حكومة أبو نوبة.. ولادة قاتلة ومسمار آخر في نعش "تأسيس"    نص خطاب رئيس مجلس الوزراء "كامل ادريس" للأمة السودانية    السفير عدوي يشيد بدراسة إنشاء منطقة لوجستية على الحدود السودانية    الاهلي المصري نمر من ورق    الجمعية العمومية الانتخابية لنادي الرابطة كوستي    السجن والغرامة على متعاون مع القوات المتمردة بالأبيض    ميسي يقود إنتر ميامي لقلب الطاولة على بورتو والفوز بهدفين لهدف    "حكومة الأمل المدنية" رئيس الوزراء يحدد ملامح حكومة الأمل المدنية المرتقبة    الفوز بهدفين.. ميسي يقود إنتر ميامي لقلب الطاولة على بورتو    الهلال السعودي يتعادل مع ريال مدريد في كأس العالم للأندية    "الأمة القومي": كامل ادريس امتداد لانقلاب 25 أكتوبر    لما سقطت طهران... صرخت بورسودان وأبواقها    6 دول في الجنوب الأفريقي تخرج من قائمة بؤر الجوع العالمية    فقدان عشرات المهاجرين السودانيين في عرض البحر الأبيض المتوسط    عودة الخبراء الأتراك إلى بورتسودان لتشغيل طائرات "أنقرة" المسيّرة    الحكم بسجن مرتكبي جريمة شنق فينيسيوس    30أم 45 دقيقة.. ما المدة المثالية للمشي يومياً؟    الإدارة العامة للمباحث الجنائية المركزية تتمكن من ضبط منزل لتزييف العملات ومخازن لتخزين منهوبات المواطنين    هل سمعت عن مباراة كرة قدم انتهت نتيجتها ب 149 هدفاً مقابل لا شيء؟    لماذا ارتفعت أسعار النفط بعد المواجهة بين إيران وإسرائيل؟    بين 9 دول نووية.. من يملك السلاح الأقوى في العالم؟    وزارة الصحة تتسلّم (3) ملايين جرعة من لقاح الكوليرا    "أنت ما تتناوله"، ما الأشياء التي يجب تناولها أو تجنبها لصحة الأمعاء؟    تقرير رسمي حديث للسودان بشأن الحرب    يوفنتوس يفوز على العين بخماسية في كأس العالم للأندية    نظرية "بيتزا البنتاغون" تفضح الضربة الإسرائيلية لإيران    السودان والحرب    عملية اختطاف خطيرة في السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية فائقة الجمال تبهر المتابعين وتخطف الأنظار بتفاعلها مع "عابرة" ملك الطمبور ود النصري    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل زفاف بالقاهرة.. العازف عوض أحمودي يدخل في وصلة رقص هستيرية مع الفنانة هدى عربي على أنغام (ضرب السلاح)    شاهد بالصورة والفيديو.. مطربة أثيوبية تشعل حفل غنائي في أديس أبابا بأغنية الفنانة السودانية منال البدري (راجل التهريب) والجمهور يتساءل: (ليه أغانينا لمن يغنوها الحبش بتطلع رائعة كدة؟)    هل هناك احتمال لحدوث تسرب إشعاع نووي في مصر حال قصف ديمونة؟    ماذا يفعل كبت الدموع بالرجال؟    الإدارة العامة للمباحث الجنائية المركزية تتمكن من الإيقاع بشبكة إجرامية تخصصت فى نهب مصانع العطور بمعاونة المليشيا المتمردة    9 دول نووية بالعالم.. من يملك السلاح الأقوى؟    الصحفية والشاعرة داليا الياس: (عندي حاجز نفسي مع صبغة الشعر عند الرجال!! ولو بقيت منقطها وأرهب من الرهابة ذاتا مابتخش راسي ده!!)    كيم كارداشيان تنتقد "قسوة" إدارة الهجرة الأمريكية    "دم على نهد".. مسلسل جريء يواجه شبح المنع قبل عرضه    التهديد بإغلاق مضيق هرمز يضع الاقتصاد العالمي على "حافة الهاوية"    السلطات السودانية تضع النهاية لمسلسل منزل الكمير    المباحث الجنائية المركزية ولاية الجزيرة تنفذ حملة أمنية كبري بالسوق العمومي وتضبط معتادي إجرام    مباحث شرطة الولاية الشمالية تتمكن من إماطة اللثام عن جريمة قتل غامضة وتوقف المتورطين    المملكة تستعرض إستراتيجية الأمن الغذائي لدول مجلس التعاون الخليجي    خسائر ضخمة ل"غانا"..تقرير خطير يكشف المثير    نقل أسلحة إسرائيلية ومسيرات أوكرانية الى افريقيا بمساعدة دولة عربية    والي الخرطوم يصدر عدداً من الموجهات التنظيمية والادارية لمحاربة السكن العشوائي    أدوية يجب تجنب تناولها مع القهوة    (يمكن نتلاقى ويمكن لا)    بالصورة.."أتمنى لها حياة سعيدة".. الفنان مأمون سوار الدهب يفاجئ الجميع ويعلن إنفصاله رسمياً عن زوجته الحسناء ويكشف الحقائق كاملة: (زي ما كل الناس عارفه الطلاق ما بقع على"الحامل")    السودان..خطوة جديدة بشأن السفر    3 آلاف و820 شخصا"..حريق في مبنى بدبي والسلطات توضّح    معلومات جديدة عن الناجي الوحيد من طائرة الهند المنكوبة.. مكان مقعده ينقذه من الموت    إنهاء معاناة حي شهير في أمدرمان    رؤيا الحكيم غير ملزمة للجيش والشعب السوداني    شاهد بالفيديو.. داعية سوداني شهير يثير ضجة إسفيرية غير مسبوقة: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وأوصاني بدعوة الجيش والدعم السريع للتفاوض)    أثار محمد هاشم الحكيم عاصفة لم يكن بحاجة إلي آثارها الإرتدادية علي مصداقيته الكلامية والوجدانية    ما هي محظورات الحج للنساء؟    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



(أسلمة) الفنون في التجربة السودانية : منظور ثقافي جمالي 3 – 3
نشر في حريات يوم 23 - 06 - 2016


فشل المشروع الإسلاموي
كان مبدأ الكسب السياسي هو الموجه، في الواقع، لمشروع الحركة الإسلامية الخاص بالفن والثقافة منذ البداية. أصبحت السلطة التنفيذية في حالة من تجريب تائه دون وجهة وذلك في غياب أي تجربة تاريخية سابقة أو نموذج إسلامي ناجح من الممكن إستلهامه، أو حتى نظرية فنية "إسلامية" يمكن الإهتداء بها. هذا إلى جانب الإخفاقات السياسية والعسكرية والإقتصادية التي فاقمت من الوضع القائم.
