"الآلاف يفرون من السودان يومياً".. الأمم المتحدة تؤكد    انتفاضة الجامعات الأمريكية .. انتصار للإنسان أم معاداة للسامية؟    بوتين يحضر قداس عيد القيامة بموسكو    أول اعتراف إسرائيلي بشن "هجوم أصفهان"    وفاة بايدن وحرب نووية.. ما صحة تنبؤات منسوبة لمسلسل سيمبسون؟    برشلونة ينهار أمام جيرونا.. ويهدي الليجا لريال مدريد    وداعاً «مهندس الكلمة»    النائب الأول لرئيس الاتحاد ورئيس لجنة المنتخبات يدلي بالمثيرأسامة عطا المنان: سنكون على قدر التحديات التي تنتظر جميع المنتخبات    السعودية أكثر الدول حرصا على استقرار السودان    الفاشر.. هل تعبد الطريق الى جدة؟!!    الخارجيةترد على انكار وزير خارجية تشاد دعم بلاده للمليشيا الارهابية    ريال مدريد يسحق قادش.. وينتظر تعثر برشلونة    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    شاهد بالفيديو.. محامي مصري يقدم نصيحة وطريقة سهلة للسودانيين في مصر للحصول على إقامة متعددة (خروج وعودة) بمبلغ بسيط ومسترد دون الحوجة لشهادة مدرسية وشراء عقار    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة لها مع زوجها وهما يتسامران في لحظة صفاء وساخرون: (دي محادثات جدة ولا شنو)    شاهد بالصور والفيديو.. رحلة سيدة سودانية من خبيرة تجميل في الخرطوم إلى صاحبة مقهى بلدي بالقاهرة والجمهور المصري يتعاطف معها    غوارديولا يكشف عن "مرشحه" للفوز ببطولة أوروبا 2024    كباشي والحلو يتفقان على إيصال المساعدات لمستحقيها بشكل فوري وتوقيع وثيقة    ريال مدريد ثالثا في تصنيف يويفا.. وبرشلونة خارج ال10 الأوائل    تمندل المليشيا بطلبة العلم    الإتحاد السوداني لكرة القدم يشاطر رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة الأحزان برحيل نجله محمد    ((كل تأخيرة فيها خير))    الربيع الامريكى .. الشعب العربى وين؟    وصف ب"الخطير"..معارضة في السودان للقرار المثير    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    مستشار سلفاكير يكشف تفاصيل بشأن زيارة" كباشي"    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    قائد السلام    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الخميس    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الخميس    العقاد والمسيح والحب    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السودانيون مهجريا: مأزق العودة ومأزق البقاء
نشر في حريات يوم 26 - 07 - 2017


*مدخل اول*:
لقد اضحت الهجرة والتهجير واللجوء كلها تتساوي في المضمون ومن حيث المقدمات و النتائج. اذ جميعها تتأسس علي قاعدة الاختلال الهيكلي في البنيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لدول العالم (الثالث). والملاحظ ان هذا التهجير قد بات يتجه نحو الغرب سواء الاوربي او الامريكي باعتبار انه المكان الاكثر أمانا..لكن المسكوت عنه في موضوع الهجرة او التهجير يتصل بحقيقة كون الغرب ومن زاوية تاريخية وراهنة يقف وراء ظاهرة التهجير سواء كان ذلك علي خلفية المرحلة الاستعمارية والتي صادر فيها ثروات بلدان العالم الثالث او من خلال دعمه للانظمة الديكتاتورية التي تمارس الاقصاء. وبشكل اعمق من خلال تدوير الاستعمار و عودته عبر الاسلحة المتطورة والتي يسعي من خلالها لتدمير الاوطان؛ والنماذج الماثلة امامنا هي افغانستان و العراق. هذا المنظور لا يقصي العوامل الداخلية تماما لكن دور الاستعمار كان اكبر اثرا' ولنعاين تجربة العراقيين لنتعرف علي دور الغرب حول التهجير. هذا ضمن منظور عام..و ضمن منظور سوداني دعنا نختبر طبيعة التهجير و حالة السودانيين في المهجر..
