أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    حذاري أن يكون خروج الدعم السريع من بيوت المواطنين هو أعلى سقف تفاوضي للجيش    مدير المستشفيات بسنار يقف على ترتيبات فتح مركز غسيل الكلى بالدندر    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    مناوي ووالي البحر الأحمر .. تقديم الخدمات لأهل دارفور الموجودين بالولاية    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    نشطاء قحت والعملاء شذاذ الافاق باعوا دماء وارواح واعراض اهل السودان مقابل الدرهم والدولار    لم يقنعني تبرير مراسل العربية أسباب إرتدائه الكدمول    وزير الخارجية السوداني الجديد حسين عوض.. السفير الذي لم تقبله لندن!    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    شاهد بالفيديو.. بعد فترة من الغياب.. الراقصة آية أفرو تعود لإشعال مواقع التواصل الاجتماعي بوصلة رقص مثيرة على أنغام (بت قطعة من سكر)    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    ترتيبات لعقد مؤتمر تأهيل وإعادة إعمار الصناعات السودانية    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. فتاة تنضم لقوات الدعم السريع وتتوسط الجنود بالمناقل وتوجه رسالة لقائدها "قجة" والجمهور يسخر: (شكلها البورة قامت بيك)    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء فاضحة.. الفنانة عشة الجبل تظهر في مقطع وهي تغني داخل غرفتها: (ما بتجي مني شينة)    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    حمدوك يشكر الرئيس الفرنسي على دعمه المتواصل لتطلعات الشعب السوداني    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    محمد وداعة يكتب: حرب الجنجويد .. ضد الدولة السودانية (2)    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    تنسيقية كيانات شرق السودان تضع طلبا في بريد الحكومة    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وَبَدَتْ كَأْسِي بَقَايَا مِنْ حُطَامْ!
نشر في حريات يوم 16 - 06 - 2017


(1)
ساءني في حلقة الثاني من يونيو من البرنامج الرَّمضاني (أغاني وأغاني)، لصاحبه الفنَّان القدير السِّر احمد قدور، أن المغني البارع عاصم البنا شوَّه أداءه الجَّميل لرائعة أبو داود الخالدة (هل أنت معي)، من كلمات الشَّاعر المصري محمَّد علي أحمد، والحان الموسيقار برعي محمَّد دفع الله، بتصرُّفه غير الحميد في بعض مواضع القصيدة، وتحديداً في الأبيات التي تقول:
"سَكِرَ السُّمَّارُ والخَمَّارُ فِي حَانِ الغَرَامْ
وأنا الصَّاحِي أرَى فِي النُّورِ أشْبَاحَ الظَّلامْ
وبَدَت كَأْسِي عَلَى رَاحِي بَقَايَا مِنْ حُطَامْ"
وكذلك البيت القائل:
"عَادَ بِي الوَجْدُ إِلَى لَيْلِي وكَأْسِيَ مُتْرَعِ"
اتَّخذ ذلك التَّصرُّف شكل التَّفادي المقصود من البنَّا لكلِّ التَّعابير التي تفيد (صورة الخمر) الشِّعريَّة ودلالاتها. وبدا أن لقدور يد طولى في الأمر، بدليل عدم اكتفائه، لدى انتهاء الأغنية، بالإشادة بالأداء، بل أضاف، أيضاً، استحسانه للتَّصرُّف المشار إليه، ناسباً إياه إلى البنَّا.
مهما يكن من شئ، فالغالب أن ما دفع لذلك إحساس عارم بحرج ديني غير مبرَّر صوَّر لقدور، او للبنَّا، أو لكليهما، أن التَّغني بالخمر، أو بأيٍّ من ترميزاتها في القصيدة، كالكأس، والسُّكر، والحان، والخمَّار، هو ضرب من (المحرَّمات)، بخلاف ما استقرَّ من شعر على هذا الصَّعيد، ضمن مشمولات الثَّقافة العربيَّة، بل ومن شعر (صوفي) ضمن مشمولات الثَّقافة العربيَّة (الإسلاميَّة)، تحديداً، كما سنرى.
