شاهد بالفيديو.. الفنانة نانسي عجاج تشعل حفل غنائي حاشد بالإمارات حضره جمهور غفير من السودانيين    شاهد بالفيديو.. سوداني يفاجئ زوجته في يوم عيد ميلادها بهدية "رومانسية" داخل محل سوداني بالقاهرة وساخرون: (تاني ما نسمع زول يقول أب جيقة ما رومانسي)    شاهد بالصور.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تبهر متابعيها بإطلالة ساحرة و"اللوايشة" يتغزلون: (ملكة جمال الكوكب)    شاهد بالصورة والفيديو.. تفاعلت مع أغنيات أميرة الطرب.. حسناء سودانية تخطف الأضواء خلال حفل الفنانة نانسي عجاج بالإمارات والجمهور يتغزل: (انتي نازحة من السودان ولا جاية من الجنة)    البرهان يشارك في القمة العربية العادية التي تستضيفها البحرين    رسميا.. حماس توافق على مقترح مصر وقطر لوقف إطلاق النار    الخارجية السودانية ترفض ما ورد في الوسائط الاجتماعية من إساءات بالغة للقيادة السعودية    قرار من "فيفا" يُشعل نهائي الأهلي والترجي| مفاجأة تحدث لأول مرة.. تفاصيل    الرئيس التركي يستقبل رئيس مجلس السيادة    زيادة كبيرة في أسعار الغاز بالخرطوم    الدعم السريع يقتل 4 مواطنين في حوادث متفرقة بالحصاحيصا    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    كاميرا على رأس حكم إنكليزي بالبريميرليغ    الكتلة الديمقراطية تقبل عضوية تنظيمات جديدة    الأحمر يتدرب بجدية وابراهومة يركز على التهديف    عملية منظار لكردمان وإصابة لجبريل    بيانٌ من الاتحاد السودانى لكرة القدم    ردًا على "تهديدات" غربية لموسكو.. بوتين يأمر بإجراء مناورات نووية    «غوغل» توقف تطبيق بودكاستس 23 يونيو    لحظة فارقة    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    كشفها مسؤول..حكومة السودان مستعدة لتوقيع الوثيقة    يحوم كالفراشة ويلدغ كالنحلة.. هل يقتل أنشيلوتي بايرن بسلاحه المعتاد؟    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    تشاد : مخاوف من احتمال اندلاع أعمال عنف خلال العملية الانتخابية"    دول عربية تؤيد قوة حفظ سلام دولية بغزة والضفة    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    صلاح العائد يقود ليفربول إلى فوز عريض على توتنهام    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    برشلونة ينهار أمام جيرونا.. ويهدي الليجا لريال مدريد    الجنرال كباشي فرس رهان أم فريسة للكيزان؟    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    العقاد والمسيح والحب    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



(أسلمة) الفنون في التجربة السودانية : منظور ثقافي جمالي 1 – 3
نشر في حريات يوم 11 - 06 - 2016

(يحتوي هذا المقال على المادة الأساسية في الفصل الثامن من دراسة قيد النشر بعنوان: الفن والسياسة ومشكلة الهوية، دراسة في السودانوية)
مقدمة
كان الجدل الثقافي والجمالي (الإستطيقي) حول الفن السوداني وهويته مترافقاً ومتداخلاً مع التطورات السياسية والإجتماعية منذ البدايات الأولى للحركة الوطنية في العشرينات. ومع الأحداث السياسية العنيفة والتحولات الإجتماعية العميقة التي حدثت في العقود التالية للإستقلال تواصل الحوار حول الفن والقضايا الثقافية الأخرى مضيفاً مادة جديدة ومداخل مستحدثة إلى المجرى العام للنقاش في إستجابته للتحولات السياسية والإجتماعية الجارية. لكن، ولأول مرة طرأ تحول نوعي في مجرى هذا النقاش بعد إستيلاء الحركة الإسلامية على السلطة في 1989. ذلك أنها المرة الأولى التي يشهد فيها المجتمع السوداني شكلاً متطرفاً من المصادمة بين السياسي والديني والفني بإعتبارهم من المكونات الرئيسية في البنية الثقافية.
شرعت الحركة الإسلامية في تطبيق سياستها حول "أسلمة الفنون" في نطاق برنامجها الرئيسي لأسلمة كل مرافق الدولة وعلى رأسها الثقافة والإقتصاد والتعليم. ويسعى هذا البرنامج إلى تحقيق هدف إستراتيجي وهو تحويل السودان إلى دولة دينية ذات هوية إسلامية. فيما مضى كان الحديث عن "إسلامية" الفنون محدوداً في دائرة صغيرة من الفنانين أصحاب التوجه الإسلامي، لكن إكتسبت الفكرة إهتماماً صريحاً بعد هذا التطور السياسي في مسار الحركة الإسلامية. وعندما بدأ المشروع الإسلاموي في الإنهيار بعد سنوات قليلة خمد هذا الإهتمام في خضم الأزمات المتلاحقة ولم يعد هناك من صناع القرار من يتحدث عن أسلمة الفنون بصوت مسموع. وتحول ذلك الشكل الهجومي غير المكترث لتاريخ وقيم المؤسسة الفنية إلى طابع تصالحي ومهادن تجلى في غض الطرف أو محاولة إختراق الإتحادات والتنظيمات الفنية القائمة أو عرقلة عملها.
