الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تقارير: القوات المتمردة تتأهب لهجوم في السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    د. مزمل أبو القاسم يكتب: جنجويد جبناء.. خالي كلاش وكدمول!    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    الخارجية الروسية: تدريبات الناتو في فنلندا عمل استفزازي    مصر تنفي وجود تفاهمات مع إسرائيل حول اجتياح رفح    السوداني في واشنطن.. خطوة للتنمية ومواجهة المخاطر!    "تيك توك": إما قطع العلاقات مع بكين أو الحظر    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    منتخبنا يواصل تحضيراته بقوة..تحدي مثير بين اللاعبين واكرم يكسب الرهان    حدد يوم الثامن من مايو المقبل آخر موعد…الإتحاد السوداني لكرة القدم يخاطب الإتحادات المحلية وأندية الممتاز لتحديد المشاركة في البطولة المختلطة للفئات السنية    المدير الإداري للمنتخب الأولمبي في إفادات مهمة… عبد الله جحا: معسكر جدة يمضي بصورة طيبة    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    طائرات مسيرة تستهدف مقرا للجيش السوداني في مدينة شندي    هيثم مصطفى: من الذي أعاد فتح مكاتب قناتي العربية والحدث مجدداً؟؟    ترامب: بايدن ليس صديقاً لإسرائيل أو للعالم العربي    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محجوب شريف: قصيدته حياة .. حياته قصيدة
نشر في حريات يوم 02 - 04 - 2017


ورقة مقدمة لمنبر منتدى شروق الثقافي بالقضارف
في إطار مهرجان محجوب شريف للشعر
الدورة الثالثة 21 مارس 2 أبريل 2017
تحت شعار: جميع الأغاني اتكالن عليك
إن النظرية التي تتناول نصوص الكاتب بعيدا عن الكاتب نفسه لن تنجح في تحقيق أهداف هذه الورقة التي ترى أن أشعار محجوب شريف وحياته مرتبطان ارتباطا لا فكاك منه . تتكئ الورقة على محجوب وعينها على الوطن الذي تجافي أفعال كثير من قادته الثقافيين والسياسيين أقوالهم .
وقد بلغت هذه المجافاة قمتها عند بعض الشعراء الذين أضحوا مدّاحين لسلطان هو أحق بالذم ، وعند كثير من القادة السياسيين بائعي الكلام ، الذين أمست السياسة لديهم مواسما لتكاثر الكذب والثروات .
كما أن الشقة بين بعض الشعراء وأشعارهم بلغت بونا شاسعا وبتأسيس نظري يهدف إلى النأي بهم عن مشاهدة أنفسهم على مرايا أشعارهم .
قيل أنه عندما حاول أبو الطيب المتنبى الهرب من قطاع الطرق تصدى له قائدهم مذكرا إلى أين؟ ألست أنت القائل:
الخيل والليل والبيداء تعرفنى .. والسيف والرمح والقرطاس والقلم
فتراجع المتنبئ عن فكرة الهرب وقاتل حتى قُتل … لقد أردته كلماته قتيلا .
لكن المتنبئ احتاج لمن يذكره بقوله الذي لا سبيل إلى تأويله بخلاف معناه المشترك بين قائله وسامعه . لم يحتجْ محجوب شريف إلى من يذكّره ، فقد ظلّ طوال حياته يسدد فواتير كلماته فصلاً وسجناً وتعذيباً ، أو ظلت كلماته تُترجم تلك المعاناة المضنية لوجه الوطن ، أفعله كان أولا ؟ أم في البدء كانت الكلمة ؟
لم يختر محجوب أن يختبئ وراء غموض ويتدثر بنخبة قارئة ، بل آثر أن يكتب لعامة الناس ، مؤكدا على عظمتهم وعلى ضآلة حاكمهم ذاك الجائر .
ترتكز هذه الورقة على أشعار محجوب المنشورة في دواوينه الثلاثة : الأطفال والعساكر( ترتكز هذه الورقة على أشعار محجوب المنشورة في دواوينه الثلاثة : الأطفال والعساكر(1) ، والسنبلايه(2) ، ونفاج(3) . رغم أن شعر محجوب الذي لم ينشر في دواوين يفوق الذي نُشر ، إلا أن كل النصوص الواردة في هذه الورقة من الدواوين الثلاث المشار إليها .
احتوى ديوان "الأطفال والعساكر" الذي صدرت طبعته الأولى عام 1975 على 19 قصيدة كتب أكثرها داخل السجن ، وقد كُتبت هذه القصائد في خضمّ الصراع الدموي مع النظام المايوي . حلّقت قصيدتان فقط من هذه القصائد ال19 وركّت على ديواني "السنبلايه" و"نفاج" اللذين صدرا بعد أكثر من عقدين من صدور "الأطفال والعساكر" ، وهاتان القصيدتان هما : بطاقه ، ومليون سلام .
احتوى ديوان "السنبلايه" الذي صدرت طبعته الأولى في العام 1998 على 29 قصيدة . تضمنت قصائد منذ ستينات القرن الماضي ؛ قصائد عاطفية واجتماعية إن صح التعبير وقصائد نضالية ضد النظام المايوي في النصف الأول من الثمانينات ، وقصائد نضالية ضد نظام الإنقاذ في بداياته .
