حدثتني إحداهن وهي من مدينة الفاشر في شمال دارفور أن الناس هناك يلتزمون منازلهم فور غروب الشمس, ويصبح التجّول في المدينة أو الخروج من تلك المنازل ضربًا من ضروب المغامرة. وحيدثتني عن حياة الرعب التي يعيشونها تحت ظل الملثمين الذين يجوبون الشوارع ليلاً ويمارسون الاعتداء والسلب والنهب امام مرأى ومسمع الجميع. وعن مخاوف الأهالي الذين باتوا يترددون ألف مرة قبل أن يخرجوا لأيٍ من حاجاتهم مهما كانت ماسة ليلاً, وصور أولئك الملثمين تهز خواطرهم وتثير الإرهاب في نفوس الصغار والكبار. لم تكن صديقتي التي أعرفها جيدًا تنتمي إلى أية جهة سياسية, لكنها كانت تحكي عن واقع حال ببراءة الأهالي البسطاء, الذين لا يعرفون سوى ما يرونه بأعينهم, ولا يجدون تفسيرًا منطقيًا لما يشاهدون, وكثيرًا ما تغيب عنهم هوية المجرم الحقيقي, فالمواطن العادي لا يهتم كثيرًا بما وراء الأحداث ولا يبحث عن أكثر من حياةٍ آمنة . الأمر بشقيه الإنساني والسياسي يستنهض الوجدان السوداني في كل مكان فعلى الجانب الإنساني, هي معاناة لا تشبهها معاناة, أن تكون تحت تهديد أشخاص مجهولين لا يمكنك التعرف حتى على وجوههم. ما تستطيع معرفته فقط هو أنك على موعدٍ مع هجمةٍ شرسة من أحدهم إن لم يكن اليوم ففي الغد,. والأكثر رعبًا هو أن هؤلاء فوق كل السلطات فلا الجيش ولا سواه قادر على تحجيمهم أو السيطرة عليهم. والمحظوظون هم أولئك الذين يخسرون جميع ممتلكاتهم , أما الأقل حظًا فهم من يفقدون حياتهم أو أفراد عائلاتهم إثر تلك الهجمات. ورغم أن تلك الأوضاع الغريبة بدأت منذ زمان طويل في دارفور, وترّتب عليها ما كان من أحداث, إلا أننا في بقية مناطق السودان لم نفهم بعد حقيقة ما يعنيه ذلك. ولو تخّيل أيٌ من سكان المدن الآمنة أنه يعيش واقعًا مشابهًا لهذا الواقع للحظةٍ واحدة لعلم جيدًا أيَ نوعٍ من المعاناة يقاسيه الأهالي في مدن دارفور. أما على الجانب السياسي فمن المخزي السماح باستمرار نظام يجاهر بدعم وتجييش هؤلاء المرتزقة الذين أتى بالكثيرين منهم من خارج الحدود, واستخدامهم كسلاح لترويع الأهالي. الحلَقة المفقودة إذًا هي حلقة الوصل بينما يجري وبين الوعي السوداني الذي يشعر بخطورة الواقع؛ وفي حال استمرار هذه الفجوة بين الوعي الجماعي وبين حقائق معاناة الناس في دارفور وغيرها من المناطق المنكوبة فإن سيناريوهات مشابهة ستتوّلد في بقية المناطق التي تتوهم أنها آمنة. والحقيقة أن على شعبنا أن يعلم أن الصمت عن الجريمة جريمةٌ لا تقّل خطورة. وعلى سياسّيينا المعارضين أن يعلموا أن الإدانة وحدها لا تكفي لصناعة الوعي. وعلى النظام أن يعلم أن ذاكرة الشعوب لا تنام.