في بداية هذا المقال نتناول بشكل عام مسائل وحجج نظرية معينة نشأت من واقع الممارسة الفنية في المجتمعات الإسلامية وذلك كخلفية ضرورية لنقاشنا الذي يتمحور حول الخطاب الإستطيقي الإسلاموي والإجراءات العملية والتدابير الس20
ياسية التي أتخذت لتطبيقه وأسباب فشل هذا التطبيق. يستند نقاشنا على القاعدة القائلة بأن الفن، كنشاط إنساني، متجذر في الحقائق الثقافية التاريخية والنظم الإجتماعية القائمة في الجماعة الإنسانية المعنية، وأن النموذج الإستطيقي الذي حاولت الحركة أن تفرضه على الواقع الفني السوداني كان مقدراً له أن يفشل لأنه ببساطة تجاهل هذه القاعدة. وفي نهاية المقال نتطرق لإحدى طقوس الزواج القديمة بالوصف والتحليل كدليل على الفرق بين الخطاب الإسلاموي والواقع الثقافي السوداني وجذوره وتقاليده.
قضايا نظرية
تعريف الفن ومكانته كنشاط إنساني شكلا قضية شائكة للمفكرين المسلمين القدماء والمحدثين، المعتدلين منهم والمتطرفين. والآراء الإسلامية المتوارثة حول الفن، خاصة المتعلقة بالموسيقى والغناء والتصوير، ذات طابع سلبي بشكل عام؛ وأكثرها نفوذاً الآراء والفتاوى الفقهية الصادرة عن المذاهب الأربعة التي أسسها أبوحنيفة (توفى 767م.) ومالك بن أنس (توفى 795م) والشافعي (توفى 820م) وأحمد بن حنبل (توفى 855م). تتراوح هذه الآراء بين جملة من القيود والمحاذير والقبول المشروط والتحريم الصريح خاصةً من جانب الحنابلة، مثل تحريم إبن القيم الجوزية للموسيقى والغناء. وبينما أصبحت آراء هذه الأطراف معروفة وموثقة تظل بعض الجوانب النظرية في هذه القضية ذات أهمية قصوى لأنها تدور حول موضوع ما زال مصدر نزاع، وهو العلاقة بين الآراء الإسلامية التقليدية حول الفن وواقع إنشغال الإنسان بالفن بإعتباره جزءاً لا يتجزأ من حياته اليومية ونشاطه الثقافي.
في العقود الأولى من القرن العشرين وصف مؤرخ الفن الإسلامي توماس آرنولد دهشة بعض الكتاب الغربيين حيال ما رأوه من تناقض بين الموقف الإسلامي العدائي السائد تجاه الفن والوجود الفعلي لفن التصوير في الأقطار الاسلامية بأنها دهشة ساذجة. فهؤلاء، كما يقول، يتوقعون من الأفراد في المجتمعات المتدينة الأخرى، بخلاف مجتمعهم هم، أن يكونوا ملتزمين بشكل دائم بآراء وتوجيهات المختصين فى شرح عقيدتهم. ويرى أن هذا التناقض بين العقيدة والممارسة ظل سائداً في المجتمعات المسيحية وسيكون من الغريب حقاً أن يكون الإسلام، وهو دين ليس فيه مؤسسة كهنوتية أو أي تنظيم في مقدوره فرض نوع من الإتساق الديني، بحسب قوله، قد نجح فيما فشلت فيه المسيحية مع ما لديها من هيئة كهنوتية متحكمة وذات كفاءة عالية في تنظيم الحياة الدينية. (آرنولد 1965) بقدر ما كانت آراء آرنولد هذه نقداً موجهاً لآراء غربية معينة بقدر ماهي أيضاً تذكير لنا بتلك الحوارات عديمة الجدوى بين المسلمين التي تتركز حول الآراء والنصوص الموروثة والتي يمكن وصفها، قديمها وحديثها، بأنها مجرد "حرب نصوص" كل طرف فيها يختار من نصوص الكتاب أو السنة ما يرى فيه دعماً لحجته بدلاً من السعي نحو تبادل لآراء أصيلة مبرهنة ومؤسسة ضمن سياقات تاريخية وإجتماعية محددة. يمكن بالطبع البحث عن أسباب أكثر عمقاً لهذا الوضع غير المثمر في الأسس الفلسفية والثقافية للحضارة الإسلامية، لكن ذلك يتجاوز حيز وموضوع هذا المقال. عموماً لآرنولد تفسيراً يبدو مقبولاً بدرجة كافية، إذ يرى أن المفكرين المسلمين في العصور المبكرة عبّروا عن آرائهم حول الفن بلغة اللاهوت لأنه لم تكن