منذ مجيء نظام الإنقاذ والتحاق السيد ياسر عرمان بالحركة الشعبية تحت قيادة الراحل جون قرنق, والتهم الجاهزة تلاحقه صباح مساء, والأكاذيب التي نسجتها أخيلة أعضاء الحزب الحاكم وأتباعهم. إإبان الحرب ظل ياسر هدفًا مشروعًا لآلة الكذب والتضليل التي تسيطر على أجهزة الإعلام, وإثمه العظيم هو أنه مواطنٌ من الشمال اختار أن يقضي زهرة شبابه بين المقاتلين في جنوب السودان, المطالبين بحقهم في مواطنة عادلة. المتمرد ليس من يطالب بحقه المسلوب لكنه من يخرج على سلطةٍ شرعية, ويخرق القوانين, وحكومة الإنقاذ التي خرقت القوانين واستولت على السلطة عبر انقلابٍ عسكري وحّولت البلاد إلى جحيم, ترى أن أبناء الجنوب هم متمردون يجب قتلهم, أما ياسر فمارقٌ يقاتل أبناء جلدته لمصلحة قومٍ آخرين. على الجميع أن يفهم هذا, على الجميع أن يردد, ياسر عرمان عميلٌ خائن, على الجميع أن يعلم أنه كافرٌ يطالب بإبعاد الشريعة. تسرب هذا إلى أفهامهم حتى عاد ياسر إلى الخرطوم إبان توقيع اتفاقية السلام, مبّشرًا بمبدئه الذي عاش من أجله وقاتَل. السودان الجديد, الذي يتساوى أهله في الحقوق والواجبات. سودان يتحدث فيه الناس بكل لغاتهم. سودان يتعّبد الناس فيه إلى الله بكل شرائعهم. سودانٌ لا تُمتهن فيه النساء, ولا تصادَر فيه الأقلام. سودانٌ تتساوى عنده السحنات والألوان. تسير السفينة على غير ما كان يرى, ويُقتل القائد جون قرنق, ليجد نفسه أمام مؤامرةٍ تحاك لتجزئة وطنه الكبير. يلتقط أنفاسه ويعود لإنقاذ ما تبّقى, وكلما علا صوته بالوطن الكبير ارتعدت حصون السلطة الجبارة, التي تظل تراه مارقًا ليس إلا. الحالمون بالوطن الكبير يستمعون إليه تارة, وإلى آلة الكذب والتضليل تارات وتارات, وصوته المتقّطع كثيرًا ما يختفي خلف الأمواج المسافرة إلى الشمال البعيد, أو الجنوب القريب. وكثيرون هم أولئك الذين لا يزالون يرددون ما سمعوه قبل عقود: عميل, خائن مارق. أما هو فينظر بعين حزينة إلى وطنٍ مهّشم, ورفاقٍ صاروا لوطنٍ آخر, وآخرين يئسوا وهم يبحثون عن بابٍ للخروج. وبعينٍ أخرى يرى المتشبثين بحلم الوطن الكبير, يتجرعون كؤوس الحرمان, ولا تزال تلاحقه تلك الأصوات الموحشة, وهو لا يزال يرنو بعينين متعبتين إلى السودان الجديد, فلا زهرةَ شبابه أثمرت سودانًا جديدًا, ولا قسوة قومه أنسته ذلكم الحلم.