(2)
الخمر، لغةً، الحجب والتَّغطية. وتُصنع من نقيع مختلف صنوف الفاكهة، كالبلح والعنب، مثلاً. وسُمِّيت خمراً لأنها تخامر العقلَ، وتغيِّبه عن الإدراك. ودرءاً لأيِّ سوء تفاهم غير مرغوب فيه، نسارع للإقرار بأن (صورة الخمر) في الشِّعر العربي ليست على وجه واحد، وإنَّما على ثلاثة وجوه، أحدها حقيقي، والآخر مجازي دنيوي، والثَّالث مجازي صوفي.
فأمَّا على الوجه الأوَّل فقد خلدت الثَّقافة العربيَّة، ضمن الكثير من محمولاتها الشِّعريَّة، ضرباً من الغنائيَّات والتَّراكيب الوصفيَّة للخمر، فغالت في التَّفنُّن في تصويرها، وفي مدحها، وفي التَّولُّع بها، بل وفي التَّرغيب فيها، والإغواء بمعاقرتها، تركيزاً على دلالاتها الواقعيَّة المباشرة، كاللذة الحسِّيَّة، والنَّشوة الجَّسديَّة، وما إلى ذلك. ولعلَّ أكثر من خَلَدَ ضمن رموز هذا الضَّرب من القول الشِّعري، في الثَّقافة العربيَّة عبر القرون، امرؤ القيس، من العصر الجَّاهلي، ومن أشهر إنشاده: "فَظَلِلْتُ فِي دِمَنِ الدّيََارِ كَأَنَّنِي/ نَشْوَانُ بَاكَرَهُ صَبُوحُ مُدَامِ/ أَنِفٍ كَلَوْنِ دَمِ الغَزَالِ مُعَتَّقٍ/ مِنْ خَمْرِ عَانَةَ أوْ كُرُومِ شَبَامِ"؛ وكذا أبو نواس من العصر العبَّاسي، ومن أشهر قوله: "ألا فَاسْقِنِي خَمْرَاً وقُلْ لِي هِيَ الخَمْرُ/ ولا تَسْقِني سِرَّاً إذا أمْكَنَ الجَّهْرُ/ فَمَا العَيْشُ إلا سَكْرَةٌ بَعْد سَكْرَةٍ/ فَإِنْ طَالَ هَذَا عِنْدَه قَصُرَ الدَّهْرُ/ ومَا الغُبْنُ إلا أَنْ تَرانِيَ صَاحِيَاً/ وما الغُنْمُ إِلا أنْ يُتّعْتِعَنِي السُّكْرُ".
وأمَّا على الوجه الثَّاني فقد خلَّدت هذه الثَّقافة ضرباً آخر من الاستعارات ل (صورة الخمر)، وما ينتسب إليها، ويترمَّز بها، كناية عن العشق، والهيام بالمعشوق، حدَّ الاستغراق في السُّكر (المعنويِّ) بحبِّه. فلئن (حرَّمَت) الرِّسالة المحمَّديَّة، في تاريخ لاحق، ذلك الوجه الأوَّل، المادح للخمر من حيث دلالتها (الماديَّة)، والمحرِّض على معاقرتها بالمعنى المباشر، فإن النَّقد العربي لم ير بأساً بالوجه الثَّاني الذي اعتُبر، رغم دنيويَّة الاستخدام المجازي لرمزيَّة الخمر، وما يلتحق بها، مِمَّا لا حرج فيه، من زاوية (التَّحليل والتَّحريم)، فإنَّما يستخدم الشَّاعر ألفاظاً عربيَّة، في صور مجازيَّة، يدلِّل بها، فحسب، على مدى استغراقه في العشق والهيام.
وقد راكم المدى المتقارب لهذين الوجهين، الأوَّل والثَّاني، نتاجاً شعريَّاً دنيويَّاً ضخماً منذ عصور ما قبل الإسلام، مروراً بعصر النُّبوَّة، والعصر الأموي، والعصر العبَّاسي، وما أعقبهما حتَّى العصور الحديثة، فدخل (ديوان العرب) باسم (الخمريَّات).