كل قصائد "السنبلايه" مضمنة في ديوان نفاج عدا قصيدة واحدة هي "سِلِمْتَ" . وقد اشتمل ديوان "نفّاج" على 36 قصيدة ، بمعنى أن هنالك 8 قصائد في نفاج لم ترد في "السنبلايه" وهي : نار الحنين ، جيناك ، لا ، يا قلبي ما تعتاد ، نظرة ، ست البنات ، وداع ، يابا مع السلامة . ويبدو أن هذه القصائد الثمانية كُتبت في السنوات الأربع التي تلت صدور ديوان "السنبلايه" . الشيء الذي يعني أن الملاحظة التي تنطبق على "نفاج" فإنها تنطبق على "السنبلايه" في معظم الأوقات .
ويلاحظ أنّ هنالك 10 قصائد في الديوانين أسماءهم مختلفة اختلافا جزئيا أو كليا .
الجدول أدناه يتضمن العناوين المختلفة للقصائد العشر:
وقد احتوى الديوانان على قصائد منذ ستينات القرن الماضي ، لم يكن مناسبا صدورها في الديوان الأول المفعم برائحة البارود والدم ، مثل قصيدة "الغايب" التي كتبها الشاعر في العام 1967 .
الشعر سلاح:
كان محجوب شريف اشتراكيا ، ولكنه لم يكن شيوعيا حتى حلول العام 1970 (4) ، وكان انضمامه للحزب الشيوعي قُبيل أو في ثنايا الأحداث العاصفة إبان صراع الحزب مع نظام مايو والذي بلغ ذروته الدامية في يوليو 1971 ، حين علّق النظام قادة الحزب على أعواد المشانق وهشّم صدورهم بالرصاص الغادر ، وذلك في أعقاب انقلاب هاشم العطا على انقلاب مايو .
زج النظام بمئات الشيوعيين في السجون ، وباتت مطاردة قادته المختفين شغله الشاغل . وفي هذه الأجواء كان لا بد لمحجوب شريف أن يكون في لب الصراع بصوته الجاهر .
كان نظام جعفر نميري يسعى إلى تصفية الحزب الشيوعي واجتثاثه من جذوره بنحر قادته والتننكيل بعضويته . فلم يرثُ محجوب قادة الحزب بل أعاد تعريف المشهد من وجهة نظر محارب أثناء سير المعركة ، فقد قال في "قصيدة حب لعبد الخالق" ..
الفارس معلق، ولاّ المُوت مَعَلق
حَيَّرنا البَطل
يا ناس الحَصل
طار بي حَبلوُ حَلَّقْ
فَجَّ الموت وفات، خلى الموت معلق
في عينينا بَات
وسط الناس نَزل
بالحزب الشيوعي
أكد محجوب أن القائد نزل ليواصل قيادة حزبه ، وقد كرر محجوب "الحزب الشيوعي" أربع مرات في هذه القصيدة ، مؤكدا ألا سبيل لتصفية الحزب ، ومشدداً على أن كل قادته باقون غصبا عن الطاغية ..
الشفيع يا فاطمة في الحى في المصانع وفي البلد حى
سكتيها القالت أحي ما حصادو الأخضر الني راضى عنو الشعب والدي ومات شهيد، أنا واحلالى ولكن الحزب في حقيقة الأمر كان يعاني أشد المعاناة جراء التصفيات والقمع والتضييق ، للدرجة التي جعلت محجوب يحتفي بصدور بيان للحزب في تلك الفترة ..
وديل أنحنا
القالو فتنا
وقالو متنا وقالوا للناس انتهينا جينا زى ما كنا حضنك يحتوينا
وكان محجوب في عمق دائرة الخطر وفي قمة التحدي وعلى استعداد للموت رفضا للظلم وإباء للقهر .. وحيات أمنا الخرطوم أشيل شيلي
واشد حيلي واموت واقف علي حيلي
وأقولك يا أعز الناس على الوعد القديم جايين وبين الثورة والسكين شيوعيين
وحتي الموت شيوعيين
ها هو مرة أخرى يصرخ بانتماءه الصارخ ، فلا مجال للمجازات والرموز . ففي خِضَمّ المعركة الدائرة رحاها لا يصلح سوى الجهر الصادع والنزال العنيد . يقول محجوب شريف في كلمة تصدّرت إحدى طبعات "الأطفال والعساكر": "كان دوي الرصاص فعلا مباشرا . كان حبل المشنقة فعلا مباشراً . وكان حائط السجن حائط بمعنى الحائط ، والباب من الحديد ذي الترابيس التي تشبه أصابع العمالقة . كانوا يريدون تصفيتنا جسديا ومعنويا ، وكنا في سباق مع كل تلك الأفعال الشريرة . لا بد من نشيد . لا بد من أصوات تعلو" .
