربين من الإدارة الأميركية المعادي للإخوان رسالة واضحة لواشنطن، بان الحزب لا يؤمن بنجاح ترويض النهضة على النشاط السياسي المدني ويرفض دعمها لها، ولن يتردد في قطع الطريق أمام نجاح جهود الغنوشي المراهنة على الدعم الإقليمي وفي مقدمته دعم الجزائر. ويجاهر علمانيو تونس بان عزمهم على إجهاض جهود "الشيخ" الإخواني لا يقتصر على "اتفاقه" مع قائدالسبسي بل يشمل أيضا دعم أطراف خارجية له سواء بصفة غير مباشرة وغير معلنة مثل تركيا أردوغان أو بصفة مباشرة ومعلنة وفي مقدمتها دعم الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة الذي حشر أنفه في الشأن التونسي، مستفيدا من علاقته الوثيقة مع الغنوشي. ويتهم العلمانيون الغنوشي بأنه يستمد "استقواءه" عليهم وعلى قائدالسبسي من دعم بوتفليقة الذي بات يتكرم عليه لا فقط بنصائح بشأن كيفية إدارة شؤون النهضة بما يعزز حظوظها في الحكم، بل أيضا بتوجيهات في كيفية تعاطيه مع الشأن العام بتونس. ويرى العلمانيون أن الغنوشي لم يعتبر كثيرا من فشل تجربة الإخوان في المنطقة العربية في ظل "إعجابه بسياسة الرئيس التركي رجب اردوغان التي لا تعني التونسيين في شيء لا سياسيا ولا تنمويا ولا ثقافيا". وخلال السنوات الأخيرة تكثفت زيارات الغنوشي إلى الجزائر ولقاءاته بالرئيس بوتفليقة تحت غطاء عناوين لا تخلو من التساؤلات في ظل حديث سياسيين بأن "الملف التونسي" بات سياسيا وأمنيا بين يدي الجزائر. ويتندر علمانيو تونس معلقين على العلاقة القوية بين الغنوشي وبوتفليقة، بأن كلّ منهما يعد "مستشارا أمينا للآخر" إذ في الوقت الذي يراهن فيه رئيس النهضة على دعم الرئيس العليل الذي "استأمن الإخوان" على الحكم يراهن بوتفليقة على "ثقته" في الغنوشي وعلى علاقاته مع إخوان ليبيا بجميع فصائلهم لتخفيف الضغط على نظام حكمه الذي يبدو أنه دخل مرحلة الموت السريري. غير أن خبراء أمنيين وعسكريين يقللون من نجاح دعم بوتفليقة "الصورة" للغنوشي، في ظل جهود العلمانيين الذين يرون في تجربة الجزائر الدموية خطرا على المسار الانتقالي الديمقراطي بتونس المتسامحة، مشددين على أن بوتفليقة لا يعدو سوى واجهة لحكم يديره جنرالات كبار متنفذين في مؤسسات الدولة وأجهزتها، سلاحهم الفتاك "عقيدة عسكرية معادية للإخوان". ووفق دوائر مقربة من النهضة ومن قرطاج على حد سواء يحاول الغنوشي مقايضة قائدالسبسي السماح له بتعيين أحد قياديي النداء رئيسا لحكومة الوحدة الوطنية بتمكين الحركة من 35 بالمائة من الحقائب الوزارية ضمن تركيبتها وفي مقدمتها حقائب سيادية مثل وزارة العدل والداخلية، إضافة إلى وزارات أخرى هامة تضع النهضة عينها عليها مثل وزارة التعاون الدولي. وتضيف نفس الدوائر أن الغنوشي لم يجاهر برفضه إشراك اتحاد الشغل غير أنه يبدي رفضا مبطنا لاستبعاده من تركيبة الحكومة أو إسناده حقيبة وزارية واحدة في أقصى الحالات في حال موافقته باعتباره "عدوا للنهضة"، محاولا إقناع قائدالسبسي بأن الاتحاد هو من يقف وراء تأجيج الاحتجاجات