عند النظر في الخطاب الإسلاموي نفسه والمحاولة النظرية والعملية لخلق ما أسماه الخطاب بالفن الديني، نجد أن هناك أمران لا بد من الأخذ بهما في أي مقاربة للفن غائبان تماماً عن إدراك الحركة الإسلامية وسلطتها الحاكمة. أولهما تعدد وظائف الفن وإرتباطه العضوي بحياة الإنسان في جوانبها المادية والفكرية والروحية، وثانيهما الأسس الإجتماعية والثقافية والحقائق التاريخية التي تؤدي في مجملها إلي نشأة وتطورأنواع الفنون التي تمارسها الشعوب. وعلى الرغم من وعي الترابي بالأسس الإجتماعية والثقافية للفن إلى حد أن مشروعه لأسلمة الفن جاء مشروطاً بخلق رموز إسلامية ثقافية جديدة وتبديل البنيات الإجتماعية القديمة "غير الإسلامية" بأخرى جديدة مؤسسة على "مبادئ إسلامية" لكن يبدو هناك إعتقاداً ساذجاً بأن هذه الأسس الثقافية التاريخية والبنيات الإجتماعية يمكن التحكم فيها وإعادة تشكيلها بهذه البساطة. وحتى محاولات الترابي من حين لآخر للتوصل إلى نوع من المصالحة بين منظورواقعي "حداثي" وآخرأصولي سلفي تبدو حذلقة لغوية أكثر منها مقصداً حقيقياً يؤمن به وبتحقيقه، ذلك، لأن مشروعه هذا لم ولن ينفك من إسار مبادئ أصولية سلفية حول الثقافة والفن. من ناحية أخرى، يعكس مثل هذا الجهل والإستخفاف بحقائق الواقع في خطاب الترابي، والخطاب الإسلاموي عامةً، حالة مزرية من التبجح والترفّع المعرفي epistemological arroganceبتجاهله لهذا القدر الهائل من المعرفة حول الفن والذي راكمته العلوم الإجتماعية والإنسانية وعلى رأسها علميْ الإستطيقا وتاريخ الفن، بما في ذلك تاريخ الفن الإسلامي، ومثل هذه الحالة تعد مؤشراً لا يخطئ على إجتماع صفتي الجهل والغرور في من يتصدى لقضايا الفكر والتنظير في حقل معرفي ليس من تخصصه. وبغض النظر عن أحكام الترابي على الفن مثل وصفه له بأنه "أشد فتنة" يلهي عن العبادة وأنه "غير منضبط"…إلخ، يظل فهمه لطبيعة ووظيفة الفن في حدود "صناعة الجمال" فقط فهماً قاصراً ومنسجماً مع الفكر الإسلامي التقليدي والأصولي حول الفن والجمال، ذلك أن مفهوم الجمال كقيمة ووظيفة وحيدة للفن ما زال هو المفهوم الأساسي في هذا الفكر. فالترابي، ببساطة، يختزل مجمل الثقافة في الدين ثم يحاول توطين الفن ضمن هذا الفهم بعد "تطهيره" من كل العناصر "غير الإسلامية" كيفما عرّفها. وهذا مايجعل دعوته للإرتباط الكامل بين النشاط الفني ومنشط العباده ليس فقط دعوة مبهمة، لكن من غير الممكن تصور أي آلية يمكن من خلالها تأسيس مثل هذا الإرتباط. في واقع الأمر، ما يؤدي إلى هذا النوع من التفكير هو، كما أشرنا، عدم تواضع معرفي ظل سمة أساسية في فكر وسلوك منظري الحركة الإسلامية.
ورجوعاً إلى تاريخ الفن الإسلامي وأدبياته، يرى المؤرخون أن الصفة "إسلامي" في مصطلح "فن اسلامي" لا تشير تحديداً إلى المضمون الديني. يقول قرابار في هذا الصدد:
"[صفة] "إسلامي" لا تشير إلى فن ديانة معينة، لأن نسبة عالية من الموجودات الفنية ليس لها علاقة بالدين الاسلامي. من الواضح هناك أعمال فنية أنجزت بواسطة غير المسلمين ومن أجل غير المسلمين يمكن دراستها بإعتبارها فن إسلامي … التفسير البديهي الآخر لصفة "إسلامي" هو أنها تشير إلى ثقافة أو حضارة الأغلبية من أهلها أو على الأقل أن العناصر الحاكمة تدين بالدين الإسلامي."