هناك محاولة في الفكر الإسلامي لإنشاء منظومة من الفكر الإستطيقي قائمة بذاتها أو التوصل إلى نوع من التذوق للفن من أجل الفن. صحيح أن جوانب من أجندة الفكر الإغريقي قد جرى تناولها ومناقشتها من قبل مفكرين إسلاميين، مثل الفارابي (توفى 950م) في مؤلفه "كتاب الموسيقى الكبير" وإخوان الصفا في مخطوطاتهم التي ترجع إلى النصف الثاني من القرن العاشر، وعلى الرغم من أنهم عالجوا جوانب أخرى في الظاهرة الفنية إلا أن محاولاتهم لم ترق إلى مستوى منظومات فكرية ذات بنيات مستقلة عن الفكر اللاهوتي الذي شكل القاعدة الأساسية لفكرهم بعكس ما هو الحال في الفكر الإغريقي، لذلك لم يكن لها من الثقل الفكري بحيث كان من الممكن أن تشكل تياراً مؤثراً في الفكر العربي والإسلامي حول الفن. أما قرابار، مؤرخ الفن الإسلامي المعاصر، فيرى هذه القضية من منظور أوسع، بل ويدعو إلى إعادة النظر في الآراء ذات الصبغة اللاهوتية. يقول في ذلك :
بإستثناء الجدل حول الأعمال الفنية ومهاجمتها في الفترة البيزنطية من النادر أن تصيغ القرون الوسطى رأيها الخاص حول الفن … وإذا كانت القرون الوسطى عموماً تميل إلى إعتبار فنونها نتاجاً طبيعياً لأي شكل من أشكال الوجود الثقافي، فهل هناك أي مبرر لحديثنا عن رأي إسلامي محدد حول الفن؟ بل ألا ينبغي علينا أن نقلل من أثر النظام اللاهوتي؟ ألا ينبغي لنا أن نخلص إلى أن ما كان يؤثر في الفنون بالفعل هو الروح المجتمعية السائدة – (المجتمعية بالمعنى الواسع جداً للكلمة) – وليس أي تعاليم دينية أو فكرية ناهيك عن تعاليم إستطيقية؟ (قرابار 1987).
النقطة المركزية في آراء آرنولد وقرابار هي التأكيد على الأساس الثقافي للتناقض القائم بين الآراء والأحكام الإسلامية التقليدية وواقع الممارسة الفنية في المجتمعات الإسلامية. فكلاهما يعتبر هذا التناقض نموذجاً للصراع المعروف بين العقائد الدينية والممارسة dogma and praxis. وكما هو واضح في تاريخ الفن الإسلامي، كان إنتاج الفن في العالم الاسلامي وحتى في عصوره المبكرة "خرقاً لما يقوله رجال الدين" بحسب تعبير آرنولد. إذن، إنتاج وتعاطي الفن في المجتمعات الإسلامية، كما في غيرها، هو نشاط ثقافي أساسي في حياة المجتمع بجانبيها المادي والروحي ويترتب على ذلك أن أي آراء وأحكام إسلامية معينة حول الفن لن تشكل عاملاً حاسماً في تحديد مكانة ودور الفن في المجتمع الإسلامي المعين. على النقيض من ذلك، ما يحدد نوع ودور الفنون الرئيسية التي تمارس في ذلك المجتمع، وأي مجتمع، هو البنية الإجتماعية الثقافية القائمة بحقائقها التاريخية وتقاليدها الحية المتوارثة.
كذلك أشار آرنولد إلى حقيقة هامة، وهي أن المسيحية والإسلام كليهما لم يستطيعا التحرر نهائياً من التأثير النافذ للثقافات الوثنية السابقة لهما وتأسيس ثقافة مشبعة تماماً بروح الدين الجديد. لذلك يمكن القول بأن الموقف الإسلامي العدائي بشكل عام تجاه أشكال وممارسة الفن في الحياة العربية قبل الإسلام، خاصة الفنون البصرية كأعمال النحت بإعتبارها "أوثان"، يمكن أن يكون سبباً هاماً في حالة التناقض القائم بين الموقف الاسلامي التقليدي والممارسة الفنية الفعلية في المجتمعات الإسلامية. وهذا يستدعي بدوره السؤال حول العلاقة بين الإسلام كدين والثقافة العربية بوجه عام. نظرة عامة إلى العلاقة بين الإسلام والثقافة العربية وأثر الموروث الثقافي للمجتمعات قبل الإسلام على فنونها بعد إسلامها يمكن أن يلقي مزيداً من الضوء على هذه القضايا النظرية.