(3)
ومن نماذج تلك (الخمريَّات) الدُّنيويَّة، في الجَّاهليَّة، إضافة إلى ما أوردنا من إنشاد امرؤ القيس، قول لَبيدٍ: "إِذَا شَرِبُوا صَدُّوا العَوَاذِلَ عَنْهُمُ/ وكانُوا قَدِيمَاً يُسْكِتُونَ العَوَاذِلا"؛ وقول طرفة بن العبد: "ومازَالَ تَشْرَابِي الخُمورَ ولَذَّتِي/ وبَيْعِي وإِنْفَاقِي طَرِيفِي ومُتْلِدي". ومن فترة نهايات الجَّاهليَّة وبواكير ظهور الإسلام نسوق قول المخضرم كعبٍ بن زهير: "نَشْفَى بِهَا وهيِ دَاءٌ لَو تُصاقِبنَا/ كَمَا اشْتَفَى بِعِيَادِ الخَمْرِ مَخْمُورُ"؛ كما نسوق قول الخنساء في المشهور من رثائها لأخيها صخرٍ: "فَقُمْتُ وقَدْ كَادَتْ لِرَوْعةِ هُلْكِهِ/ وفَزْعَتِهِ نَفْسِي مِن الحُزْنِ تَتْبَعُ/ إلَيْهِ كَأنِّي حَوْبَةً وتخَشُّعاً/ أخُو الخَمْرِ يَسمُو تَارَةً ثُمَّ يُصْرَعُ"؛ بل ونسوق حتَّى قول حسان بن ثابت، شاعر الرسول (ص): "ونَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنا مُلُوكَاً/ وأُسْدَاً مَا يُنَهْنِهُنَا اللِّقَاءُ"؛ وكذلك قوله: "ولَقَدْ شَرِبْتُ الخَمْرَ فِي حَانُوتِهَا/ صَهْبَاءَ، صَافِيَةً، كَطَعْمِِ الفِلْفِلِ"؛ وقوله أيضاً: "فَاشْرَبْ مِن الخَمْرِ مَا آتَاكَ مَشْرَبُهُ/ واعْلَمْ بِأَنْ كُلُّ عَيْشٍ صَالِحٍٍ فَانِ". كما أنشد الحطيئة، المخضرم الآخر، واصفاً الخمر وصفَه للحُليِّ، قائلاً: "إِلى طَفْلَةِ الأَطْرافِ زَيَّنَ جِيدَهَا/ مَعَ الحُلْيِ والطِّيبِ الجَّاسِدُ والخمرُ"؛ وأنشد الأخطل في العصر الأموي: "بَانَ الشَّبابُ ورُبّما عَلّلْتُهُ/ بِالغَانِيَاتِ وبِالشَّرَابِ الأَصْهَبِ".
بذات القدر تكثر نماذج (صورة الخمر) في الشِّعر العربي المعاصر، ومن ذلك، على سبيل المثال، قول معروف الرّصافي: "تَمِيلُ بِقَدِّكَ خَمْرُ الدَّلالْ/ فَيَضْحَكُ فِي مَيْلِهِ الاعْتِدَالْ"؛ ويشبِّه شوقي بها الزَّمانَ قائلاً: "لَمْ نَفِقْ مِنْكَ يَا زَمَانُ فَنَشْكُو/ مُدْمِنُ الخَمْرِ لا يُحِسُّ الخُمَارَا/ فَاصرُفِ الكَأسَ مُشْفِقَاً أو فَوَاصِلْ/ خَرَجَ الرُّشْدُ عَنْ أَكُفِّ السُّكَارَى"! كما يمدحها محمود سامي البارودي بقوله: "تَسِمُ الْعُيُونَ بِنَارِهَا لَكِنَّهَا/ بَرْدٌ عَلى شُرَّابِهَا وَسَلامُ"؛ ويتشوَّق حافظ إبراهيم لمجلسها قائلاً: "وادْعُ نَدْمَانَ خَلْوَتِي وائْتِنَاسِي/ وتَعَجَّلْ واسْبِلْ سُتُورَ الدِّمَقْسِ/ واسْقِنَا يَا غُلامُ حَتَّى تَرَانَا/ لا نُطِيقُ الكَلامَ إلاّ بهَمْسِ/ خَمرةً قِيلَ إنّهُمْ عَصَرُوهَا/ مِنْ خُدُودِ المِلاحِ فِي يَوْمِِ عُرْسِ/ مُذْ رَآهَا فَتَى العَزِيزِ مَناماً/ وهو فِي السِّجْنِ بَيْنَ هَمٍّ ويَأْسِ/ أعْقَبَتْهُ الخَلاصَ مِنْ بَعْدِ ضِيقٍ/ وحَبَتْهُ السُّعُودَ مِنْ بَعْدِ نَحْسِ"!