كذلك نجد مثل هذا التفسير لصفة "إسلامي" في مجالات أخرى في الدراسات الإسلامية. فالمفكر العربي حسين مروه يشرح صفة "إسلامي" وصفة "عربي" في صيغة "التاريخ العربي الإسلامي" على النحو التالي:
"لسنا نجد حتى الآن، تحديداً وصفياً مكثفاً لهذا التاريخ المشترك أدق من وصفه بالتاريخ العربي الإسلامي. فليست كلمة "العربي" فيه تعني الإنتماء بالدم والنسب الخالصين، بل تعني الخصائص التاريخية التي تنسب للأشكال الحضارية الناتجة عن مسيرة العرب تلك وتفاعلهم خلالها مع جملة من الشعوب شاركتهم صنع هذه الأشكال وصنع تاريخها الكامل. من هنا تكون كلمة "الإسلامي" في وصف هذا التاريخ تعبيراً عن هذه المشاركة ذاتها، وإشارةً إلى هذه الشعوب ذاتها. ولذا يتحدد محتوى الكلمة "الإسلامي" بدلالتها الحضارية، لا بدلالتها الدينية، من حيث أن صناعة هذا التاريخ المشترك هي نتاج بنية إجتماعية مركبة متكاملة إرتبط وضعها السياسي والحقوقي والتشريعي بنظام دولة الخلافة الإسلامية وبالأسس المادية الإقتصادية لهذا النظام."
إذن يرهن الترابي مجمل مشروعه على محاولة لتحويل فن "يلهي ويفتن" إلى منشط ديني من خلال خلق "فنانين متدينين" ضمن "مجتمع سوداني متدين بحق". كان متوقعاً، بالطبع، فشل مثل هذا المشروع. لكن كان لا بد من رد فعل من جانب الكيان الثقافي السوداني عموماً والمؤسسة الفنية خاصةً على هذا التغول. فمثلاً، بروز تنظيمات فنية نشطة معارضة أوغير مكترثة بالإجراءات التي تتخذها السلطة كشفت عن الطبيعة الصلبة للمؤسسة الفنية السودانية، كما أن منظمة نمارق سرعان ما اتضح عدم فاعليتها. كذلك، إلى جانب التنظيمات الفنية القديمة نشأت جمعيات ومنظمات جديدة تتناقض أجندتها تماماً مع مشروع الحركة الإسلامية. ففي مجال الفن واصلت الإتحادات ومنظمات الفنانين نشاطها في إستقلال تام عن مشروع الحركة، وظهرت جماعات فنية تقودها عناصر متجاوزه في رؤاها وبرامجها أطروحات الإسلاميين. وإستعصى المجال الموسيقي والمسرحي تماماً على محاولات النظام لإقتحامه وتدجينه. أيضاً يتضح فشل السلطة الإسلامية في إيجاد مواقع لها ضمن الساحة الفنية في الإستقبال الحماسي الحاشد لمحمد وردي في المطار عند عودته إلى البلاد في مايو 2003 بعد غيبة طويلة وتزاحم الأعداد الضخمة من معجبيه، خاصة من الشباب، في أولى حفلاته. في مجال الأدب إتسع نطاق شعر المقاومة المؤلف بالعربية السودانية خاصة وسط الشباب مقتفين آثار أعمدة هذا الشعر، محجوب شريف والقدال وحميد. هذا إلى جانب أشكال الرفض والكشف والتحريض الذي تبثه مواقع الإنترنت.
في المؤسسات الأكاديمية لم يكن بالطبع في مقدور الإسلاميين تقديم أي "مناهج إسلامية" بديلة لدراسة الفنون، لأنه ليس هناك أصلاً مناهج إسلامية أومسيحية أو بوذية…الخ لدراسة الفن. ما جرى لم يخرج عن نطاق الإجراءات والقرارات الإدارية التي أشرنا إليها والتي أدت إلى تدني مستوى التحصيل والتدريب في هذه المؤسسات الفنية (من أهم التحولات التي أقدمت عليها الإدارات الإسلامية في مؤسسة التعليم العالي كانت إلغاء نظام الداخليات والإعاشة ودعم المناشط الطلابية. كما أن التوسع الهائل في القبول تنفيذاً لما سمي بالثورة التعليمية دون تغيير في البنيات التحتية القائمة وتأهيلها، إضافة إلى تعديل المنهج في كل المراحل بما يتوافق مع مخطط الحركة الإسلامية أدى إلى أضرار بليغة بالنظام التعليمي في السودان). ومما يلفت النظر أن أشكال الرفض لسياسات الحركة سرعان ما تجلت في إبداعات شعبية عفوية، فمثلاً جرى إستغلال أناشيد "الجهاد" في أوائل التسعينات الداعية للقتال والجهاد التي ترددها مليشيات السلطة وزحمت بها الإعلام المرئي والمسموع، وتحوير أو إستبدال كلماتها بكلمات وجمل ذات معاني ساخرة مستوحاة من معاناة حياتهم اليومية.