الإسلام والثقافة العربية
من المعالم البارزة في العلاقة بين الإسلام والثقافة العربية السابقة له هذا الإختلاف بين خصوصية ومحلية الثقافة العربية وعالمية الرسالة الدينية الإسلامية بحسب النص القرآني، وأي محاولة لتمييز وإستجلاء هذا الإختلاف تثير بالضرورة العديد من الأسئلة المعقدة. فهي من ناحية تمس جانباً حساساً في العلاقة بين الإسلام والعروبة، ليس بالمعنى السياسي والآيديولجي الحديث ولكن بالمعنى الذي يشير إلى العرب كجنس له مكانة دينية خاصة بإعتباره الشعب الذي ينتمي إليه رسول الإسلام ولغته هي اللغة التي أوحي بها القرآن. ومن ناحية أخرى، يظل الجانب اللغوي نفسه في القرآن ذو أهمية دينية رئيسية، لأن البنية اللغوية والبلاغية في القرآن تعتبر من أهم الأدلة على معجزته وأصله الإلهي طبقاً للعقيدة الإسلامية. على الرغم من ذلك، وبما أن اللغة محملةً بمعاني حرفية مباشرة وأخرى رمزية ومجازية، يصبح من البديهي أن تتضمن لغة القرآن قدراً كبيراً من الرؤى الثقافية العربية إلى جانب التركيبة القاموسية والنحوية للغة العربية، وهذا ما أدى، بجانب عوامل أخرى، إلى ما نشهده من خلاف بين مدارس التفسير للنص القرآني منذ صدر الإسلام وحتى الآن.
إحدى النتائج بعيدة الأثر لهذه العلاقة العربية الإسلامية أن جوانب من المنظومة الفكرية ورؤى وتقاليد هذه الثقافة العربية البدوية أضحت متداخلة ومتساكنة مع تعاليم الدين الجديد. يتجلى ذلك بوضوح في المجال الفني، ذلك أن الفقر النسبي في الموروث الفني للبيئة العربية البدوية وخلوّه من الفنون الكبرى ماعدا الشعر يعتبر عاملاً مهماً في المواقف الإبتدائية الرافضة أو المتوجسة من قبل فقهاء المسلمين العرب تجاه أنواع معينة من الفن. لذلك كان هنالك دوماً مستويين للمشكلة. إحداهما راجع إلى عدم التوافق المعتاد بين العقيدة والممارسة كما أشرنا، وثانيهما يرجع إلى عمليات التطور الثقافي والتي تأخذ مجراها وتمارس فعلها على الرغم من آراء ومواقف رجال الدين وعلى الرغم من خلفية الثقافة العربية بملامحها المذكورة. كان هذا، في الغالب، هو النمط السائد في التفاعل الثقافي في كل مرة يتصل فيها الاسلام، مثل سائر الأديان، بثقافة أخرى.
نفوذ الموروث الثقافي
إتساع ومدى الممارسة والتطور الفني في المجتمعات المسلمة دائماً ما تقرره مكانة الفن في الموروث الثقافي التاريخي لهذه المجتمعات. فإذا نظرنا، مثلاً، إلى الخارطة السياسية الراهنة لدول الشرق الأوسط نجدها عموماً متطابقة مع مواقع الحضارات القديمة في المنطقة. وسيكون مفهوماً تماماً أن نجد أعمال النحت والجداريات الكبيرة منها والصغيرة حول مختلف الموضوعات منتشرة في أرض مصر رغم أن فن النحت والتصوير كان ومازال أكثر أنواع الفن المستهدفة من جانب الفكر الإسلامي التقليدي. وأهم أسباب إستمرار وتطور هذا الفن في هذا البلد أنه كان نوعاً فنياً أساسياً في الحضارة المصرية على إمتداد تاريخها وأصبحت له تقاليده الراسخة في الثقافة والفكر الإستطيقي لذلك المجتمع. على النقيض من ذلك، لا توجد مثل هذه الأعمال وذلك التراث الفني في بلد مثل السعودية.وهنا لابد أيضاً من النظر إلى البنية الثقافية البدوية لهذا المجتمع وموروثه الفني المنبثق عن هذه البيئة الجغرافية والمتمثل في الشعر بإعتباره النوع الفني الأساسي الذي نشأ وتطور منسجماً مع هذه البيئة. وحتى لو نظرنا إلى هذين المثالين من وجهة نظر إسلامية محافظة فمن غير المعقول أن يجادل أحد بأن مسلمي الجزيرة العربية أكثر إيماناً ومراعاةً لتعاليم الإسلام من مسلمي مصر.
