لو طالعتنا الصحف بمليون (مانشيت) على شاكلة(د.نافع: من يثبت فساده سنضربه بالرصاص في ميدان أبو جنزير) فإن ذلك لن يبعث الأمل مطلقا في مكافحة الفساد! ما دامت البيئة السياسية والقانونية المعطوبة كما هي، والمتحدثون عن الفساد لا يذكرونها من قريب أو بعيد! فلو وجهنا أنظارنا صوب حرية الصحافة- وهي الركن الذي يلينا من أركان مكافحة الفساد - نجد إهدارا تاما لما يعرف بمبدأ(اتساع دائرة الشك المشروع) ومعناه أن الشخص المسئول في وظيفة عامة كلما ارتفعت درجة وظيفته كلما اكتسب انتقاد مسلكه والتشكك في مصادر ثروته مشروعية أكثر! وبالتالي إذا دلت قرائن أحوال معينة على أنه استغل نفوذه أو مد يده إلى المال العام فمن حق الصحافة أن تنشر ذلك دون أن تطالب بتقديم الأدلة والإثباتات بل الشخص المسئول هو المطالب بإثبات براءته!! وهذا المبدأ معمول به في الدول الراسخة في الديمقراطية وهو مبدأ يمكن الصحافة من القيام بدورها كسلطة رابعة على أكمل وجه! أما في السودان فهذا المبدأ معكوس تماما فكلما ارتفع مقام المسئول كلما زادت حصانته ضد النقد والمساءلة ناهيك عن المحاسبة! فالصحافة محرومة تماما من إعمال هذا المبدأ الضروري والفعال في إحكام الرقابة على المسئولين وتسليط الأضواء الكاشفة على مكامن الفساد المستشري والذي أصبحت له أنياب ومخالب وشبكات متضامنة وذات خبرة ودراية في التلاعب بالقوانين والإفلات من الرقابة والمساءلة إن وجدت، فلا تستطيع الصحافة السودانية تناول أية قضية من قضايا الفساد المالي أو الإداري أو السياسي مستندة إلى قرائن منطقية بل تطالب الصحافة بإبراز الأدلة والمستندات والوثائق أي أن تقوم بعمل هو من اختصاص النيابات ولجان التحقيق وليس الصحف!! فمثلا إذا رصدت مبالغ معينة من المال العام لإنجاز هدف عام ولم يتم إنجاز هذا الهدف فمن حق الصحافة أن تتساءل عن السبب وإذا لم تجد إجابة مقنعة فمن حقها أن تضع المسئولين في دائرة الشك والاتهام بالفساد وعليهم هم أن يثبتوا براءتهم وعلى الإدارات العليا التي يتبعون لها أن تتولى هي أمر التحقيق معهم وتقديم أدلة براءتهم أو إدانتهم للرأي العام دون أن ترفع عليها قضايا بموجب مواد إشانة السمعة في القانون الجنائي فتجد نفسها مهددة بالغرامات المليونية ومن ثم الإفلاس والتوقف! وهذه ليست دعوة لأن تكون الصحف فوق القانون ولا تتوخى الصدق والأمانة والدقة فيما تنشر فتمارس التجني والاتهام بالباطل، بل هي دعوة لتحرير الصحافة من ترسانة القوانين المعيبة المقيدة للحريات والتي تشكل معوقا أساسيا لأداء الصحافة لواجبها كسلطة رابعة، فما دامت الصحافة هي ضمير الشعب ولسانه فإن استهداف الصحافة والسعي لتدجينها وتكبيلها ما هو إلا دلالة على الرغبة في حماية الفساد واستبقائه واغتيال الإصلاح! وأهم مدخل لهذا الإصلاح هو تحرير الصحافة، فلا أمل في مكافحة الفساد في بلد يمكن أن تغلق فيه الصحف دون أمر قضائي، ومحكمتها الدستورية حكمت بأن من حق جهاز الأمن الرقابة على الصحف!