من منظور إستطيقي يمكن القول أنه لا توجد مبادئ أو منظومة رؤى إسلامية حول الفن يمكن أن تؤثر في إتجاه تطور حركة الإبداع الفني في السودان أو في أي مجتمع آخر له خلفيات مشابه. ورغم ذلك يشكل الفن، كما رأينا في الفقرات السابقة، عنصراً مهماً في الآيديولوجية الدينية التي يتم توظيفها من قبل الإسلام السياسي ضمن برنامجه السياسي. لكن، علينا أن نتذكر حقيقة ماثلة وهي أن أي محاولة لإخضاع الفن للمعايير الدينية لابد أن تواجه معضلة مستعصية. فعلى الأقل، إذا نظرنا عبر التاريخ نجد أن كل المحاولات لمحاصرة عملية الإبداع الفني وإعتقالها في أجناس فنية وموضوعات وأساليب محددة بناءً على مبادئ دينية أو أخلاقية أو آيديولوجية قد باءت بالفشل. وفي الحالة السودانية لا يمكننا أن نتصور كيف يمكن للحركة الإسلامية أن تفرض هوية إسلامية على حركة الإبداع الفني في بلد له مثل هذا التاريخ الحضاري الممتد وهذا التكوين المتنوع إثنياً وثقافياً ودينياً.
إن الفشل الذي حاق بمشروع الحركة الاسلامية الثقافي ضمن إستراتيجيتها لتأسيس "هوية إسلامية" للمجتمعات السودانية ليس بالأمر المستغرب. لأنه، بداهةً، ليس من الممكن تدجين أي ظاهرة ثقافية وعزلها والتحكم في مسار تطورها بمعزل عن العوامل الداخلية والخارجية التي تحكم نموها وبمعزل عن الواقع التاريخي الذي تنتمي إليه. وفي الواقع السوداني، ليس في إمكان مثل هذه المفاهيم العربية الإسلامية التقليدية حول ظاهرتي الفن والجمال أن تستوعب هذا الميراث الفني للشعوب السودانية في إمتداده وعمقه التاريخي. هذا الموروث الفني في ثرائه وتنوعه يقف شاهداً على الحقائق التاريخية والثقافية التي جاءت فنون هذه الشعوب إحدى نواتجها. في الفقراتالتالية نشير أولاًوبإختصار إلى مثال من مرحلة غناء "حقيبة الفن" ومجتمع شعرائها، ثم نعرض، ثانياً، بإسهاب لنموذج من الموروث الشعبي السودانيمن خلال مقاربة وصفية تحليلية لإحدى طقوس الزواج التي كانت تمارسها مجتمعات وادي النيل الأوسط وبعض المجتمعات الأخرى من حوله في أشكال وأساليب وبمسميات مختلفة. نتبين في هذين النموذجين مدى الفجوة بين خواء وجهل الخطاب الإسلاموي وركائزه الفقهية الأصولية حول الفن وبين التقاليد الفنية والفكر الإستطيقي العميق لمجتمعات سودانية مسلمة تنتمي إلى حضارة جذورها حية في مجمل تقاليدهم ومعتقداتهم وممارساتهم الفنية.
ودالرضي في رثاء السر عبداللة
نظم الشاعر محمد ودالرضي الأبيات التالية في رثاء السر عبداللة عازف الكمان الذي صاحب بعزفه روائع أغنيات الحقيبة:
يا السر في نعيم الجنة تيه واعتزّ
تلقى هناك خليل فرح إفتتن بي عازة
بطران الرشيق لي شعرو متعة ولذة
شاديهم سرور لكل مسرح هزة
تلقى برهان في نعيم الجنان متهني
معاهو زنقار يشدو بي صوتو الرخيم الفني
والأستاذ كرومة،
قول ليهو الرقيص بعدك فقدلو مغني
هذه الأبيات لودالرضي، وهو أحد ركائز مرحلة الحقيبة، عبارة عن "خطاب شعري إستطيقي" بالمعنى الكامل للكلمة. فهو خطاب لأنه "موقف" فكري ينبئ عن إحتفاء لا حدود له بالفن وأهله، وليس هناك من يضاهي الفنان نفسه إستشعاراً بالفن كقيمة إنسانية عليا. والمقارنة هنا بين "خطاب" ودالرضي والخطاب الإسلاموي حول الفن تبين الفارق بين عالمين: عالم إسلاموي ضرير لا يبصر فناً، وأبكم لا يسمع غناءً، وهو، لذلك، مسكون بميراث سلفي سيظل يحجب بصيرته عن مسارب الإستنارة والمثاقفة. من جانب آخر، يقود التنقيب في مصادر وأصول "خطاب" ودالرضي الشعري الإستطيقي هذا إلى تلك البيئة السودانية الأصيلة التي إستقبلت عقيدة الإسلام ضمن موروث ثقافي فني عتيق بما يذكرنا بمقولة المؤرخ قرابار سالفة الذكر حول علاقة اللقاح بالجسم الملقح. فودالرضي الشاعر ما هو إلا نبت طبيعي لحاضنة صوفية عريقة إنصهرت فيها رؤى دينية منفتحة وتقاليد سودانية سمحاء فجاء تأبينه للراحل المبدع عازف الكمان شعراً فاض دعاءً وصوراً بليغة جمعت عظماء الحقيبة في الجنة كما اجتمعوا في دنياهم، فكأن وجودهم في الجنة جاء إستحقاقاً لما بذلوه من عطاء فني أسعد الناس وأثرى حياتهم. هذا هو الجانب الإنساني الرفيع في الفن والفنان كما جسده ودالرضي.