أراد محجوب لنفسه أن يكون صوتا يزيد من تماسك الرفاق ويهز كرسي الطاغية من تحته . وقد دفع محجوب ثمن مقاومته الباسلة ، فقد تم فصله تعسفياً من العمل في أغسطس 71 وحتى سبتمبر 78 ، و فُصل تعسفياً مرة أخرى في نهاية عام 1979م وحتى يوليو 1986م ، وقد أعيد للعمل إبان العهد الديمقراطي(5) أي أنه قضى 13 سنة مفصولا عن العمل من جملة 16 سنة جملة عمر النطام المايوي! .
وقضى كذلك معظم فترة نظام مايو مسجونا ، إذ أنه قضى حوالي 10 سنوات مفرّقة في سجون الدكتاتور نميري(6) ، أو بالأحرى هو عاش ست سنين متفرقة خارج سجون مايو من بين سنين سجنه الطويل .
لم تنته المعركة الدامية لكن غبارها خفّ في النصف الثاني من السبعينات . ولمّا توفر قدر من الهدوء النسبي الحذر ، سنحت فرصة للمراجعة ، فتعدّل القاموس الشعري لمحجوب كما سيتبين لاحقا .
الشعب الواحد :
راجت في الخطاب السياسي المعارض ربما في العقدين الأخيرين مصطلح "الشعوب السودانية" لوصف المكونات البشرية القاطنة على أرض السودان ، وهو استخدام في ظني يستبطن التشظي أكثر من استبطانه التنوع ، إذ أن وجود عدة شعوب يتطلّب وجود عدة دول . ولم يُعدد أحدهم هذه الشعوب السودانية ويسمّها . عليه فإنّ هذا الخطاب الذي يسعى لتأسيس دولة حديثة ، يستخدم بلا وعي منه اللغة القرآنية الواردة في الآية (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا) التي تعطي "شعوب" معنى أفخاذ أو بطون القبائل أو القبائل العظام أو الأنساب(7) ، ولا يستخدم لغة الدولة الوطنية الحديثة التي تقول أن عناصر الدولة هي: الشعب ، والإقليم ، والسلطة السياسية . "الشعب" وليس "الشعوب" .
لم ترد مفردة "شعوب" بتاتا في دواوين محجوب شريف لوصف السودانيين ، وإنما وردت مفردة "شعب" . تناثرت في الدواوين الثلاثة ، ووردت "شعب" واشتقاقاتها في ديوان "نفاج" 22 مرة (شعب ، الشعب ، شعبية ، شعبنا ، شعباً ) ووردت مفردة الوطن أو السودان 27 مرة (وطن ، الوطن ، وطناً ، وطنا ، السوداني ، السودان ، سودانا) بل وتمطّقه حرفا حرفاً
الألف .. اللام .. السين .. الواو .. الدال .. الألف .. النون
السودان الوطن الواحد
فهو شعب واحد ، له وطن واحد ، وطن ينبذ الفرقة . نقرأ من ديوان نفاج ..
بور وبور سودان بارا والجنينه عبري ولا واو حاجة مش كويسه كل زول براو استخدم لغة أقرب إلى عربي جوبا في هذه القصيدة "عشة كلمينا" وانفتح النص على لغة العالم بمفردة "ناو"
هي سودانا بكره
من سودانا ناو
ولعله لم يكن من قبيل الصدفة أن ديوان "نفاج" هو عبارة عن ديوانين في كتاب واحد : قصائد محجوب شريف بالعامية السودانية من جهة وقصائد للشاعر الشاب عثمان صالح باللغة الانجليزية من الجهة الأخرى . التقت في الديوان لغتان ، والتقى فيه جيلان .
ولم يقسم الشاعر في "نفاج" سوى قسم واحد ، فقد أقسم بالشعب السوداني ، الذي وصفه بأنه أعظم شعب ..
وحياة الشعب السوداني
في وش المدفع تلقاني
وظل الشاعر في خشم الموت طوال عمره وهو يمني نفسه بأن يرى الوطن الذي يُحب كما يُحب ، مكان السجن مستشفى ، مكان المنفى كليه ، مكان الأسرى ورديه ، مكان الحسروة أغنيه ؛ أو أن يستشهد في الطريق لإنجاز هذا التحول . ولم يتسلل
الخوف إلى قلبه أبدا . لذلك عندما يقول الشاعر "أخاف" فللكلمة دلالة عميقة لشاعر عُرف عنه عدم الخوف خلال نضاله الممتد الطويل ، إن قالها علينا أن ننتبه ..
أخاف الطريق ..
اللي ما بودي ليك
وأعاف الصديق ..
اللي ما بهم بيك
إنها الطرق التي تشير علاماتها الظاهرة إلى الوطن ولكنها قد تفضي إلى الهلاك . ولا بد لمحجوب شريف أن يخاف وبشدة فقد سبق له أن تنكّب طريق الوطن عندما أنشد (يا فارسنا ويا حارسنا) فقد كانت إشارات المرور تشير إلى الاشتراكية والوحدة والعدالة الاجتماعية لكن الطريق قد أفضى إلى جحيم الاستبداد والطغيان . فوجب عليه أن يخاف وأن "يعاف" الصديق الذي يتناسى وطنه .