وضمن الشِّعر السُّوداني كذلك خرائد كثر في هذا المجال. ومن أشهرها قصيدة توفيق صالح جبريل التي يقول مطلعها: "نَضَّرَ اللهُ وَجْهَ ذَاكَ السَّاقِي/ إنَّه بِالرَّحِيقِ حَّلَ وِثَاقِي"، والتي يسترسل فيها قائلاً: "ظَلّتِ الغيدُ والقَواريرُ صَرْعَى والأَبَاريقُ بِتْنَ فِي إِطْرَاقِ/ أأتِنِي بِالصَّبُوحِ يَا بَهْجَةَ الرُّوحِ تُرِحْنِي إِنْ كَانَ فِي الِّدَّنِّ بَاقِ". وإلى ذلك قول محمَّد المهدي المجذوب: "فليتي في الجَّنوب ولي ربابٌ/ تهيم به خطايَ وتستقيمُ/ وأَجْتَرِعُ المَريسَةَ فِي الحَواري/ وأَهْذِرُ لا أُلامَ ولا ألُومُ". وكذلك قول عبد الله الطَّيِّب: "تَرَكْتُ سُلافَ الخَمْرِ بَعْدَكِ مُدَّةً/ وعُدْتُّ إِلَيْها كَيْ تَفُكَّ قِيودِي"؛ وقوله الآخر: "يَا بَابِليَّةَ خَمْرٍ قَدْ ظَفِرتُ بِهَا/ أحسُو وتَمْزِجُهَا نَفْسِي بِمُمْتَزَج". وفي الشِّعر الحديث نماذج بلا عدٍّ ولا حد.
(4)
أمَّا الوجه الثَّالث، المجازي الصُّوفي، ل (صورة الخمر) في الشِّعر، ضمن الثَّقافة العربيَّة الإسلاميَّة، فإن أكثر ما يحدِّد ملامحه هو فعل الخمر إذ يغيِّب الذَّات المتلاشية في العبادة عن الكون المادِّي، بكلِّ ما فيه من جسوم، ورسوم، ونجوم، وشهب، وموجودات، وحوادث، وخلافه، وذلك من أثر المخامرة حدَّ السُكْر التَّام، والذَّوبان الكامل في عشق المعبود، وأحياناً في ذات المعبود، حتَّى ليكتمل التَّنائي بين صورتين للخمر، حسيَّة وروحيَّة. فالخمر الرُّوحيَّة رمز للمحبَّة الإلهيَّة الأزليَّة المنزَّهة عن العلل الزَّمكانيَّة، والمنطوية على الأسرار العرفانيَّة، والقادرة على جعل الحقائق تتجلَّى، والأكوان تشرق، والأرواح تنتشي، وتستبدُّ بها سكرة العشَّاق.
ورغم أن ثمَّة مفردات خاصَّة ترد، أحياناً، من النَّاحية اللغويَّة، مترافقة مع (صورة الخمر الرُّوحيَّة) هذه، ك (البدر، والهلال، والشَّمس، والنَّجم)، مثلاً، إلا أن نفس البناء القاموسي المستخدم ل (صورة الخمر الحسيَّة) في الشِّعر العربي، قد استقرَّ، إلى حدٍّ بعيد، في تركيب (صورة الخمر الرُّوحيَّة)، أيضاً، ك (الحان، والدِِّنان، والنَّديم، والكأس، والرَّاح، والقداح، والخمَّار، والمخمور، والسَّاقي، والثُّمالة، والنَّادل، والشَّذى، والكرْم، والصَّهباء، والصَّبوح، والغبوق)، وما إليها، فضلاً عن مختلف صيغ الطلب إلى السَّاقي أنْ (أدرها، وناولها، واسكبها، وهاتها، وعجِّل بها، وإلينا بها، وداونا بها، وأرحنا بها). يتبقى المدى الوحيد للتَّفريق بين شكلي الصُّورتين قائماً في البُعد التَّرميزي لهذه المفردات، مِمَّا يقتضي إعادة شحنها بدلالات تخدم الصُّورة الذِّهنيَّة لدى الشَّاعر، وتتَّسق مع جوهر البناء العرفاني للرُّموزيَّات.