طقس الدسوسيي
يبدو هذا الطقس من الوهلة الأولى بسيطاً، وربما مستغرباً، في شكله وأدائه، لكن سرعان ما ينكشف بعده الوظيفي وعمقه الجمالي عند محاولة البحث في أصله ودوافعه. وفيما يلي نتناول هذا الطقس كما كان يمارس في بعض مناطق الشمال النيلي حتى منتصف القرن الماضي ويطلقون عليه إسم "الدسوسيي" وهو إخفاء العروس في ليلة زفافها. ونجد هذا الطقس أيضاً في شرق السودان وسط البجا، وفي كردفان نجده عند مجموعة البديرية ويسمونه "أبقنفود رمد"، وأبقنفود هو القنفذ في لهجتهم، ورمزية الإسم تشير إلى العريس الذي يذهب في كل الإتجاهات باحثاً عن عروسه المختفية.
يرى المختصون في "علم تكوين الشخصية" Ethologyأن الطقوس ritualsذات أهمية قصوى في وسائل الإنسان للعيش والبقاء. تقول إلين دساناياكي المختصة في هذا العلم، أن الطقس كسلوك إنساني هو وسيلة للسيطرة بالمعنى الواسع الذي يقصد به التأثير في أمور معقدة وفهمها والتعامل معها من أجل تحقيق حاجات مادية وعاطفية ونفسية، كما أن الفنون ذات صلة بغالبية الحالات كوسيلة ضرورية ومؤثرة في بنية الطقس نفسه. (Dissanayake 1992) هذا الوصف ينطبق تماماً على طقس الدسوسيي.
إخفاء العروس في ليلة زفافها من الطقوس القديمة المصاحبة لإحتفال الزواج، ويتنوع في شكله وفي التركيز على عناصره من منطقة لأخرى. في مساء يوم الزواج وقبل بداية الإحتفال تخفى العروس مع مجموعة من صديقاتها في أحد منازل القرية، وعلى العريس ومجموعة من أصدقائه إكتشاف مكانهن والذي يكون في غاية السرية. هناك إمرأة تشرف على مسار الطقس، ومن أولى مهامها النظر في أشكال العلاقة بين المشاركين والمشاركات في الطقس، والحرص على ألا يكون من ضمنهم مثلاً أخ هنا وأخت هناك أو أي من المحارم أو المخطوبين لأن الجانب الرئيسي في أداء الطقس لا يتوافق وهذه العلاقات ،ومن ثم تطلب المرأة المنظمة ممن لهم مثل هذه العلاقات من أصدقاء العريس بعدم المشاركة وعليهم الإنصياع تماماً لأمرها. يشرع العريس وأصدقائه في البحث عن مكان العروس، وهي مهمة صعبة وطويلة، وعلى الأصدقاء مساعدة العريس في البحث والتنصت من منزل إلى آخر لأي حديث أو همس في إحدى الغرف يدل على وجود الطرف الآخر دون أن يكشفوا هم عن أنفسهم، إذ عليهم أحياناً دخول المنازل بتسلق أسوارها إذا كان الباب موصداً. إذا طال الوقت ولم يعثروا على المخبأ فعليهم اللجوء إلى المرأة التي تكشف لهم عن المكان بعد مساومتهم على شيء من النقود، وهذا ما يحدث في غالب الحالات. لكن عندما تصل المجموعة إلى الغرفة المخبأ يجدون الباب موصداً تماماً، وعندها تبدأ صديقات العروس في ترديد أغنيات تعبر عن رفضهن فتح الباب لكن في مضامينها شئ من المزاح و"التحدي"، مثال ذلك :
بتّنا سمحة ما بنديها
تضوي رتينة مابنديها
إن جاب أمّو خادم ليها
مرة أخرى على العريس وأصدقائه رشوة البنات، غالباً بتوسط من المرأة المشرفة. وعندما يفتح الباب يتقدم العريس ويقف إلى جانب عروسه في أحد أركان الغرفة، ثم يطفأ الفانوس ومن ثم يندفع أصدقاء العريس إلى داخل الغرفة المظلمة ويحاول كل منهم الإمساك بإحدى الفتيات اللاتي يتآزرن في دفعهم بعيداً عنهن. تستمر هذه المسرحية لوقت قصير ثم تتدخل المرأة وتضيئ الفانوس ليبدو الأصدقاء والصديقات في هيئات مضحكة بعد هذه "المعركة المسرحية"، ويبدأ الطرفان جولة من الغناء والرقص بينما العريس وعروسه في غاية السعادة بعد هذا الأداء الدرامي. يدرك الناس في بيت الفرح أن لعبة الدسوسيي قد تمت ويتوافد الجميع لمكان الحفل استعداداً له.
بنية الطقس
يشتمل طقس الدسوسيي على كثير من العناصر التي تجعل منه بناءً درامياً بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة. يتشكل مسرح الحدث من القرية كلها بإعتبار أن مكان إختفاء العروس في موقع ما من هذا المسرح الممتد عبر منازل القرية وتداخل دروبها وحيشانها وغرفها، كما أن حركة الحدث وتركيزها تنتقل من منزل إلى منزل ومن غرفة إلى أخرى مع تنقل أصدقاء العريس في بحثهم الحذر والصامت عن المخبأ. ثم ينداح مجرى الحدث ليعم القرية كلها عند نهاية الفصل الأخير في الغرفة المخبأ ويعلم الجميع بإكتمال طقس الدسوسيي. شخوص الدراما يتم فرزهم وتحديدهم بعناية للمشاركة في الطقس إلى جانب العريس والعروس كشخصيات رئيسية. تلعب المرأة المشرفة على أداء الطقس دور "المخرج" و"المنتج" لهذه الدراما، فهي تدير بحذر هذا السناريو لخلق البنية المسرحية المطلوبة ولضمان مسار الحدث المخطط له. تتكون الحبكة plotالدرامية من عناصر أساسية، وهي حالة السرية التامة، والإثارة في عملية البحث من جانب العريس وأصدقائه والترقب الحذر من جانب العروس وصديقاتها، حالة التحدي المفروضة على العريس وأصدقائه ومساومة المرأة "المخرجة" ورشوتها، الغناء "المازح المستفز" من جانب البنات ورشوتهن من قبل العريس وأصدقائه، ثم قمة الحدث الدرامي the climax في الغرفة المظلمة والمظهر المضحك والفوضوي "للممثلين" بعد إضاءة الغرفة، وملامح السعادة والإسترخاء البادية على العروسين، والغناء والرقص بمشاركة المجموعتين.