والدفع بتونس باتجاه المزيد من الاحتقان السياسي والاجتماعي والفوضى. وبالمقابل، لا يمانع الغنوشي في إشراك عدد من الأحزاب الصغرى لكونها لن تمثل أي عائق أمام تقاسم النهضة والنداء تركيبة الحكومة على ألا تتجاوز عدد الحقائب الوزارية التي يمكن أن يتقلدها خصمها حزب آفاق تونس حقيقبتين مع شرط إقالة زعيمه ياسين إبراهيم من وزارة الاستثمار والتعاون الدولي. ويبدي آفاق تونس مخاوف جدية من رضوخ الرئيس الباجي لطالب لغنوشي الذي يدفع باتجاه حكومة أغلبية برلمانية تتناقض تماما مع مفهوم وتركيبة حكومة الوحدة الوطنية وهو ما يعني سياسيا أن تهميش الحزب المعادي للنهضة في ظل تصدر الكتلة الانتخابية للحركة الإسلامية لقائمات الكتل البرلمانية ب69 نائبا تليها كتلة النداء ب61 نائبا الأمر الذي يضمن الأغلبية البرلمانية للحزبين المتحالفين بنسبة 59.90 بالمائة ليشكلا معا 130 نائبا من أصل 217 نائبا بالبرلمان ما يضمن لهما نيل ثقة الحكومة المرتقبة. ويبدو أن إصرار الرئيس التونسي على حضور اتحاد الشغل في اجتماع اشرف عليه بنفسه الخميس بقصر قرطاج بحضور ممثلي أحزاب الائتلاف الحاكم وفسح المجال أمامه لتشخيص واقع البلاد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وتحديد أولويات الحكومة المرتقبة بكل جرأة، هي رسالة تم توجيهها إلى الغنوشي بأن الاتحاد يحظى بثقل وبمصداقية أكثر من النهضة نفسها في المشهد العام. ولم يتردد قائدالسبسي خلال الاجتماع في التشديد على أنه متمسك بفكرة أن نجاح مبادرته مرتبط بمدى إسناد اتحاد الشغل لتركيبتها، وهو تأكيد رأى فيه رئيس الحركة الإسلامية صكا على بياض لأقوى قوة مدنية في المجتمع. وفي أعقاب الاجتماع أعلن سفيان طوبال رئيس كتلة النداء بالبرلمان أن مبادرة الرئيس التونسي موجهة بالأساس إلى اتحاد الشغل دون سواه، الأمر الذي يبدو أنه "أسقط" جهود الغنوشي في مستنقع من التعقيدات السياسية داخل النهضة وخارجها خاصة وأن طوبال أعلن عن تكوين لجنة بمشاركة الاتحاد، تتولى متابعة آليات تركيز تركيبة حكومة الوحدة الوطنية. ويبدو أن راشد الغنوشي الحالم ب"الإسلام الديمقراطي" لم يع بعد بما يكفي أن جهوده لن تقوده سوى إلى مزيد إطلاق النار على خطواته على طريقة "مثله الأعلى" رجب أردوغان إذ لم يستوعب بعد التحولات الجيوسياسية بشأن حسم القوى الإقليمية والدولية في وضع حد لرهانها على السلام السياسي. ويقول سياسيون مقربون من النهضة إن جهود العلمانيين تستهدف شخص "الشيخ" باعتبار ثقله السياسي وتنوع علاقاته مع شخصيات سياسية عربية وأجنبية وهو الأكثر مؤهلات لقيادة الحركة خلال السنوات الأربع القادمة. غير أن علمانيي تونس يشككون في مصداقية راشد الغنوشي وهم يرجعون جهودهم لإجهاض مساعيه ل"ابتزاز" حكومة الوحدة الوطنية إلى أن "الشيخ" الذي يحذق جيدا شتى أشكال المناورات، يستميت في اجتثاث أي دور لهم في المشهد السياسي، مستفيدا من بقايا أنظمة هزيلة داعمة للإخوان تستخدمهم حطبا لنفخ المزيد من النار في هشيم المنطقة العربية.