*مدخل ثان*:
ان الكتابة حول الهجرة او التهجير السوداني تبدو مخاطرة غير محسوبة الجوانب وذلك نتيجة للأسباب التالية:
*اولا*: الهجرة او التهجير خارج السودان ولأسباب سياسية وبالشكل الذى باتت تتحول معه لظاهرة تعتبر فعلا جديدا عبر التاريخ السودانى الحديث. وهذا قد يعقد من طبيعة التناول لان الجانب السياسي قد يطغي علي الجوانب الاخري، اذ هو اساس الظاهرة، وهذا قد يحول الكتابة الي خطاب ضدي مشحون بالغبن وردود الافعال الآنية….
*ثانيا*: التنظير أو الكتابة البحثية حول هذه الهجرة غير متوفر وعلى الأقل حسب علم كاتب المقال مما يتطلب ذلك اجتهادا ذاتيا وهو ما أطلق عليه المجازفة الفردية.
*ثالثا*: كاتب المقال يعتبر ضمن المهجرين وضمن الكتابة حول هذا الموضوع ربما يتداخل الذاتى والموضوعى ومن ثم الخوف من طغيان الذاتى بكونه يصبح ملاذا تسكينيا لمرارة الهجرة وبعض صعوباتها مع الوعد بأجتناب هكذا محدد قدر الامكان.
*رابعا*: تتباين الحالة المهجرية حسب وضع الدولة التى يعيش فيها المهاجر ومن ثم يصبح
التعميم مخلا بالمنهج العلمى فى تناول الموضوع. ومثل هذا العمل يتطلب عمل المجموعات البحثية عبر كل دولة ومن ثم أستخدام المنهج المقارن لتقريب الحالات من
أجل اصدار نظرة كلية حول الهجرة كظاهرة. ولكن رغم هذه المحاذير اجازف بهكذا كتابة آملا أن تعكس جزءا من الهم السودانى الذى راكمته تجربة حكم الاسلاميين عبر ادارة التسلط والنفي الممنهج ، ومتطلعا نحو آخرين ليسهموا بجهدهم فى واقع الهجرة فى البلدان الغربية.
*الهجرة معاينة كلية*:
ان ظاهرة الهجرة وحين معاينة الواقع السودانى تتبدى كظاهرة حديثة، أى الهجرة بمفهوماتها الجماعية. فالسودان ومن منظور تاريخي يعتبر قطرا استيعابيا وذلك لموقعه الجغرافى وموارده المتعددة، اذ ما زال السودان ملاذا للكثيرين من دول الجوار، رغم ظروفه السياسية، لاعبا هذا الدور ضمن واقع طبيعى يشتمله القبول السودانى المعهود. وقد أدت الظروف الطبيعية ومنذ السبعينيات علاوة على الظروف الأقتصادية و نتيجة للخلل المعهود فى ادارة الدولة ، ادت هذه العوامل الى هجرات داخلية ما زالت تزداد بأضطراد. فقد عرف السودان ومنذ السبيعينيات الهجرة الداخلية وهو أنتقال سكان الريف الى المدن مما أدى ذلك الى ترييف المدن بدلا من تمدين الريف. وكذلك نتجت الهجرة الداخلية نتيجة للحروب الدائرة فى انحاء القطر عبر سنوات طوال وتضاعفت عبر نظام الانقاذ الاكثر دموية. ونتيجة لحالة التراجع فى العامل الأقتصادى وعلى االأقل عبر السبيعينيات، هاجر الكثيرون الى دول
الخليج من أجل تحسين الأوضاع الأقتصادية مع أقامة علاقات طبيعة مع القطر وهى الفئة التى عرفت بفئة المغتربين. هذه الهجرات كان العامل السياسى يلعب فيها دورا حيويا بالتأكيد، سواء كان ذلك بشكل مباشر أو غير مياشر لكنه لا يتضاهى و العامل السياسى
الذى باشرت به الانقاذ نفى الآخرين لاحقا. فحقبة الديكتاتورية الثانية اي نظام النميري، أتسمت بالفساد ومحاربة الطبقة الوسطى وتفتيتها، علاوة على سيطرة الرأسمالية الطفيلية على السوق وتصدير قيمها السوقية للآخرين و تدهور الأوضاع المعيشية بشكل لم يعرفه السودان من قبل وقد تضاعف ذلك ودون شك عبر حكم الأنقاذ. وقد ادي كل ذلك الي هجرات عديدة داخليا و خارجيا، هذه الهجرات ليست مجال هذا المقال ولكنها مهدت الى هجرة أخرى تصاعدت مع زمن الانقاذ وهى الحقبة التى نحاول التركيز عليها من أجل رصد تداعياتها الراهنة وتحديدا على مستوى الهجرة او اللجوء الى دول الغرب ..