وظيفة الطقس
يحقق هذا الطقس، على الاقل، هدفين واضحين. أولهما "تقديم" الزوجين أحدهما للآخر وتعيين لحظة البداية لشراكة زوجية متفائلة. هذا التقديم يصبح ضرورياً بسبب أوضاع تقليدية معينة تحيط عادة بالطرفين قبل الزواج، خاصة بالنسبة للفتاة، إذ من المفترض أن يتفاديا ملاقاة أحدهما الآخر بعد إعلان خطوبتهما رسمياً. إلى جانب ذلك، ربما ينتاب كلا الطرفين شعور "بالأخوة"، خاصة إذا كانا قد ترعرعا في ذات الحوش الذي يضم الأسرة الممتدة. ثاني الأهداف يشكل الغاية الرئيسية من الطقس ويمكن إعتباره بحق نوعاً من العلاج النفسي psychotherapeutic. أحد جوانب هذه المعالجة تخفيف حالة القلق والتوتر لفتى وفتاة يقفان على عتبة حياة زوجية لم يناقشانها أو يستكشفانها من قبل. لكن الجانب النفسي الأكثر أهمية هو ذلك المتعلق بالفتاة، والخوف المتأصل المرتبط بليلة "الدُخلة"، وهي الليلة التي ستتحول فيها فعلياً من فتاة عذراء إلى إمرأة متزوجة. وهو، في واقع الأمر، خوف حقيقي ومشروع، ليس فقط بسبب ما تتبادله الفتيات والنساء من قصص غير سارة عن تلك الليلة، ولكن بسبب ما ستعانيه العروس من آلام محتمة وعنف متوقع من جانب العريس وذلك بسبب حالة الختان.
لتحقيق هذه الأهداف يستدعي طقس الدسوسيي كل المراحل والإجراءات الأساسية في مشروع الزواج ويعيد تجسيدها عن طريق أسلوب التمثيل الرمزي symbolic enactment.لأنه من الضروري أن يتخذ الطقس إطاراً وبنية محددتان حتى يتحول إلى إجراء معلوم يتم تكريسه كتقليد إجتماعي متوارث له إعتباره كممارسة هادفة ذات مدلول معين. فالسرية التامة في إخفاء مكان العروس ترمز لحالة السرية والحذر في عملية إختيار العروس وكل ما يتعلق بالأمر من مقترحات ومشاورات في أسرتي الطرفين والمحادثات بينهما. عملية البحث عن مخبأ العروس وسلسلة الصعوبات التي تواجه العريس وأصحابه ترمز إلى الوقت والمجهود الذهني والبدني والمادي الذي يبذله العريس في الإعداد لحياته الجديدة. السماح للعريس بدخول الغرفة المخبأ بعد إكتشافها إشارة للقبول والإستقبال له من جانب العروس كشريك في حياتها الجديدة. الملاحقة المفتعلة والإمساك بالفتيات من قبل أصدقاء العريس في الغرفة المظلمة هي اللحظة التي يأخذ فيها "الممثلون" خلال هذا الأداء الرمزي، العريس والعروس ويعبرون بهم عتبة الحياة الزوجية الفعلية، فهم يحاكون بهذا الإسلوب "الواقعي" نوع الملاقاة والإرتباط العاطفي والبدني الذي لابد سيواجهه الزوجان حالاً. لهذا الأداء الدرامي، دون شك، غاية علاجية مباشرة، فهو إعداد وتهيئة نفسية وبدنية لكلا الطرفين، ويبدو أنه معنى بالعروس أكثر من زوجها. فهذا الأداء الجماعي الذي يرمز لطبيعة العلاقة الروحية والبدنية التي تنتظر العروسين قصد فيه أن يكون تمريناً و"بروفة" يجسد أمام البنت واقع الشراكة الزوجية في ليلة الدخلة وأن يلطف من مخاوفها. هذا التمرين يمكن مضاهاته بما يعرف في الإستطيقا الإغريقية بتطهير العواطف katharsis، وهي نظرية إرتبطت بالعمل الفني التراجيدي حيث يجري التحرر من العواطف أو تخفيفها من خلال معايشة الحدث الدرامي التراجيدي. (هذه النظرية مرتبطة بفلسفة أرسطو في الفن. أنظر،Lucas 1980, appendix 2) كذلك يذكرنا هذا الأداء الدرامي بالأسلوب المتبع في العلاج النفسي المعاصر psychiatryلمعالجة المخاوف والعقد وذلك بمساعدة الشخص المعني بإستحضارها في وعيه وتحديد طابعها وأبعادها. وأخيراً يهدف الطقس إلى أن يطبع في نفس الزوجين شعوراً بالإلفة والحب والإنتماء من خلال روح الدعابة التي تميزه. كما أن هذه المشاعر محاطة دوماً بهالة من الإحترام والوقار الذي عادة ما يصاحب وجود العروس.
الإطار الإستطيقي للطقس
لا يمكن لهذا الطقس أن يؤدى وظيفته من دون هذا العنصر الفني الجمالي الذي يشكل بنيته الأساسية. فالعناصر الدرامية التي تطرقنا لها إلى جانب الغناء والرقص لهو دليل واضح على أن الطقس في مجمله مصمم بعناية ضمن فلسفة جمالية واضحة. ففي هذه الممارسة الطقسية يتم توظيف الخبرات الفنية والحس الذوقي للجماعة وفنها الرئيسي، الموسيقى/الرقص، ضمن النسيج الإجتماعي الثقافي القائم في سبيل ترقية وإغناء حياتها مادياً وروحياً. كما أن هذه الخبرات تصبح أداةً مهمة في إيجاد حلول لمواقف وحالات إجتماعية ونفسية دقيقة، وبذلك تساعد المجموعة والأفراد في الحفاظ على أسلوب في الحياة صحي ومتوازن. كذلك يتجلى هذا الطقس كعنصر فني طريف في بانوراما إحتفالية الزواج والتي تنتظمها العديد من الطقوس والتقاليد المتأصلة في الثقافات االمحلية للجماعات السودانية. طقس الجرتق، مثلاً، وهو من التقاليد الكوشية القديمة، يمارس في شعائر الإنتقال rites of passage عند الوضوع والختان والزواج، إلى جانب مايردد من دعوات وأمنيات معينة. يتطلب طقس الجرتق أن يلبس كل من العريس وعروسه "رباط الجرتق" في معصميهما، وهو عبارة عن حجر تركواز ومثمن من الفضة معقودين إلى خصلة من الحرير الأحمر، هذا إلى جانب أسورة من الفضة تسمى المشاهرة وسبحة طويلة من المرجان الأسود تتدلى من العنق، والفال أو الضريرة الذي يغطي الرأس. حجر التركواز يرجع إلى معتقدات كوشية قديمة حول كنه ووظائف مثل هذه الأحجار النادرة؛ الحريرة بلونها الأحمر تشير إلى الدم كرمز للخصوبة وتجدد الحياة؛ المشاهرة مقصود بها الحماية من "العين"؛ السبحة رمز إسلامي صوفي ومصدر للبركة والحماية (السبحة أداة وتقليد بوذي في أصلها)؛ الدعوات في صيغ إسلامية موجهه إلى الله والرسول والأولياء طلباً لحياة عامرة "بالمال والبنون" للعروسين.
هناك طقوس أخرى تمارس أيضاً في هذه المناسبات مثل الذهاب إلى النيل لغسل الطفل الوليد وهو تقليد ينسب لكلا المرحلتين في الحضارة السودانية، المرحلة الكوشيه والمرحلة المسيحية. غالبية هذه الطقوس والشعائر تمارس مصحوبة بالغناء والدعاء والرقص. لذلك يمكن النظر إلى طقس الدسوسيي بإعتباره جزء من منظومة من الطقوس والشعائر والتقاليد تتحقق وتتجلى فيها الهوية الثقافية للمجموعة وتصبح وسائل تعبير وتجسيد نشطة في العملية المستمرة لإعادة خلق وتأكيد هذه الهوية الثقافية. هذا المزيج من الطقوس والذي يعود إلى فترات تاريخية متواترة ومتنوعة في الحضارة السودانية يعتبر شاهداً على حالة الإستمرارية والقدرة على التكيف الثقافي لدى هذه المجموعات من سكان وادي النيل الأوسط.
هذا الشكل من طقس الدسوسيي كان يمارس في المنطقة حتى منتصف القرن الماضي، ثم أخذت بعض عناصره في الإختفاء أو التحول تدريجياً إلى مجرد أداء شكلي يرمز إلى الطقس كتقليد يمارس ضمن إحتفالية الزواج أكثر منه إلتزام فعلي بمتطلبات الطقس، مثال ذلك أن "تختفي العروس" مع صديقاتها فى أحد المنازل القريبة ويقوم العريس "باكتشاف" مكانها ومقابلتها بعد أن يكون قد دفع شيئاً من المال للنسوة. من منظور إجتماعي يمكن القول أن جوانب معينة من هذا الطقس بدأت في الزوال بسبب فقدانها لوظيفتها والغاية منها في بيئة إجتماعية وثقافية متحولة تحت تأثير أنماط الحياة الحديثة ونشأة أجيال تحمل مفاهيم مغايرة. فمثلاً، تغيرمفهوم "ليلة الدخلة" كإستجابة طبيعية لتحولات طالت كثير من القيم المرتبطة بمفاهيم الفحولة والعفة، وإنحسرت ظاهرة الختان وحدث تحول كبير في النظرة إلى المرأة وكل ما يقال ويكتب الآن تحت عنوان النوع الإجتماعي gender relations. لذلك يمكن النظر إلى ممارسة الدسوسيي باعتبارها طقس أبدعته هذه المجتمعات ومارسته لأجيال ممتدة كوسيلة، كما ذكرنا، لمجابهة ومعالجة مشكلات معينة في حياتهم، وكما تتغير طبيعة هذه المشكلات في حياة الجماعة تتحول كذلك طقوسهم وتقاليدهم في مواجهتها.عموماً، أثناء جمع المعلومات حول هذا الطقس تمت مناقشته مع خمسة عشر من الرجال الذين شاركوا فيه أيام شبابهم، وعند السؤال حول إختفاء الطقس بشكله التقليدي إتجهت كل إجاباتهم تقريباً نحو وصفه بأنه "عادة قديمة" ماعدا إثنين منهم أشاروا إلى أنه سلوك "جاهلي". من ناحية أخرى، يمكن القول أن مثل ذلك الجدل والخصام المضني الذي يثيره الإسلاميون ومحترفي الفتاوي في كل صغيرة وكبيرة من حياة المسلم وغير المسلم حول إسلاميتها وعدم إسلاميتها لم يكن ليطرأ على أذهان تلك الشعوب السودانية المسلمة وهم يؤدون هذه العادات والطقوس كممارسات لها وظائف وغايات محددة في تلك المرحلة من حياتهم.
