رشيد الخيُّون لا يُحتمل ما يحدث اليوم من إيغال في التعصب العقائدي والفقهي، وهو يتعدى إلى سفك الدِّماء وخراب المجتمعات، حتى وصل عند الجماعات المتطرفة إلى تكفير الأم والأب والأخوة، والإفتاء بقتلهم. هكذا وصل عدم تحمل الناس بعضهم بعضاً في التدين إلى داخل الأسر، بنسف قاعدة الاختلاف وجوازه. بينما الاختلاف قاعدة مستوحاة من الكتاب الكريم وبوضوح، في آيات لا تحتاج تفسيراً ولا تأويلاً. ما علاقة هذا المستهل بقول الإمام مالك بن أنس (ت 179ه) لخليفة يُخشى سُلطانه ويُرتجى، كأبي جعفر المنصور (ت 158ه): «دع الناس»؟ عرف عن صاحب المذهب (المالكي) برفضه أن يكون كتاب «المُوطَّأ» دستور الفقه الوحيد مرسوماً بقرار السلطة. وجاء في الرّواية، قال مالك: «لما حج المنصور دعاني فدخلتُ عليه، فحادثته، وسألني فأجبته. فقال: عزمت أن آمر بكتبك هذه -يعني المُوطَّأ- فتنسخ نسخاً، ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين بنسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها، ويدعوا ما سوى ذلك من العلم المحدث، فإني رأيت أصل العلم رواية أهل المدينة وعلمهم. قلت: يا أمير المؤمنين، لا تفعل، فإن الناس قد سيقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سيق إليهم، وعملوا به، ودانوا به، من اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغيرهم، وإن ردهم عما اعتقدوه شديد، فدع الناس وما هم عليه، وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم. فقال: لعمري، لو طاوعتني لأمرت بذلك» (الذَّهبي، سير أعلام النُّبلاء). فإلى ماذا تشير هذه القصة، ذات المغزى العظيم، غير شرعنة الاختلاف كأمر إلهي أولاً، وحاجة إنسانية ثانياً؟ يعلم الإمام أن الخليفة إذا عمّم كتابه وأمر الناس به سيكثر القتل فيهم، لأن رفض الأخذ ب«المُوطَّأ» يُفسر رفضاً لأمر الخليفة، وبالتالي البراءة ممن لا يستجيب. ناهيك عن أن الإمام له تجربة أليمة مع والي المدينة، وابن عم الخليفة، جعفر بن سليمان بن علي (ت 174ه) عندما «جرده وضربه بالسياط.. حتى خُلعت كتفه» (ابن خِلِّكان، وفيات الأعيان). فكيف يجعل مِن كتابه ذريعةً للجور على غيره؟ كذلك يشير اعتراض الإمام إلى عدم ادعائه بالحق لوحده، وأن السُّلطة شيء والدِّين والفقه شيء آخر، وأن للآخرين اجتهاداتهم مثلما له اجتهاده. فأول الدروس مِن هذا الرفض تأكيد أن الاختلاف رحمة لا نقمة، وحسب ما نقله المؤرخ كمال الدين الدِّميري (ت 808ه)، عمَن سبقوه، أن مالكاً احتج عندما أراد خليفة عصره حمل الناس على«المُوطَّأ»، معتذراً بما اعتبره المؤرخ المذكور حديثاً نبوياً: «اختلاف أمتي رحمة» (حياة الحيوان الكبرى). كذلك يأتي عند إخوان الصَّفا (الرابع الهجري): «مِنْ أجل هذا قيل اختلاف العلماء رحمة» (رسالة الآراء والدِّيانات). إلا أن آخرين يعتبرونه مأثوراً لا حديثاً صحيحاً. جاءت قاعدة الاختلاف وشرعيته، في الأمر الديني، بما لا يسمح باستحداث مصطلح «الفرقة النّاجية»، واعتبار ما سواها كفرة في «النَّار»، أو ما عُبر عنه قُبيل الإسلام ب«أهل الله»(الأزرقي، أخبار مكة). شُرع الاختلاف في ثلاث آيات: «لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً» (المائدة: 48)، و«وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» (يونس: 19)، و«وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ»(هود: 118). أقول: مِن حِسن حظ الدَّاعين إلى السلم واحترام الاختلاف، والمؤمنين ب«اختلاف أمتي رحمة»، أن هذه الآيات لم تنسخ واحدة منها، حسب صاحب «الناسخ والمنسوخ»، هبة الله بن سّلامة البغدادي (ت 410ه). فالأخير أشار إلى نسخ آيات السلم والمحبة والعفو والصفح والتعاضد والتكافل بين الناس على اختلافهم، ومنع السلطة والهيمنة باسم الدين، بآية «السيف». قال: «نسخت مِن القرآن مئة آية وأربعاً وعشرين» (الناسخ والمنسوخ)، والآية الناسخة: «فاقتلوا المُشركين حيث وجدتموهم» (التوبة: 5). إلغاء «الاختلاف» كلف البشر دماءً وثروات، مورس بأوروبا في (16 الميلادي)، ولم تنهض حتى استرجعت قاعدته وتبنتها في الدين والمذهب، ومازال يُكلف منطقتنا، بل وما يصل العالم مِن شرور التشدد، مِن هدر في الأرواح وخراب العمران. تلك القاعدة التي لو غفلها الإمام مالك لكان سبباً في ما يحصل. كأنه بعدم قبوله انتبه لحقيقة أن الدِّين غير السِّياسة، فاعترض على ما أراده خليفة المسلمين زمانه. إنه درس بليغ، لمَن وصل به الحال إلى قتل ذويه، لأنه أخرجهم من فرقته الناجية. للموقف المذكور وغيره ظل الإمام مالك بما وصُف به حقاً: «وهو المهيب وليس ذا سُلطانِ» (ابن بكار، الأخبار الموفقيات). رشيد الخيُّون باحث عراقي. (منقول).