*الهجرة عبر حكم الانقاذ*
لقد طرحت المرحلة التي حكمت فيها الانقاذ واقعا جديدا كان تكثيفا نوعيا لكل العناصر السالبة على كافة المستويات.
وما يميز الهجرة او اللجوء خارج السودان عبر حكم الانقاذ، أنها جاءت نتيجة لتجفيف المنابع السياسية
والأقتصادية والأجتماعية وبشكل غير مسبوق. فالأقصاء الدينى وثقافة التمييز على
كافة الأصعدة علاوة على تصعيد العنف بشكل مكثف مسنودا برؤية دينية تبريرية، كلها عوامل اصبحت حالة طرد بأمتياز للمخالفين فى الرأى. فلقد أبتدأت الانقاذ حكمها بمحاربة كل من لا ينتمى لتنظيمها، تضافر ذلك مع أساليب التعذيب ضد الخصوم السياسيين، وتأسيس مفهوم جديد لتصفية الآخر اللا منتمى الى أيدولوجية النظام الحاكم. ومن خلال تصفية الخدمة المدنية أستهدفت الانقاذ قطع الطريق أمام الوسيلة النضالية المشهودة، وهى العصيان المدنى والأضراب السياسى. وهذا بدوره أفقد القوى السياسية المعارضة أداة أساسية مهمة وأربكت العمل المعارض. يتضاعف هذا الأمر مع الطريقة التى تعاملت بها الانقاذ مع القوى السياسية من خلال التخوين مترادفا ذلك مع ارهاب الخصوم و طرق التعذيب الجديدة التى أبتكرتها الانقاذ. ومن هنا أنفتح نوعا جديدا من الهجرة لم يعرفه السودان من قبل وهى الهجرة التى ننوى التركيز عليها وهى الهجرة الى دول الغرب بتشابكاتها الجديدة.
*السودانيون فى الغرب*:
لقد أدت الحالة المذكورة سابقا والناتجة عن الضغط المتصاعد من قبل الانقاذ ضد الشعب السودانى عموما والمعارضين اختصاصا الى خروج الكثيرين من السودان. هذا الخروج كان نوعيا، حيت خرجت قيادات من
أحزاب سودانية عديدة في بداية التسعينيات لتستقر فى الخارج. وتبعا لذلك خرجت عناصر عديدة تتبع هذه الأحزاب لتتشكل لأول مرة فى تاريخ السودان الحديث معارضة بهذا التكثيف خارجيا، حتى بتنا و عبر تلك المرحلة نتحدث عن ثنائية معارضة داخلية ومعارضة خارجية. وتركزت هذه المعارضة انذاك فى القاهرة وأسمرا تحديدا من خلال تأسيس أرضيات مهمة عبر هذه العواصم. ونتيجة لأختلال جوهرى فى عمل التجمع وضياع الفرصة التاريخية لأسقاط النظام، توجه الكثيرون مدفوعين بحالة اليأس الى هجرة شبه جماعية نحو دول الغرب بعد ان فقد البعض امل تغيير النظام. ولهذا يمكن أن نتحدث عن بروز بوادر هجرات جماعية نحو الغرب عبر تلك المرحلة من تاريخ السودان، مما يسترعى الأنتباه اللافت لأوضاع السودانيين فى الغرب عموما وضرورة مناقشة اشكالاتهم. وحتى لا ندخل فى التعميم فأن السودانيين فى الغرب يتباينون درجيا حسب دول الغرب التى يعيشون بها وان كان هذا التبابن يعد نسبيا. فالغرب عموما يمر بظروف صعبة من حيث واقع المهاجرين اليه ومن ثم فأن الهجرة تطرح اشكالياتها للغرب بشكل حاد وبالذات الغرب الأوربى وحاليا امريكا في ظل حكم ترمب. فالغرب بالرغم من حاجته للأيدى العاملة، الا أن هذه الأيدى يريدها بمقاييسه هو، ولكن الهجرة باتت نوعا من الفعل الغير مسيطر عليه من