من ناحية أخرى، ربما تكون الممارسة الفعلية لعناصر هذا الطقس قد إختفت، لكن مازالت تلك الحساسية الإستطيقية aesthetic sensibilityوذلك المستودع من الخبرة الفنية الذي زوّد الطقس ببنيته الأساسية متوطنان في ثقافة هذه المجموعات ذلك على الرغم من كل محاولات الأسلمة والتشريعات التي حاولتها السلطة الإسلامية. كما أن ظاهرة إنكفاء المجموعات الإثنية المختلفة على تراثها الفني، خاصةً الموسيقي، وإحيائه في أساليب مختلفة كرد فعل على سياسة المركز، شملت أيضاً مجموعات سكان وادي النيل الأوسط. وفي ضوء ما ذكرناه من وصف وتحليل لبنية وأهداف طقس الدسوسيي إلى جانب محاولتنا تفسير وتحديد رموزه ودلالالته بإعتباره نموذجاً لكيفية توظيف الموروث الفني لدى شعوب المنطقة، يمكن القول أنه ليس من المستطاع تدجين مثل هذا الموروث وتحويلة إلى "منشط ديني"، وهذا بدوره يعود بنا إلى الخلاصة الرئيسية، وهي أن مشروع "أسلمة الفنون" كان مقدراً له هذا الفشل منذ البداية لأن الأسس التاريخية والإجتماعية والثقافية التي نشأ عليها الموروث الفني لهذه الشعوب لا يمكن ببساطة إعادة صياغتها وفقاً لتفسيرات للإسلام دافعها أهداف وإستراتيجيات سياسية ومن ثم إضفاء صفة الهوية الإسلامية على هذه الأسس.
وأخيراً، فإن وصف الخطاب الإسلاموي للفنون السودانية الحديثة بأنها حامل للقيم الجاهلية ولأمراض الحضارة الغربية معناه أن مجمل التطور الذي شهدته الفنون السودانية ليس سوى إنحراف دائم عن طريق الإسلام. وهذا ينطبق أيضاً على هذا الحوار الفكري حول هذا التطور، والذي مازال مستمراً منذ أكثر من ثمانية عقود. إذ ليس بمقدور هذا الخطاب الإسلاموي أن يصبح أطروحة أصيلة ضمن أطروحات الهوية السودانية المعروفة والتي تناولت أكثر الأسئلة خطورة وأصالة على مدى العقود الماضية، فهو خطاب لا يقترب أصلاً من جذور المشكلة لأنه ينفي حقيقة وجودها. وخلاصة القول، يبدو أن محاولة "أسلمةالفنون" ليست سوى محاولة أخرى "لمركزة" الحراك الثقافي عموماً وإختزاله في بوتقة إسلاموعروبية ترى نخب المركز الحاكمة أنها وسيلة ناجعة ضمن إستراتيجيتها لتأكيد هيمنتها السياسية والإقتصادية على الدولة السودانية.
الهوامش
Arnold, Thomas. W. (1928) 1965.Painting in Islam: A Study of the Place of Pictorial Art in Muslim Culture. Oxford: Oxford University Press.
Grabar, Oleg (1973) 1987.The Formation of Islamic Art. New Haven: Yale University Press.
Abusabib, Mohamed 1995. African Art: An Aesthetic Inquiry. Stockholm: Almqvist&Wiksell International.
Khalid, Mansour 1990. The Government They Deserve: The Role of the Elite in Sudan's Political Evolution. London: Kegan Paul International.
Abbas, Ali Abdalla 1991. "The National Islamic Front and the Politics of Education."Middle East Report (September-October), 23 – 25.
Mahmoud, Muhammad 1997. "Sufism and Islamism in the Sudan." In David Westerlund and Eva Evers Rosander (eds.). African Islam and Islam in Africa, Encounters between Sufis and Islamists, 162 – 92. London: Hurst & Company.
Karrar, Ali Salih 1997. Sufi Brotherhoods in the Sudan. Evanston: Northwestern University Press.
Dissanayake, Ellen 1992. Homoaestheticus: Where Art Comes from and Why. New York: Maxwell Macmillan.
Lucas, D. W. (1968) 1980.Aristotle: Poetics. Oxford: Oxford University Press.
الترابي، حسن 1983. "حوار الدين والفن." مجلة الفكر الإسلامي، رقم 1 (سبتمبر)، 41 – 64. الخرطوم: جماعة الفكر والثقافة الإسلامية بالخرطوم.
الميدان 1996. عدد سبتمبر – أكتوبر.
الفجر (اللندنية)، العدد رقم (1) 14 مايو 1997.
دستور جمهورية السودان 1998. الخرطوم: وزارة العدل.
مروة، حسين 1988. النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية (جزئين). بيروت: دار


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.