ورغم محبة محجوب شريف للشعب والوطن إلا أنه لم ينجرف إلى شوفونية وطنية تستصغر الشعوب الأخرى ، بل تنضح أشعاره برحيق التواصل بين الشعوب .
وبينا وبينا العالم سد ينهد وسور
يتحرك محجوب شريف ما بين الوطن/الدولة الذي هو وحدة بناء خريطة العالم والعالم ككل والإنسانية جمعاء ، والوطن نفسه إنساني بما لا يسمح بعصبية وطنية ضد الأوطان الأخرى ..
بالسما حسيت يا دابي / وبالعالم عالم تاني / مليان بالفرح الدايم / من فوق أكتافو حمايم / والسلم عليهو عمايم / والناس في دروبو توايم / الصاحي بيرعي النايم / والنايم بحلم حايم / في مدن ..وحقول.. ومواني ../ في وطن أشجارو أغاني ../ يا سلام علي حب إنساني/ يا سلام علي وطن إنساني
وهو وطن ينشد السلام ، وقد وردت مفردة "سلام" واشتقاقاتها 20 مرّة في ديوان "نفاج" . وطن ينشد السلام داخله وفي العالم ، ولا يقبل أبداً استعمار الأوطان الأخرى ، بل ويسند الشعوب المستضعفة ، يقول في قصيدة "حنبنيهو" ..
وطن للسلم أجنحتو
ضد الحرب أسلحتو
عدد ما فوقو ما تحتو
مدد للأرضو محتله
سند للايدو ملويه
الشاعر التلميذ:
محجوب على قناعة راسخة أن الشعب هو معلمه ، ونص مباشرة بأنه "شعب معلم" وفي موقع آخر يقول "نحن شعب أسطى" ، و"الأسطى" هو المعلم الذي يجيد البناء . ويخاطب محجوب الشعب قائلا "يا الإصرارك سطرا سطرا ملا كراسك" . وأحيانا يصف الوطن بأنه المعلم ويخاطبه "لأنك محنّك عميق الدروس" أو يقول في موقع آخر "نسألك انت .. وانت .. ورينا الإجابة .. علمنا الرماية .. والحجا والقراية" .
وقد أهدى ديوان "السنبلايه" إلى معلمه الشعب حين قال (إلى والدنا ، الشعب ، الذي علمنا معا أن السترة ولقمة العيش الحلال كنز لا يفنى ، وأن راحة الضمير أجمل سكن) هذا يؤكد أن محجوب يعتقد اعتقادا جازما أن الشعب هو معلمه . وتتناثر فكرة الشعب المعلم في أشعار محجوب .
ويصف محجوب الشعب ، في قصيدة "مليون سلام" ، وهي إحدى القصائد العابرة لدواوين محجوب ، إذا أنها وردت في الدواوين الثلاثة ، يصف الشعب بأنه هو المعلم الذي يدرّس ، وأن الشعب نفسه هو الكتاب الذي يحتوي على الدروس ..
أحرار
وحريتنا في إيمانا بيك .. ثوار بنفتح لي الشمس في ليلنا باب .. لي يوم جديد
وبنفتديك
وحنفتديك ما بنرمي إسمك في التراب
وعيونا تتوجه اليك
أنت المعلم والكتاب (8)
الشعب هو المعلم والكتاب ، وهذان عنصران أساسيان في العملية التعليمية التعلمية ، أمّا العنصر الثالث فهو التلميذ الذي هو الشاعر نفسه ، وتبقى عنصر رابع وهو المدرسة ، يقول محجوب في قصيدة "بطاقه" وهي القصيدة الأخرى والأخيرة التي وردت في الدواوين الثلاثة ..
المهنه:
بناضل وبتعلم
تلميذ في مدرسة الشعب
المدرسه:
فاتحة على الشارع
والشارع فاتح في القلب
والقلب مساكن شعبيه
وفي النهاية عاد إلى الشعب الذي يسكن قلبه أي أن الشعب هو المدرسة نفسها . أي أن الشعب هو المعلم والكتاب والمدرسة ، بينما الشاعر هو التلميذ .
إن فكرة الشعب المعلم ليست خيال شعري طارئ إنما هي فكرة شعرية/حياتية راسخة . ولعل فكرة الخروج بتلاميذه بمدرسة الأحفاد التي عمل بها في تسعينات القرن الماضي لتلقي الدروس من الشارع ، هي فكرة لا تخرج إلا من خيال معلم شاعر آمن بأن الشعب هو المعلم .