لقد أجاد شعراء التَّصوُّف استخدام (صورة الخمر الرُّوحيَّة)، وتوابعها، أيَّما إجادة، وفجَّروا قدراتها البيانيَّة تفجيراً رائعاً، ونهلوا مِمَّا سكب اللّه، عن طريقها، في ألبابهم، من طاقات الكشف والشَّوق والمحبَّة، ومن أشهرهم محي الدِّين بن عربي الذي يفصح عن مقصده من وراء كلِّ ذلك، قائلاً: "ألا كلُّ مَا قَدْ خَامَرَ العَقْلَ خَمْرةٌ/ وإِنْ كَانَ فِي مَزْرٍ وإِنْ كَانَ فِي تَبَعِِ". وينشد كذلك: "واشْرَبْ سُلافَةَ خَمِرِهَا بِخِمَارِهَا/ واطْرَبْ عَلَى غَرِدٍ هُنالِكَ تُنْشدُ/ وسُلافةٌ مِنْ عَهْدِ آدَمَ أََخْبَرَتْ/ عَنْ جَنَّةِ المَأوَى حَدِيثَاً يُسْنَدُ"؛ ويقول الإمام السَّهروردي: "رَقَّ الزُّجَاجُ ورَقَّتِ الخَمْرُ/ فَتَشَابَهَا فَتَشَاكَلَ الأَمْرُ/ فَكَأَنَّهَا خَمْرٌ ولا قَدَحٌ/ وكَأَنَّهَا قَدَحٌ ولا خَمْرُ"؛ ومن جانبه ينشد صاحب البُردة أبو عبد الله البوصيري: "مَوْلىً تَلَذُّ لنَا أَخْبَارُ سُؤدَدِهِ/ كَأنَّ أَخْبَارَهُ مِنْ حُسْنِها سَمَرُ/ فلَوْ أدَارَتْ سُقَاةُ الرَّاحِِ سِيرَتَهُ/ عَلَى النَّدَامى وحَيَّوْهُمْ بِهَا سَكِرُوا"؛ وفي ميميَّته الشَّهيرة، بل لعلها الخمريَّة الرُّوحيَّة الأشهر في تراث الشِّعر العربي، ينشد ابن الفارض (سلطان العاشقين) الذي يكاد النُّقَّاد يجمعون على أن طاقات الخمريَّات البيانيَّة قد انتهت به، فليس ثمَّة جديد في الخمريَّات بعده، قائلاً: "شَرِبْنَا عَلَى ذِكْرِ الحَبِيبِ مُدامَةً/ سَكِرْنَا بِهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُخْلَقَ الكَرْمُ/ لَهَا البَدْرُ كَأْسٌ، وهيَ شَمْسٌ، يُدِيرُها/ هِلالٌ، وكَمْ يَبْدُوإِذَا مُزِجَتْ نَجْمُ/ ولَوْلا شَذَاهَا مَا اهْتَدَيْتُ لِحانِها/ ولَوْلا سَنَاهَا مَا تَصَوَّرَهَا الوَهْمُ"؛ وينشد عبد الرحيم البُرَعي اليمني قائلاً: "ومَنْ لَكَ بِالزِّيارَةِ مِنْ حَبِيبٍ/ حَمَتْهُ البيضُ والأَسَلُ الظِّبَاءُ/ صَبِيحٌ فِي لِمَى شَفَتَيْهِ خَمْرٌ/ كَأنَّ مِزَاجَهَا عَسَلٌ ومَاءُ"؛ ويقول أيضاً: "وبِنْتُ عَشْرٍ سَقَاهَا الحُسْنُ خَمْرَ صِبَاً/ فَالقَلْبُ مِنَهَا بِغَيْرِ السُّكْرِ سَكْرَانُ"؛ أمَّا عبد الغني النَّابلسي فيسهب في شرح هذا المقصد قائلاً إنه الرَّمز لا الدَّلالة المباشرة، ويدمغ الاكتفاء بقشور الظََّواهر عن ألبابها بأن ذلك من قِصَر النَّظر، حيث التَّرميز، في الحقيقة، بوصف الخمر، ومدحها، لا حرج فيه، ولا تثريب عليه، حين يكون محض جسرٍ قريبٍ لمرادٍ بعيدٍ، ومجرَّد ذكرٍ للحقيقة الرَّمزيَّة المجازيَّة، لا الحقيقة الواقعيَّة المباشرة، فينشد في ذلك قائلا: "صَرِيحُ كَلامِي فِي الوُجُودِ وإِيمَائِي/ سَوَاءٌ وإِعْلانِي هَوَاهُ وإِخْفَائِي"، ويواصل هذا الإنشاد حتَّى يبلغ قوله: "عَلَيْكَ نَدِيمِي بِارْتِشَافِ كُؤُوسِهَا/ فَفِي كَأسِها مِنْهَا بَقِيَّةُ صَهْبَاءِ/ ومَا الكَأسُ إِلا أنْتَ والرُّوحُ خَمْرُهَا/ تَحَقَّقْ تَجِدْ فِي السُّكْرِ أَنْوَاعَ سَرَّاءِ/ وفِي عَالَمِ الكَرْمِِ الذي قَدْ تَعرَّشَتْ/ عَنَاقِيدُهُ قِفْ واغْتَنِمْ فَضْلَ نَعْمَاءِ/ وخُذْ مِنْهُ عُنْقُودَاً هُو الجِّسْمُ ثمَّ دَعْ/ كَثَائِفُهُ واحْفَظْ لَطَائِفَ لَأْلاءِ/ ولا تَكْسِرِ الرَّاوُوقَ إِنَّ الصَّفَا بِهِ/ وحلِّلْ ورَكِّبْ فِي أُصُولٍ وأَبْنَاءِ/ إِلَى أَنْ تَرَى وَجْهَ الزُّجَاجَةِ مُشْرِقاً/ وذَاتَ الحُمَيَّا فِي غَلائِلِ بَيْضَاءِ/ فَإِنَّ هُنَاكَ الدَّنَّ دَنْدَنَ فَانِيَاً/ وَجَاءَ الدَّوَاءُ الصِّرْفُ يَذْهَبُ بِالدَّاءِ/ وأَقْبَلَتِ الحَسْنَاءُ بِالرَّاحِ تَنْجَلِي/ عَلَى يَدِهَا يَا طِيبَ رَاحٍٍ وحَسْنَاءِ".
ينسحب ذلك الشَّرح على مذاهب الشُّعراء المتصوِّفة أجمعين، في ما يتَّصل باعتماد رمزيَّة الخمر ومتعلقاتها في أشعارهم العرفانيَّة، فليس في ذلك خروج على الإسلام، كما قد يبدو للنَّظر المتعجِّل، حيث تغلغلت هذه الرَّمزيَّة في نسيج قماشة الوجد الإلهي، واندغمت في معمار البناء العرفاني لهذا الشِّعر، فتجاوزت المعطيات الماديَّة إلى المعطيات الرُّوحيَّة، وتسامت عن الطابع الحسِّي إلى التَّجريد المثالي.
وافرٌ كذلك شعر المتصوِّفة السُّودانيين المتضمِّن لرمزيَّة الخمر الرُّوحيَّة، الفصيح منه والعامي. فمن نماذج فصيحه، مثلاً، قول الشيخ قريب الله: "سَلامٌ سلامٌ أُهَيْلَ المُدَامْ/ خُذُونِي إلَيْكُم فَأَنْتُمْ كِرَامْ"؛ وقول الشَّيخ المجذوب جلال الدِّين: "سَقَاهُ بِكَأْسٍ مِنْ لَذِيذِ شَرَابِهِ/ عُبَيْدٌ تَرَاهُ فِي الخَلائِقِ يَلْعَبْ/ وآنَسَهُ حَتَّى اسْتَطَابَ بأُنْسِهِ/ فَهَيَّمَهُ فِيهِ سَنَاءً ومَشْرَبْ". أمَّا عاميُّه فهو الأكثر شعبيَّة، كقول أحمد ود سعد: "حَسَنْ وَدْ عُثْمَانْ قُوُمْ دَوِّرْ الكُوْبَاتْ" يريد بها جمع كَوْبْ؛ وكذا قول الشَّيخ المكاشفي: "وَلُّوا مُدْبِريْنْ ذَاقُوا لَذِيذَ الخَمُرْ/ مِنْ بَعْدْ التَّعَبْ تَعَبْ الصَّرِيْحْ للأَمُرْ"، ومعلوم أن شعراء المديح والحقيبة في السُّودان لا يتهيَّبون اللحن اللغوي، أو كسر قواعد النَّحو، إن تعارض شئ من ذلك مع ضرورات القافية أو العَروض؛ وثمَّة، أيضاً، قصيدة (السُّرَّاي) ذائعة الصِّيت، مجهولة المؤلف، والقائلة في بعض مواضعها: "وَاحْدِيْنْ بَارْكِيْنْ فُوْقْ اللاَّلُوبْ/ وواحْدِيْنْ بالِّليْلْ شَايْلِيْنْ مَشْرُوبْ".
