بالأمس وعن طريق المصادفة وقعت بين يدي رواية تحمل اسم ساعي الريال المقدود للكاتب الشاب مبارك أردول. علمتُ أن الرواية تم منعها من النشر قبل عامين في السودان فزاد فضولي لقراءتها. والحقيقة أن الكاتب حاول في روايته أن ينقلنا إلى تأّمُل ما يشعر به أبناء قبائل النوبة من غبن حول إجبارهم على التخلي عن لغتهم وثقافتهم والانخراط في الثقافة العربية الإسلامية قسرًا, وأن هذا التحول القسري سيلازمهم منذ الطفولة . الفكرة تجّلت في صورة الطفل دكركوري ومعاناته في التحّدث باللغة العربية, والعقوبات التي ستواجهه حين يتحدث بلغته المحلية. والفكي صاحب الخلوة التي يجب على الجميع حضور حلقاتها لتعلم القرآن وإلا فإن الغرامة ستكون في انتظارهم. ومحاولات الأطفال التخلي عن لغتهم وانتهاج أسلوب المشارطة بالعقاب فمن ينطق بكلمة نوبية فإنه سيُضرب من قِبل رفاقه وهو راضي. والريال المقدود الذي يوضع في يد كل من يُضبط وهو يتكلم اللغة المحلية لتتم معاقبته في صباح الغد . بالطبع لن نناقش هنا ما إذا كانت الرواية تحكي الواقع كما هو أم أنها تبالغ بعض الشيء في تصوير المعاناة فالكاتب يبقى هو الأكثر قربًا من الصورة الحقيقية لأنه ابن المنطقة؛ رغم إمكانية امتزاج الوصف بالعاطفة المبررة, والخيال الذي يحتمله فن الرواية. ولا شك في وجود المعاناة لأن الهوية الثقافية أعز ما تملكه الشعوب, لكنني أتساءل: لماذا تُمنع الرواية من النشر في السودان ؟ رغم أن السلطات في بلادنا لا تحتاج لمبررات منطقية لأي شيء تفعله إلا أن الأعمال الأدبية والفنية يجب أن لا تُحاصر لأنها اقتنعت السلطات أم لم تقتنع هي محاولة لحل المشكلات التي سببت الحروب المستعرة في أجزاء كثيرة من البلاد. ومن وجهة نظري فإن هذه الرواية تستحق ليس السماح لها بالنشر فقط وإنما الوقوف عندها بتأمل لعدة أسباب. أولاً: لأنها عمل فني وأدبي من شأنه التعريف بطبيعة تلك المنطقة الجميلة ذات الأكواخ والأشجار, وبطبيعة حياة الناس وحتى المهن البسيطة التي يمارسونها ويقتاتون عليها. ثانيًا: لأنها تلقي الضوء على جماليات ثقافة شعب جبال النوبة وتراثه وأغنياته وحكاياته وأساطيره وهو جهد يستحق التقدير للتعريف بثقافة مغّيبة لم يتعرف عليها الكثيرون. ثالثًا: قضية الهوية قضية شائكة وحساسة وألقت بظلالها على الحياة السياسية والاجتماعية في البلاد, وأدت إلى فقدان السودان للجزء الجنوبي منه, وما لم يتم الاعتراف بتعدد هويات جميع الشعوب المكونة للسودان والاحتفاء بها فلن يكون هناك استقرار ولا أمن ولا نماء. رابعًا: القضايا الحساسة والشائكة لا تُحل بالتكّتُم والإخفاء, بل تُحل بالصراحة والمكاشفة والمعالجات الجريئة, والعقل يقتضي السماح بطرح كل القضايا بدون استثناء على الجميع لتتم مناقشتها في إطار الوطن الكبير الذي يستمع فيه الجميع إلى الجميع. أخيرًا: رغم أن الرواية تحدثت عما يشبه التاريخ لأنها تتحدث عن بداية دخول الثقافة العربية إلى المنطقة فإنها تحمل رسالة مهمة, مفادها أن الثقافات تنتقل بين الشعوب بالتعايش والتداخل الاجتماعي والتراضي وليس بالفرض والقسر والإجبار, وهكذا كان الدخول الأول للثقافة الإسلامية إلى السودان عبر التعايش والتعامل بين المهاجرين المسلمين والسكان المحليين.