يقول دكتور عبد الله علي إبراهيم : "حدثني محجوب عن لقاء آخر لفصله بامرأة . وكانت مسنة. ولما طلبوا الحديث إليها أنزلت قفتها من على رأسها وجلست على مصطبة أحد المنازل. وكان محجوب ينتهز حديث المرأة لتلاميذه لتوسيع مدركهم اللغوي وبيان قواعد العربية لهم. فهو يتسقط ألف المد وواوه وغيرها من حوار الفصل والعجوز ويشرح نحوها. ولابد أن ذلك كان يوماً سعيداً للعجوز أنست إلى أحفاد لم تتصور أن تلقاهم أو أن يهتموا بها. وبينما هم جلوس جاء صاحب المنزل يحمل عصيراً في حفاظة سقى العجوز والفصل. وقال لي محجوب إن الذي سيبقى مع هؤلاء التلاميذ ما عاشوا هو أريحية العجوز السعيدة بهم وبأسئلتهم وأريحية هذا المضيف الذي سقاهم شراباً طهورا طرباً بلقاء الأجيال على مصطبته"(9) . إذاً فعلا المدرسة فاتحة على الشارع كما نص في قصيدته "بطاقه" . وأن الشعب معلم فعلا بحق وحقيقة فها هي المرأة العجوز تعلم الأطفال البشاشة وسعة الصدر ، وها هو ذلك الرجل يعلمهم الكرم وحسن الضيافة . إنّ الشارع مملوء بالأساتذة !
التسامح الديني :
كل الإشارات المباشرة الواردة المتعلقة بالدين هي إشارات موجبة تثمّن وجوده وتؤكد على قيمة التنوع ، وتنادي بالتسامح الديني الغالب في أوساط الشعب ..
جاي وجاي وجاي
مافي حاجة ساي
كلو عندو دين
كلو عندو راي
ويحتفي محجوب بالتسامح بين معتنقي الأديان السماوية المتساكنة في الوطن ..
النفاجو فاتح ما بين دين ودين نفحه محمديه دفئاً كالضريح ميضنه كم تلالي جيداً في اليالي
مجداً في الاعالي مريم والمسيح
وهنالك إشارات غير مباشرة حين يصوِّر صمود "ست البنات" أمام ضغط الحياة واحتياجات الأطفال فيستدعي صمود سيدنا بلال ..
أحدٌ أحدْ
وفي يابا مع السلامة الإشارة إلى بركات الصالحين الذين ينهل من معينهم الناس ..
ننهل من بركتو زي شيخ الطريقه
ظل محجوب يحتفي بمعلمه الشعب الذي نجد أن التدين سمة غالبة فيه ، وهذا ما عصم محجوب من الانزلاق في مشكلة التناول السالب لمعطيات الدين ، وهو تناول يستهدف في بعض الأحيان استجداء الدهشة بالمساس بالمقدس . ويمكننا أن نستدل في هذا المقام بالشاعر الجميل عاطف خيري الذي قال في مراجعاته الأخيرة (أنني ما عدتُ أطرب لرؤية مراكب سيناريو اليابسة ترفع الكلفة بينها و بين سفينة سيدنا نوح عليه السلام ، و أرى في تلك الحيلة شعرا قليلا)(9) إنها حيلة "قليلة الشعر" لأنها تسعى للإدهاش بالاستفزاز الرخيص ، لا بالعمق كما قد يدعون ، لكن هذا بالنسبة لغالبية الشعب ليس إدهاش وإنما "إضراس" لآذانه المؤمنة ، وهو نوع من الشعر يستهدف نوع معين من الجمهور ، وينزع إلى الانعزال عن عموم الناس وربما التعالي عليهم .
الشعب حبيبي :
إن الشعب هو حبيب محجوب وشريانه . والحب عند محجوب شريف هو الحد الفاصل بين الإنسان والجلّاد ، وهو الذي يعصمك من أن تكون جلادا يقول في قصيدة (يا قلبي .. ما تعتاد)
الما بحب ما بحن والما بحن جلاد
الذي يحب لا يمكن أن يكون جلاداً ، والجلّاد لا يحب ، لذلك يذكّر الجلاد بما يفتقر إليه ..
اسمعنا يا ليل السجون
نحن بنحب شاي الصباح
والمغربيه مع الولاد
الزوجه والأم الحنون
والأصدقاء
وإلى اللقاء
الحب ركيزة أساسية في شعر محجوب شريف لذلك نجد مفردة "الحب" هي الأكثر حضورا في ديوان نفاج ، تضاعفت ثلاث مرات مقارنة بالأطفال والعساكر ، إذ أن مفردة "حب" وردت 46 مرة باشتقاقات متنوعة (حبيب أحب تحب حب حبي محبة أحبك حباك الحب حباب بنحب الأحبة بحب حبيبي بتحب) وهو يحب حتى من لا يتوقع المرء أن يحبهم حين يقول مخاطبا محبوبته في قصيدة "ليلة الميلاد" التي كتبها في العام 19668 ..
وأحب حتى البغير
من حبي ليكي عليك
يكتسب الإنسان قيمته من الحب الذي في دواخله والما عندو محبة ما عندو الحبة .
ضد العنصرية:
الإسم الكامل:
إنسان
هذا اسم كامل ، اسم رباعي ، بل هذا شجرة نسب كاملة وارفة الظلال ، شجرة الإنسانية .
الإسم الكامل: إنسان
وترى البعض يريدون أن يكتسبوا قيمة تفضيلية من انتسابهم للنبي صلى الله عليه وسلم ، أو آله ، أو أصحابه ، برابطة الدم ، لا بسكب العرق لإخراج الناس من ظلمات الجور إلى نور العدل . وقد ينتحل البعض شجرة نسب يكتبها بيديه ليكون إنسانا من الدرجة الأولى ينظر إلى الناس من عل . وتناسى هؤلاء أن النبي الكريم للناس أجمعين ، ومن بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه .
ويريد بعض آخر أن يكتسب قيمة تفضيلية بانتسابه إلى تهارقا بصلة الدم ، لا بسكب العرق لبناء الوطن ، يريد أن يكون هو المواطن السيد من الدرجة الأولى وبقية الشعب السوداني دونه . وقد ينتحل البعض ذلك انتحالا بنحت شجرة نسبه على صخرة صمّاء أو يخطها على الرمال ، وما دروا أن تهارقا للشعب كله .
ويذهب بعض ثالث لصناعة شجرة نسب فكرية تصله بالغرب والعالم الأول ومن ثم يعكف على التأفف من شعبه الجاهل .
ولكن محجوب شريف يجهر في وجه هؤلاء الباحثين عن الامتياز دون عمل ..
ايد وايد وايد مافي بينا سيد
وينادي الوطن الذي ينبغي أن يكون ..
يا وطناً بدون أسياد
وخاطب الشعب السوداني بأن لا يرخي السمع لهؤلاء أجمعين ..
سيد نفسك مين أسيادك
ويخاطب محبوبته جامعا كل مؤهلاته التي تجعله جديرا بها وملخصا لمؤهلاته في كلمة واحدة ..
أقدم نفسي ليك
إنسان
هو إنسان وكفى ، والإنسان اسم كامل كما سبق ، وقيمة الإنسان تُستمد منه هو ، وليس من نسبه وماله وسلطته ، فكل ذلك لا قيمة له ..
لا جيتك قبيلة
ولا رجيتك مال
جيتك عاشق أتعلم من الأيام
إنّ من يتقدم إلى محبوبته خال من قبيلة ومن مال ، يتأكد بما لا يدع مجالا للشك أنه قد عبر إلى رحاب الإنسانية . إن محطة الزواج هذه هي منطقة الوحل التي "يرحّل" عندها الكثير من السائرين على درب الإنسانية . يقول محجوب في بطاقته الشخصية "الشعب الطيب والديّ" ، وأنّ قيمة والديه الطبيعيين منبعها الشعب الذي تسامى فيخاطبه قائلا "منك والدينا وأجمل ما لدينا" ، أي أنه ليس سليل آباء يخصونه وحده ويفاخر بهم إذا جمعته مع الآخرين المجامع ..
لا أنا فلان الفلاني
ولاني فوق ساس جاهي باني
عندي بس حبة أماني
وحزمه ولا اثنين أغاني
هذه هي كل مؤهلات الشاعر التي قدمته للسنبلايه "حبة أماني" و"حزمة ولا اتنين أغاني" وهي ليست حالة شعرية فحسب بل هي حالة حياتية ترسخت في بيت محجوب الذي كان مهر ابنته حزمة لوحات تشكيلية . إنّ محجوب ليس من الذين يكتنزون القناطير المقنطرة من الذهب والفضة ، وإنما هو الحريص على الرزق الحلال ..
علي حرّمت زرعاً
ما سقيتو حلال
وما فصد حصادو قفاي
ويهدي إلى "السنبلايه" ديوانها ويخاطبها قائلا "إلى التي ستطلب مني الطلاق من أعلى مكان إذا جئتها بخزائن الأرض ، ثمنا للحظة متخاذلة" . لا يكتسب الإنسان قيمته من قبيلته أو من ماله وإنما من تحريه الحلال ومن خدمة الشعب وهي حالة ينبغي أن نرسخها في أنفسنا ونشيعها بين الناس .
العسكر والطغيان هل متطابقان ؟
وردت كلمة "عسكر" (عسكري ، عسكر ، عساكر) في ديوان "الأطفال والعساكر" 12 مرّة ، ووردت جميعها في سياقات سالبة كمرادف للطغيان والاستبداد والقهر . هذا فضلا عن أنها وردت في عنوان الديوان نفسه "الأطفال والعساكر" ، الأطفال(=البراءة والمستقبل) والعساكر(=الاستبداد والماضي) ، في حين غابت كلمة "عسكري" نهائيا من ديوان "نفاج" .
غابت "عسكري" وبقيت رموز القهر مثل مفردة "سجن" والتي باشتقاقاتها وردت 27 مرة ، و"الزنازين" وردت 7 مرات و"السونكي" وردت 4 مرات ، و"المقصلة" مرتين ، بالإضافة إلى "سكاكينك" و"ترابيسك" و"حراسة" ، و"طبنجة" ، وجلّاد .
بل وعلى عكس ديوان "الأطفال والعساكر" وردت ظلال "العسكري" بصورة موجبة في ديوان "نفاج" بصورة غير مباشرة وفي سياقات ذات دلالة موجبة ، فيقول في قصيدة "بلا وانجلى" احتفاء بانتفاضة أبريل 1985 التي انحاز فيها الجيش لجماهير الشعب الثائرة ..