مثال آخر للأثر الثقافي التاريخي على مكانة ونوعية الفن نجده في الدويلات الإسلامية غير العربية في أواسط آسيا والتي أنشأها حكام مسلمون من نفس المناطق، مثل الدولة التيمورية في الهند والصفوية في فارس. أولئك الحكام إشتهروا بتبنيهم للفنون وأسهمت رعايتهم لها في إنتاج قدر كبير من أعمال التصوير وما يعرف بفن المنمنمة في القرون الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر. لكن جانب من هذه الأعمال يتعارض مع الآراء الفقهية المحافظة المعاصرة لها. فقد رسم الفنانون مجالس الخمر والرقص وحتى الصور العارية، وتناولوا موضوعات دينية رسموا فيها صوراً للرسول (ص) في مواقف دنيوية وأخروية. وسبب ذلك أن التعبير من خلال الصورة كان جزءاً من موروثهم الفني لذلك يجدونه أمراً طبيعياً أن يعبروا عن معتقدهم الجديد من خلال الوسائل التي يحسون بأنها الأكثر أصالةً وتميزاً في إيصال المعنى. هذا ويظهر تاريخ الفن والمعمار الإسلامي بوضوح أن مراحل التكوين الأولى لهذه الفنون أثناء الخلافة الأموية تكشف عن الأثر الحاسم للتقاليد الإغريقية الهيلينستية والبيزنطية بحكم تأسيس الدولة فوق أرض هذه الحضارة العريقة. ولا يمكن، من ناحية أخرى، التقليل من أثر هذه الثقافات غير العربية على الإنتاج الفني في المدن والحواضر الإسلامية، فهو بادي حتى في أسلوب حياة الحكام العرب إبتداءً من أسرة بني أمية. حتى الشعر العربي نفسه ينهض كدليل على مدى أهمية العامل الثقافي. فبإعتباره النوع الفني العربي الرئيسي، يعالج الشعر شتى أنواع الموضوعات التي تتراوح بين قيم الفخر والأخلاق والزهد والسياسة وحتى التناول المباشر لمختلف مباهج الحياة، وذلك قبل ظهور الإسلام وبعده. لكن، ما هو ملاحظ أن مستوى النقد الذي عادة ما يطال الصورة لا يوازي في قوته وتأثيره ذلك الذي يوجه إلى بعض أنواع الشعر. ويبدو أنه ليس ثمة تفسير لهذا التساهل النسبي تجاه الشعر سوى أنه كان، ومازال، الأداة التعبيرية الرئيسية في متناول الثقافة العربية. وأخيراً نجد في وصف قرابار لطابع العلاقة بين الثقافة والفن في السياق الإسلامي ما يلخص مادار من نقاش في الفقرات السابقة. يقول قرابار:
"كانت هنالك خلفية ووجود لأشياء قامت عليها أو بسببها ما إبتكره المسلمون، كما أن مستوى تفرد وأصالة العنصر الإسلامي يعتمد على طبيعة وقوة وحيوية التقاليد الفنية المحلية. وبإستخدام مثالاً مشابهاً من الطبيعة يمكن تصور الثقافة الإسلامية عموماً والفن الإسلامي خاصةً كنوع من اللقاح مضاف إلى كائنات حية، أما الدرجة والأشكال التي إتخذها اللقاح فقد اعتمدت في أحد جوانبها على الجسم الذي أضيف إليه اللقاح."
التجربة الإسلاموية السودانية
شروع الحركة الإسلامية في " أسلمة" الفنون فور إستيلائها على السلطة في عام 1989 هو في جوهره محاولة لتعديم فكر إستطيقي متجذر وتقاليد فنية عريقة وإحلال محلها ما تعتقد أنه الشكل الفني الديني الإسلامي المطلوب. رأت الحركة في مشروعها هذا خطوة ضرورية بل و"طبيعية" إذا كان للنشاط الفني والمفاهيم الإستطيقية للمجتمعات السودانية أن يجسدوا "الهوية الإسلامية الجديدة" للقطر؛ وهذا ما يتسق مع مفهوم "أمة الإسلام" كهوية وحيدة جامعة لكافة المسلمين والذي تضمره الحركة كنقيض وبديل لأي هوية أخرى، وقد كشفت بإنتظام عن أجندتها السياسية الرامية إلى تحويل السودان إلى دولة إسلامية كجزء من هوية إسلامية عالمية. فقد أصدرت الجبهة القومية الإسلامية وثيقة بعنوان "ميثاق السودان: الوحدة الوطنية والتنوع" في سنة 1987. جاء فيها "أن المسلمين في السودان لديهم حق مشروع بحكم خيارهم الديني ووزنهم السكاني والعدل الطبيعي في ممارسة قيم وأحكام دينهم على مستوى شئونهم الشخصية والإجتماعية والسياسية. لذلك يكون التشريع الإسلامي هو المصدر العام للقانون لأنه التعبير عن إرادة الغالبية الديموقراطية." (مترجم عن منصور خالد 1990).
يمكن إرجاع إلتفات الحركة إلى التنظير بشكل جاد في الشأن الفني السوداني إلى أوائل الثمانينات عندما ألقى حسن الترابي، زعيم ومنظر الحركة، محاضرة في مسجد جامعة الخرطوم، نشرت فيما بعد في مقال مطول بعنوان "حوار الدين والفن"، حدد فيها الأسس النظرية والموجهات العملية لما يرى أنه المدخل الإسلامي الحقيقي للنشاط الفني. (الترابي 1983) وكل التدابير التشريعية والإدارية التي آتخذتها السلطات التنفيذية فور الإنقلاب العسكري كانت تطبيقاً يكاد يكون حرفياً لهذه الأسس النظرية والترتيبات العملية. فيما يلي من نقاش نتناول بإختصار خطاب الترابي حول الفن وما إشتمل عليه من أسس نظرية وموجهات عملية.