حيث ظروف الدول التى يأتى منها المهاجرون وتدهور الأوضاع الأقتصادية لبعض الدول الغربية. ولهذا يمكن أن نطلق على هذه المرحلة ، المرحلة الأحتدامية. اذ يتجلى هذا الأحتدام فى رؤية السكان الأصلانيون(الغربيون هنا) بأن كل الكوارث التى تحدث لهم هى نتاج لوجود المهاجرين حتى أصبحت مسألة الحد من الهجرة تدرج ضمن برامج بعض الأحزاب وبالذات الأوربية وقد فشل الغرب فى تحقيق بوتقة الأنصهار، اذ اصبحت المحددات
جوهرانية وتجلى الفرز المعيارى كلية عبر هذه المرحلة من تاريخه. علاوة على ذلك تدخل
معادلة الأسلام والغرب بعد أحداث الحادى عشر من سبتمبر و ما تلاها من احداث كعوامل ضغط أضافى تنعكس على السودانيين بكون بلدهم يعد مصدرا للأرهاب حسب التصنيف الغربى' وان كان هو بالأساس ذو اختصاص فريد فى ارهاب السودانيين أنفسهم فى الداخل وتحميلهم مثالبه في الخارج. أقول فى هذه الظروف توافد السودانيون نحو دول الغرب دون معلومات جوهرية، عدا التصور العام لدول الغرب بكونها الملاذ الآمن على كل الأصعدة، وليس هذا بالصحيح وفي بعض الاحوال. وكتحديد أولى يمكن أن نقول ان الأشكالات عديدة ومتنوعة حسب كل ظروف دولة ولكن وبشكل تكتنفه العموميات يمكن حصرها فى الآتى:
*أولا*:
لقد هاجرت الغالبية من السودانيين عبر العقود الأخيرة نحو الغرب هربا من منظومة
الحكم الدينى الديكتاتورى ومن ثم يصبح اللجوء الى الغرب كلجوء ظرفى ينتهى بالسبب
الذى أنتج ذلك حسب تصور الكثيرين. وهذا ما ميز الهجرات الأخيرة لدى السودانيين. هذا
النوع من الهجرة وبرغم تفهم دوافعه، الا أنه يعد أشكالا فى التعايش مع هذا الواقع
الجديد. فالغرب تتداخل فيه قياسات تحتاج الى التدقيق فى معرفتها وذلك من خلال أدراك
أن الغرب هو المكان الذي لا تنوى البقاء فيه وفى ذات الوقت لا تستطيع
مغادرته، وهو ما أطلق عليه هنا الأنشباك اللا قصدى. لأن الغرب يطرح المعادلةالحضارية عبر طبيعة الواقع الذى جاء منه السودانيون والواقع الجديد الذى يعيشون فيه. فالرأسمالية دوما تطرح أن لا مكان أفضل من نطاقها ، وهذا من خلال ما تصدره من أنماط حياة وسلوك أستهلاكى قد لا توفره الدولة الوطنية وحتى لو سقط النظام الحالى، وهذا هو المأزق، فالغالبية تنوى العودة للوطن ولكن تنعدم كل الشروط الجاذبة او تستحيل حين التفكير في العودة للوطن، والبقاء يحتاج الى نوع من التكيّف والانخراط فى الواقع الجديد حسب قياساته ، ووفق الشرط الرأسمالى فى الحياة وتحمل واقعها المادى الفردانى. وهذا المأزق تتخلق من خلاله حالة الأنفصال اللا أرادية نحو الجانبين، جانب الوطن الذى بات يبتعد تدريجيا حسب الأنقطاعات التى يمر بها المهاجر وجانب المهجر الجديد الذى يحتاج الي نقلة جديدة للتكيف معه وفق شروطه الخاصة والذي يتطلب الانقطاع عن الوطن ولو قليلا من حيث تركيز الاهداف. هذا الواقع يشكل ارباكا
حقيقيا للمهاجر الذى ينزع للعودة للوطن والوطن معلق المصائر، مما يحد من طبيعة
تكيفه الكلى فى الواقع الجديد والاندماج الكلي فيه، وتصبح الحالة بتوصيفها النهائي شبه أنتقالية ، وهذا ما أطلق عليه حالة اللا هنا وحالة اللاهناك أى الرؤيةالمسافرة. هذه الحالة الانشطارية قد تتراجع كلما بقي السودانيون في الغرب اكثر وبالذات لدي الجيل الثاني ، لكن الجيل الاول يصبح متارجحا بين الحالتين ضمن هذه الرؤية العمومية.