شفت البنادق في السما
الضبط والربط انتمى
للشعب
شعب الملحمه
ويقول في قصيدة "سودان" التي تحتفي بالانتفاضة أيضا ممتدحا البنادق المنحازة للشعب ..
نعم بنادق لا ترتد
لصدر الشعب
الغدر دخيل
أرى أن محجوب شريف غيَّب المعنى السالب للعسكري عمدا ، رغم أن قصائد الثمانينات التي وردت في ديواني "نفاج" و"السنبلايه" كتب بعضها داخل سجون نظام مايو العسكري ، وبعض قصائد الديوانين كتبها في سجون نظام الإنقاذ المتدثر بالعسكرية والدين . فعل محجوب ذلك وبوعي مبتغاه أن يفك الارتباط بين الطغيان والعسكرية ، إذ أنّ هنالك عساكرا قدموا أرواحهم من أجل حرية وكرامة الشعب السوداني ، من لدن علي عبد اللطيف المتفق عليه ، وإلى الضباط والعساكر الذين
قاوموا الأنظمة الديكتاتورية ولقي بعضهم حتفه جراء ذلك . لذلك سيكون في ربط الطغيان بالعسكر تعميم مخل تجنبه الشاعر في ديوانيه اللاحقين .
تعديل القاموس الشعري :
وردت كلمة حزب (الحزب ، حزبنا) في ديوان "الأطفال والعساكر" 9 مرّات ، ووردت كلمة شيوعي (الشيوعي شيوعيين) 6 مرات ، بعضها ورد مباشرة "الحزب الشيوعي" . أمّا في ديوان "نفاج" فلم ترد مفردتا "حزب" أو"شيوعي" نهائيا .
ويمكن أن نفسر ذلك لسببين أن الوعي بأولوية الانتماء للشعب وحده شعريا لم يكن بالقوة في مراحل الشاعر المبكرة ، ولكن الأهم أن حزبه في أوائل السبعينات قد تعرّض لهجمة شرسة من النظام المايوي الذي قام بالتصفية الجسدية لقادة الحزب وزج بقياداته وعضويته في السجون ، حتى أضحى الانتماء للحزب الشيوعي في حد ذاته جريمة . وكان لا بد لمحجوب شريف في تلك الأوقات العصيبة أن يؤكد انتماءه مغلظاً تحديا سافرا للدكتاتور الدموي .
وكما سلف القول أن محجوب شريف نقل قصيدتين من ديوان "الأطفال والعساكر" الذي صدرت طبعته الأولى في العام 1975 هما قصيدتا "بطاقه" و"مليون سلام" نقلهما إلى ديواني "السنبلايه" و"نفاج" ، وبالتالي هما القصيدتان الوحيدتان اللتان وردتا في الدواوين الثلاثة .
وقد عدّل محجوب كلمة واحدة فقط في قصيدة "بطاقه" التي كتبها في العام 1971 وهي كلمة "الحزب" استبدلها بكلمة "الشعب" ، وهذا تعديل معبّر جدا ينبغي الوقوف عنده .
كانت في ديوان "الأطفال والعساكر" الذي صدرت طبعته الأولى في العام 1975 ..
"الحزب" حبيبي وشرياني
وأضحت في ديوان "السنبلايه" الذي صدرت طبعته الأولى في عام 1995 و"نفاج" الذي صدر لاحقا ..
"الشعب" حبيبي وشرياني
وهذا يوضح بجلاء أن محجوب وبوعي منه أراد أن يخاطب الشعب كله ، وحرص على تأكيد الانتماء الواسع شعريا لكل الشعب السوداني ، ويبقى الانتماء السياسي قائما في حدوده الشخصية . بمعنى أن محجوب ارتقى من كونه "شاعر حزب الشعب" إلى أن يكون "شاعر الشعب" .
الاسم الكامل:
إنسان
الشعب الطيب والديّ
"الشعب" حبيبي وشرياني
أداني بطاقه شخصيه
من غيرو الدنيا وقبالو
قدامي جزاير وهميه
ونجد أن قصائده المكتوبة في عشية نظام مايو اتسمت بالوجود الصفري لمفردتا "عسكر" و "حزب" مثل قصائد : مساجينك 1982 ، عما قريب 1984 ، يا شعبا تسامى 1984 ، وطن 1984 ، لهب 1984 ، حنبنيهو 1984 ، وقد كتب بعضها داخل السجن . وقد كان وجود مفردة "عسكر" سالبا مغلظا في النصف الأول من السبعينات بين دفتي ديوان"الأطفال والعساكر" وأضحى صفريا في النصف الأول من الثمانينات . بينما كان وجود "حزب" موجباً مكثفاً في النصف الأول من السبعينات في"الأطفال والعساكر" وأضحى صفريا في النصف الأول من الثمانينات وفي ديواني "السنبلاية" و"نفاج" بعد تبديل كلمة "الحزب" بكلمة "الشعب" في قصيدة "بطاقه" كما سبق .