تعريف الفن ومكانتة
يؤسس الترابي لخطابه حول الفن على مبدأ التوحيد وهذا ما يضعه بدايةً ضمن التيار الفكري الإسلامي التقليدي في تعاطيه مع الظاهرة الفنية. فهذا المبدأ يحدد رؤيته الإستطيقية ومنظوره في البحث في كل ما يتعلق بالنشاط الفني. والتوحيد، كما يقر الترابي، معناه الإيمان بإله واحد، كلي القدرة وموجود في كل مكان، وكل ما يجري في العالم مرهون بإرادته. إعتماداً على هذا المبدأ يرى الترابي أن الإيمان يعني التسليم الكامل لله لأن ذلك "هو التوحيد الذي يوحد شتات الحياة ويصبها في عبادة الله الواحد." كما أن التوحيد ليس "مفهوماً عقلانياً محضاً وإنما هو إيمان وفعل حي أيضاً." ومن هنا يفيد الفنان من التدين لأن ذلك "يهب الفنان مدداً روحياً لرمزية أوسع من خيال كل فنان لم يعرف الله، إذ يثري خياله بالغيب وتطلعاته التي لا تنتهي." ويرتكز الترابي في آرائه هذه على تفسيره للآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي يرى فيها إقراراً بالجمال والقيم الفنية، ويورد الآيتين "إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب" و"وقد جعلنا في السماء بروجاً وزيناها للناظرين" بإعتبار تصويرهما للجمال الكوني وإيحائهما لما وراء الأشياء من خالق مقتدر ومبدع. هذا إلى جانب إشارته للقرآن نفسه وما إحتواه من جمال لغوي وفن قصصي. من ناحية أخرى، يرى الترابي أن الفن ليس "إلا صنع الجمال وهو قدرة وموهبة من الله للإنسان تستتبع التكليف والمسئولية." فمبدأ التوحيد، إذن، يحدد معنى ومكانة الجمال والفن في حياة الانسان.
لكن هناك جانب محوري هام في خطاب الترابي وهو إشارته لجانب المحاذير المتعلقة بالظاهرة الجمالية مستشهداً بالآية "إنا جعلنا ما على الأرض زينةً لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً." ويقول شارحاً، "إذا كان الجمال أو صنعه ظرف حياة قدره الله إبتلاءً ليؤمن الإنسان أو يكفر فذلك يعني أن الله قد ركب في الجمال طبيعة مزدوجة، فيمكن بإدراك الجمال وصنعه أن يهتدي الإنسان ويعبد ويزداد هدى وعبادة ويمكن أن يضل ويفتن."وكذلك الأمر بالنسبة للفن. يقول الترابي موضحاً هذه النقطة من خلال صلة الفن بالدين وماهو مشترك بينهما:
"والفن من حيث هو ممارسة رمزية تومئ إلى مثال جمالي وتفاعل مع خيال الفنانوتتجاوز به الواقع المباشر ويقترب من الدين بأكثر من كل ممارسة أخرى، كالحكمأو الإقتصاد أو الجنس، فهذه لا تنطوى على قيمة رمزية مثل الفن. ولما كان الدينممارسة رمزية أيضاً تتفاعل مع الغيب وتتجاوز ظاهرة الحياة … فإن الفن وثيقبالدين ويمكن للدين والفن أن يتساوقا فيهدي الفنان إلى الإيمان ويلهمه إيمانه فناً زائداً.ولكن بذات الطبيعة في الفن تكون الفتنة. فهو، مثل الحكم والإقتصاد والجنس، يجذببالشهوة ويوشك أن يبهر الإنسان ويعتقله فلا يبلغ مقام تجاوز الأشياء بدفع منجاذبيتها تطلعاً إلى وجه الله."
وكمثال لما يمكن أن ينشأ من تناقض بين الفن ومبدأ التوحيد، يشير الترابي إلى التجسيد الفني لصورة الإله لمن يتعبدها أو، كما يقول، "تصوير كل شىء يكون معظماً وموقراً ويتجسد التعظيم بالصورة فيوشك أن يورط في إشراك كتماثيل الزعماء وصورهم." ويخلص الترابي في تشريحه لظاهرة الفن إلى أنه بحكم قربه من الدين يصبح "أشد فتنة عن الدين لأنه إنفعال شعوري لا يناسب التوجه العاقل والحركة القاصدة"، كما أنه "إنفعال طلق من الوجدان لا يكاد يعرف حدود إلتزام موجه منضبط …وهو بهذا أقرب نسباً إلى خاصة نفس الفنان وأحواله الذاتية وأبعد من أن يكون نظاماً موضوعياً أو وظيفة إجتماعية ملتزمة للمصالح العامة أو بيئة الواقع وحاجاتها."