*ثانيا*:
موضوعة الهوية الثقافية هى احدى الأشكالات التى تواجه المهاجرين السودانيين. فالأنتقال من هوية تتغاير كلية عن هوية الغرب ربما يعد اشكالا يقابل المهاجر منذ قدومه الاول. ويصبح هذا الأمر أكثر جدلية لدى الأسرة السودانية. وهنا يتبدأ نوع من الصراع اللا متكافىء من أجل تنشئة الأطفال السودانيين وفق الثقافة التى جاءت منها
الأسرة، مما يضع هذا الامر الطفل السودانى فى نوع من الأذدواجية والأخلال بالمنهج
الموحد فى التربية. لأن الأرتباط بالهوية لدى الطفل السودانى يتم فقط من خلال دور
الأسرة فى مقابل مجتمع يمتلك كل أليات التأثير على الطفل على مستوى الهوية واللغة.
ويصبح الجهد المضنى الذى تقوم به الأسرة السودانية من خلال تعلم الطفل اللغة العربية ليس ذو جدوى ، مع الأتفاق ان مفهوم اللغة مفهوم مركزى لكن يتلاشى اثره فى غياب الثقافة التى تقوم بتنظيم الجماعة وكذلك غياب الملاحم الجماعية والأبطال الشعبيين والتراث وقيم المجتمع والبيئة. ومن غير ذلك يحدث الأنفصال من خلال تشكل طفل غربى تتناقض سلوكه مع الثقافة السودانية. وتتبدى الصعوبة أذا عرفنا طبيعة الآلية المقابلة والعاملة على أدماج الطفل السودانى فى الواقع الجديد. ومن جانب آخر ينتج الصراع فى الهوية نوعا من الصراع الداخلى لدى البعض، ولتسكين هذا الصراع يلجأ البعض الى الدين كملاذ اخير، ويبقى هنا انتاج للأزمة بشكل آخر وتقليص ضدى لمفهوم الحداثة، وكأن التاريخ يتوقف هنا وتصبح الحداثة فى حد ذاتها شيئا منبوذا لدى البعض فى تمثلاتها الغربية. مما يشجعنى بالقول هنا، أنه أكثر افادة للحداثة الغربية أن يبقى المدافعون عنها فى أوطانهم ليزداد حماسهم لتطبيقها، لأن مجرد الأحتكاك بهذه الحداثة فى صورتها الراهنة قد يولد فعلا ضديا، لما تختزنه هذه
الحداثة فى بعض جوانبها من أقلال لشأن الأعراق والنساء والمهاجرين. ولهذا لا
نستغرب الطرح الذى يصدره البعض داخل المجتمعات الغربية لفكرة ما بعد الحداثة لأن الحداثة الراهنة فقدت مبرر وجودها. وكذلك لا نستغرب وحسب قول أقبال أحمد،فى
الباكستان ومصر مثلا، لا يقود الحركات الأصولية المثيرة للاختصامات مثقفو الفلاحين
أو مثقفو الطبقة العاملة بل مهندسون وأطباء ومحامون تلقوا تعليمهم فى الغرب. وحتى
سيد قطب المنظر المتعاظم للجماعات الدينية كان أكثر أنفتاحا قبل قدومه الى الغرب،
حيث كان يتحدث قبل ذلك عن الفن والادب وقد كان تلميذا للاديب الكبير العقاد، لكن بعد عودته من أمريكا طرح مفاهيم تتصل بالحاكمية وجهالة القرن العشرين و اصبح تلميذا لحسن البنا. ان الهوية الثقافية وتموضعها في الغرب لدي السودانيين تحتاج لأفراد مبحث خاص لكن هذه الأشارات تلخص جزءا من هذا التشابك.