وينبغي، من ناحية أخرى، ألا يظنَّنَّ كريم أن هذا التَّرميز وقف، فحسب، على شعر المتصوِّفة العرب؛ فلعلنا إذا نظرنا في ثقافة إسلاميَّة غير عربيَّة، لوجدنا، مثلاً، محمد إقبال، الفيلسوف الإسلامي، وشاعر الهند العظيم، يستعير، هو الآخر، رمزيَّة (نشوة الخمر) في قوله: "جَاهِلاً سِرَّ الحَيَاةِ اجْتَهِد/ وامْضِ نشوانَ بخمرِ المَقصِدِ"!
(5)
نخلص إلى أن (صورة الخمر)، وتوابعها، في قصيدة محمَّد علي أحمد التي لحَّنها برعي وغنَّاها أبو داود، ثمَّ تغنى بها، مؤخَّراً، عاصم البنَّا في برنامج (أغاني وأغاني)، تسمو عن كلِّ ما قد يكون اعتقد الأخير فيها من خروج على الدِّين والأخلاق، ربَّما بتوجيه، كما سبق أن أشرنا، أو بإيحاء من الأستاذ قدور. فلو أخذناها من حيث الاستخدام المجازي الدُّنيوي، لوجدنا أن ذلك قد اعتُبر، دائماً، مِمَّا ليس ثمَّة بأس به، ولا حرج فيه، على مستوى التَّحليل والتَّحريم، حيث يستخدم الشَّاعر، كما ذكرنا، ألفاظاً عربيَّة يدلِّل بها، ترميزيَّاً، فحسب، على مدى استغراقه العاطفي في الحبِّ والهيام. أما إذا أخذناها من حيث الاستلهام لشعر التَّصوُّف، فثمَّة في نفس الأبيات المشار إليها ما يبرِّئ الشَّاعر من قصد الإغواء التَّبسيطي السَّاذج، والمباشر، بمعاقرة الخمر، حسبما قد يكون قدور أو البنَّا اعتقدا، كما ويرجِّح، في نفس الوقت، ميل هذا الشاعر، فحسب، لاستلهام الرُّموز الصُّوفيَّة شعريَّاً. وربَّما تُعضِّد من هذا التَّرجيح، على الأقل، شكواه من أن عدم (سُكره بالغرام)، على العكس من (سمَّارِ الحانة) و(خمَّارِها)، قد أبقاه (صاحياً) وحده يراقب، رغم الضُّوء، (أشباح) الظلام!
"سَكِرَ السُّمَّارُ والخَمَّارُ فِي حَانِ الغَرَامْ
وأنا الصَّاحِي أرَى فِي النُّورِ أشْبَاحَ الظَّلامْ"
فهذه الصُّورة تستدعي إلى الأذهان، فوراً، تعبير ابن الفارض في ميميَّته التي سلفت إشارتنا إليها، قائلاً: "أََرْوَاحُنَا خَمْرٌ وأَشْبَاحُنَا كَرْمُ". ف (الأشباح) التي تشكِّل المقابل ل (الأرواح) هي، كما في شرح النَّابلسي لديوان هذا الشَّاعر المتصوِّف، "الصُّور التي عليها الكَائنات في عالم إمكانها". ولقد استخدم ابن الفارض رمزيَّة (الخمر) و(المُدامة) و(السُّكر) لتكثيف خبرة لا تحدُّها القيود الزَّمكانيَّة، تعبيراً عن "غيبةٍ وفناءٍ يكسران طوق عالم الأشباح" هذا.
وإذن، فليس في الأغنية ما يجدر أن يستثير حساسيَّة، من أيِّ نوع، دينيَّة كانت أو حتَّى أخلاقيَّة دنيويَّة، لدى المغنِّي، أو القناة، أو مقدِّم البرنامج.
ك. الجزولي
ضاحية شمبات الهجرة
8 يونيو 2017م
***


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.