وفي سياق تأكيده لجانب الفتنة والإغواء في الفن يشير الترابي إلى تناول القرآن لطائفة الشعراء، مقتطفاً جزءاً معيناً من الآية في سورة الشعراء "والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم تر أنهم في كل واد يهيمون. وأنهم يقولون ما لا يفعلون." وفي إشارة لمجال الغناء يقول، "ويمكن للفن بوقعه على النفوس أن يتخذ أداة للإلهاء عن كل أمر هادف قاصد، والسخرية بكل شأن موقر في نظام الحياة الاجتماعية." ثم يورد الجزء التالي من الآية القرآنية في سورة لقمان، "ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل به عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزُؤاً أولئك لهم عذاب مهين." غير أن الترابي لا يقتبس نص الآية كاملاً مثلما فعل مع الآية السابقة الخاصة بالشعراء رغم الأهمية القصوى لهذه الأجزاء غير المقتبسة. وفي الواقع، كثير من الفقهاء، مثل إبن قيم الجوزية (ت 1350) والقرطبي (توفى 1272)، فسروا صيغة "لهو الحديث" بمعنى الغناء. لكن بالنظر إلى وقت وسبب نزول الآية، بإعتبارهما من العناصر الهامة في تفسير النص القرآني، فقد جادل كثير من المفسرين بأن السياق الذي نزلت فيه هذه الآية وما يترتب عليه من معنى لا يشكلان أساساً ينبني عليه حكماً تعميمياً على الغناء وتحريمه. يقال في سبب نزول هذه الآية أن النذر بن الحارث كان يسرد في مجالس قريش أسطورة رستم وأصفانديار وبطولاتهم الخارقة في الوقت الذي ينتقص فيه من قدر القصص القرآني حول عاد وثمود والأحداث التاريخية الأخرى. يقال كذلك أنه كان يأتي بالمغنيات إلى مجالس من يعتقد أنهم ربما يتحولون إلى الإسلام بهدف إلهائهم. هذه هي الأحداث المحددة التي تذكر لنزول الآية. وهناك حديث رواه البخاري عادةً ما يذكر كدليل على عدم تحريم الغناء، إذ يروى أن الرسول (ص) إقترح على عائشه وهي ترافق إحدى العرائس إلى زوجها من الأنصار أن تأخذ معها جاريةً مغنية ومعها دفها لأن الأنصار، بحسب قول الرسول (ص) كما جاء في الحديث، تحب اللهو. وجدير بالذكر أن الترابي لم يورد هذه الآيات في نصها الكامل. فمثلاً لم يذكر الجزء المتبقي من سورة الشعراء وهو "إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً …" وفي الآية المتعلقة بالغناء كان من الأوفى أن يتطرق الحديث إلى إشكاليات التفسير وأسباب النزول ومدلول ذلك بالنسبة لحالة الخلاف الفقهي حول تحريم وتحليل الغناء.
من ناحية أخرى، يذهب الترابي إلى أن الفن يحتل حيزاً كبيراً في حياة المجتمعات الحديثة. ويرى أن تطورات تاريخية وثقافية معينة في الغرب إلى جانب سيادة الأنماط الحضارية الغربية وفاعلية ثورة الإتصالات جعلوا من الفن "هماً كبيراً في حياة المجتمع البشري الكلي" على حد تعبيره. إزاء هذا الواقع وبما أن الدعوة الدينية، يقول مستطرداً،"إنما تخاطب الناس من تلقاء الهموم التي يطرحها واقعهم" يخلص الترابي إلى أنه لابد من إتخاذ الفن مادةً لعبادة الله "لأن إهماله يترك باباً واسعاً للفتنة الملهية كما أن الأخذ به بما ينبغي يفتح باباً واسعاً للدعوة بسبب جاذبية الجمال ولأن الغالب من الناس يقبلون على الفنون والجماليات ويمكن أن توافيهم داعية الدين هناك.
الفن والموروث الفقهي الإسلامي
يتبنى الترابي إستراتيجية ذات وجهين في مواجهتة لمشكلة العلاقة بين الفن وكل ما جاء في الموروث الفقهي حوله. فهو من ناحية، يتناول بشكل نقدي الجانب من الفقه المتعلق بالفن، ويحاول من ناحية أخرى، دمج الممارسة الدينية والجمالية بإعتبار أن أي ممارسة جمالية هي أيضاً ممارسة دينية كما يعتقد. وفي هذا يبدو، إلى حد ما، مفارقاً للموقف الفقهي التقليدي بإتخاذه إتجاهاً عملياً منفتحاً. يرى الترابي أن غلبة التحفظ والمنع لدى الفقه التقليدي ليس مردها محض النظر في النصوص، ولكنها راجعة إلى إعتبارات تاريخية منها، حسب قوله، "كثرة الظواهر الفنية الآتية من بيئات غير مسلمة، والبيئة العربية فقيرة نسبياً في المادة الثقافية الفنية بإستثناء الشعر مما حدا بالفقهاء إلى الريبة والشك"؛ ومنها "أن الحياة الإسلامية الموحدة أصيبت في شمولها بعلل التمزق فانزوت نيات التدين في