أمّا القصيدتان الصادرتان في أعقاب الانتفاضة : بلا وانجلى 1985 ، سودان 1986 فقد تسببتا في أن يتقدم معنى "العسكر" من الصفر إلى الوجود الموجب كقوله "الضبط والربط الانتمى للشعب شعب الملحمه" ، بينما حافظ "الحزب" على الوجود الصفري شعريا .
وربما يستغرب المرء لغياب مفردة "اشتراكية" عن ديوان "الأطفال والعساكر" بل وعن الديوانين الآخرين ، ربما يكون السبب هو رفع نظام مايو لراية الاشتراكية بتلك الطريقة الفجّة باهظة الضرر ، مما جعل محجوب يعاف الكلمة ويعاف الطريق الذي سلكه النظام إليها ، بالرغم من أن محجوب كان في البداية قد توسّم في نظام مايو الخير قبل أن يكتشف خطأه .
والملاحظة الأخرى أنّ مفردة "الديمقراطيه" لم ترد نهائيا في ديوان "الأطفال والعساكر" ، ووردت "الحريه" باشتقاقتها بضعة مرات . بينما تضاعفت "الحريه" في ديوان "نفاج" باشتقاقات متنوعة ، بل ووردت "الديمقراطيه" في سياقات متعددة مما يكشف بجلاء أن محجوب قد أيقن تماما أن الديمقراطية هي مفتاح حل مشكلات الوطن . ديمقراطيه بلا أميه ، ديمقراطيه عمود النور .
خاتمة:
إن "نفاج" هو ديوان شعر لكن "نفاج" أيضا هو مشروع أشرف عليه محجوب لثقافة العمل اليدوي، الذي استوعب الفاقد التربوي من مناطق الهامش والأسر الفقيرة وعمل على تعليمهم حرفاّ صغيرة ، لتدوير المهمل من هكر وأعادة إنتاجه . و"نفاج" هي فرقة استعراضية غنائية للثقافات السودانية المختلفة . وعمِل محجوب علي ربط الجاليات السودانية خارج السودان بسلسلة مشاريع عنوانها "نفاج من الوطن وإليه" . بالإضافة إلى هذا لمحجوب مشاريع أخرى مثل مشروع "صحبة راكب" ومنظمة "رد الجميل" وغير ذلك الكثير مما يضيق عنه المجال هنا .
يمكننا أن نستخرج من "نفاج" برنامج يتوافق عليه السواد الأعظم من الشعب السوداني ، يرتكز على الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتعددية الثقافية والسياسية والتسامح الديني . برنامج يستخرج حكمة الشعب السوداني ويطلق طاقاته . برنامج يثق في الشعب ويثق فيه الشعب .
إنّ حياة محجوب تضج بالخيال كقصيدة ، وقصيدته تعج بالأفعال كما الحياة . فقد ظل محجوب ثائرا يناهض الظلم والطغيان ببسالة قل أن تجد لها نظير على مرّ التاريخ ، وأفنى عمره في صناعة الحياة وتجميلها . وكأن محجوب شريف
صاحب طريقة تنهض على الزهد وإيثار الآخرين ، تقف على خدمة الشعب ، خلوتها السجن ، أقطابها الأصدقاء ، حضرتها قراءة الشعر وصناعة الحياة ، شرابها الشاي ، وراياتها الأخضر والأحمر .
إنّ الأدباء والشعراء هم أجمل الناس ، ومحجوب أجمل الشعراء على الإطلاق . وأنّ تلك الإدانة القرآنية التي تدين الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون ، لا أعرف شاعرا ، على وجه الأرض ، أبعد عنها ، مثل محجوب .
مصادر:
(1) محجوب شريف ، ديوان الأطفال والعساكر ، مطبعة أرو التجارية بالخرطوم ، دون تاريخ
(2) محجوب شريف ، السنبلاية (شعر) ، دار عزة للنشر والتوزيع ، الطبعة الثانية ، 2012
(3) محجوب شريف ، نفّاج (شعر) ، دار تراث ، 2002
(4) أنظر : صدقي كبلو (دكتور) ، محجوب شريف شاعر الصمود بلا منازع: صفحات من مذكراتي ، https://www.alrakoba.net/news.php?action=show&id=143519
(5) ويكبيديا الموسوعة الحرّة ، https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%85…B1%D9%8A%D9%81
(6) ويكبيديا الموسوعة الحرة ، نفسه
(7) تفسير الطبري ، http://library.islamweb.net/newlibra…_no=50&ID=4635
(8) تم تصحيح المقطع بالاستعانة بالأستاذة أميرة الجزولي إذ أن هنالك اختلاف بالمقارنة مع ذات المقطع الوارد في قصيدة "مليون سلام" المضمنة في ديوان "نفاج" .
(9) عبد الله علي إبراهيم (دكتور) ، محجوب شريف والعجوز والفصل: بخت الرضا المضادة .. ،"من كتاب: بخت الرضا: الاستعمار والتعليم، دار الخرطوم للصحافة والنشر، 2103 ، "http://alrakoba.net/news-action-show-id-143415.htm
(10) عاطف خيري ، سيناريو البحث عن الشعر ، http://atifkairy.blogspot.com/2015/01/blog-post_23.html


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.