الشعائر … فانزوى المتدينون عن الفن وانزوى الفنانون عن الدين وإنحسر الفقه"؛ ومنها أن الإنحطاط في حياة المسلمين أدى إلى "حالة نفسية محافظة تخاف الفتنة وإنعكس ذلك فقهياً في الولع بسد الذرائع والجنوح للمبالغة في التحريم والترهيب"؛ ومنها أن "فترة إزدهار الفنون الإسلامية بعد مرحلة الحياة العربية صادفت مرحلة خمول وجمود الفقه الذي كان طابعه المنقول عن المواقف القديمة"؛ ومنها أن "الفقه الاسلامي، كشأن سائر النظم الفقهية، لما بلغ درجة عالية من التطور الفني إتجه إلى أخذ النصوص مأخذاً لفظياً وجزئياً ومجرداً، ولا يعني بالعلل والمقاصد والأثر الواقعي … بل كان يقف عند حد المأثور بلفظه وشكله." ويطرح الترابي ضمن خطابه لتجاوز هذا الجمود الفقهي بديلاً يراه، كما يقول، "جائزاً وحسناً في مرحلة تأصيل جديد لأمر الدين والفن"، وهو أن ينتهج الفقيه "نهج فقه القواعد ولا يقول على الفتوى القطعية التي تتنزل على مواقف معينة، بل يحمل القول ويهدي إلى القواعد والأصول" بمعنى أن على الفقه "أن يبدأ في أصول الشرع ليؤسس الأحكام على أساس من العقيدة، ثم ينزل إلى القواعد والتي ترسم الإطار الكلي للشريعة، حتى إذا تحول المجتمع إلى مرحلة البناء الإسلامي تطور الفقه نحو التفصيل والتشعيب والأحكام الفرعية الدقيقة."ويذكر الترابي بعض النماذج في كيفية تطبيق "فقه القواعد" هذا على الفن منها، أن صناعة الجمال عموماً يجب أن توظف للعبادة مع وجوب الحذر من طبيعة الفن وفتنته، وكل فن يلهي عن عبادة الله أو يعارض حدود الشريعة فهو ممنوع، وبما أن الشرك هو أكبر الكبائر فأي تجسيد فني يوشك أن يدفع إلى الشرك فهو حرام.
دور الفن في النشاط السياسي
يقترح الترابي بعض الموجهات العملية لتطبيق "فقه القواعد" هذا لافتاً النظر إلى تاريخ التجربة الفنية الأوروبية. وفي مايلي تلخيصاً لهذه الموجهات:
– بما أن الدين والفن كلاهما ممارسة رمزية هدفها تجاوز الواقع إلى مثل أعلى، الدين يسعى إلى الخلود والفن مثال أعلى جمالي، فيمكن أن يقود الدين الفنان إلى الإيمان الحق ويلهم الإيمان الفنان في عمله الإبداعي. والدين التوحيدي هو وحده الذي يخلق الفنان الحقيقي والأصيل. وفي هذا السياق يصف الترابي فن العصور الوسطى الأوروبية بأنه نتاج للعلاقة المنسجمة بين الكنيسة والمؤسسات الفنية ويدعو إلى محاكاة مثل هذه التجارب. ويرى أن هذا الفن الأوروبي قد إنحرف عن مساره في إرتباطه بالدين تحت تأثير حركة النهضة الأوروبية من جانب وحركة الإصلاح الديني من من جانب آخر مما أدى إلى خلق نوع من العقلانية أبعدته عن الممارسة الدينية الحية،ونتج عن ذلك في نهاية الأمر أساليب فنية فوضوية ورومانتيكية لا هدف لها غير المتعة.
– يوظف الفن كأداة آيديولوجية.
– تجنيد الإمكانات الفنية كلها في سبيل الله في المراحل الأولى للثورة والجهاد. والشعر والإنشاد من الأشكال المهمة في هذا الصدد.
– إعادة النظر في فقه العقيدة الموروث حول الفن وإستبداله بإجتهاد فقهي أصيل يرسم معالم الطريق المستقيم في الفن.
– ليس هنالك من إعتراض على الفنون البصرية والسمعية إلا إذا خالفوا القواعد الأخلاقية الإسلامية. وإحتمالات أشكال الفن الديني ليس لها حدود، كما أن ما وصل من تاريخ الفن الإسلامي يشتمل على إرث يمكن، بعد نقده، أن تنهض عليه أشكال فنية جديدة.
– إعادة تقييم الممارسات الفنية الحالية، الحديثة منها والتقليدية، لأنها "تحمل قيم الجاهلية في الفتوى أو الجنس أو الفخر، أو الاخلاق وجراثيم أمراض الحضارة الغربية المنعكسة على الفن الحديث."
– الحياة الإسلامية التوحيدية نسق متكامل، ولا يمكن أن تحدث نهضة بالفن الإسلامي إلا من خلال نهضة شاملة لكل جوانب حياة المسلم.
– الذين يقودون النهضة الفنية "لابد أن يكونوا من المؤمنين ذوى الدوافع الناهضة" لكي "يقودوا بالدعوة والقدوة حركة إنابة الفن إلى الدين."
– الوسيلة الأبلغ أثراً في تأسيس فن ديني هي "أن يرى الشعب نماذج الإبداع الفني الديني"
– لا حاجة بعد إستقامة السياسة إلى اللجوء إلى رقابة رسمية لفرض الفن الاسلامي."
نواصل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.