*ثالثا*:
أدت الهجرة الي الغرب الى بروز الكثير من عوامل التفكك الأسرى والصدامات الزوجية. فالأسرة السودانية هى بالأساس وهى داخل السودان ليست علاقة مجردة بين طرفين، أنما
تتساند بالمجتمع المحيط، وهذا يعطى الأسرة حصانة أكبر ويجنبها الأنزلاقات نحو
التفكك(طبعا تراجع دور المجتمع في السودان كثيرا في ظل نظام الانقاذ واصبح التفكك الاسري ظاهرة جديدة نتيجة للظروف التي تواجهها الاسرة). وبأنتقال الأسرة السودانية الى الغرب فأن هذا التحصين المجتمعى قد تراجع
دوره. حيث أصبحت الأسرة تواجه مأزقها منفردة دون أن يتدخل طرف آخر لأيجاد الحلول' اللهم الا طرف الدولة القانونى، وحتى هذا قد يستخدم فى بعض الحالات بشكل سلبى يؤدى
الى المزيد من التفكك لما يحتويه القانون فى دول الغرب من صرامة فى معالجة قضايا
المرأة والطلاق. والجانب الآخر الذى يواجه السودانيين هو بعض الأنحرافات التى باتت
تحدث وسط بعض الأطفال السودانيين مدفوعين بالتأثر بالأطفال الجانحين فى المدارس وبعض وسائل الأعلام الجانحة أيضا، مما أنعكس على مستقبلهم التعليمى ومن ثم أدى الى صراعات داخل الأسرة حول تحمل الدور وهو بدوره يقود الى تفكك بعض الأسرة السودانية. ويمكن أن يتم بحث شامل حول هذا الأمر أذا تعاونت الأسرة بهذا الخصوص بالرغم من التماهى لدى البعض مع حالة الكتمان تجاه ما يحدث لأطفالهم.. وهنا اتجنب التعميم في هذا الامر لان هنالك اسر سودانية عديدة استطاعت ان تتغلب علي كافة الظروف ويصبح ابناءها من المبرزين.
*رابعا*:
ظروف العمل فى الدول الغربية تعتبر ظروفا صعبة وبالذات لدى العناصر المتعلمة والمثقفة سابقا فى بلدانها. وفى الغالب فأن الغرب لا يعترف بتخصصات ان لم تكن تم أعتمادها فى هذه الدول. ولهذا فقد وجدت مجموعات كبيرة من المتعلمين والمثقفين تعمل فى مجال الأعمال الهامشية، وهذا بدوره يؤدى أحيانا لأنعكاسات سالبة من حيث المردود
المعنوى والمادى وينطرح السؤال الأساسى عن معنى الأدوار، حيث تتقلص العملية كلها فى مجال توفير متطلبات الحياة الضرورية،ومن ثم الدوران فى هذه الحلقة وبشكل شبه مفتوح، مع بقاء سؤال الوطن معلقا والأسئلة التى خرج من أجلها المتعلم أو المثقف معلقة. فالمشاركة الثقافية والسياسية فى دول الغرب تكتنفها الكثير من الصعوبات وعادة ما يجد المثقف أو المتعلم نفسه معزولا قليل الفعالية يدور حول تأمين سبل الحياةاليومية ولا غير. وهذا الأمر يضع المثقف فى دائرة الهامش ويؤدى الى حالة الأنزواء والنظر للغرب كمعادل لا موضوعى . ولكن مع هذا قد نجد بعض المتعلمين والمثقفين الذين يرون انموذجية الغرب من حيث التطور وبالتالى تصبح النظرة للأوطان مصحوبة بنظرة دونية تصل لأتهام هذه الأوطان ليس فى خللها السياسى فحسب، ولكن فى خللها البشرى فى حد ذاته فى مقارنة الأنسان الغربى والمنظور اليه وفق منظور الهوية الصافية بالأنسان فى الوطن والذى ينظر اليه كمتخلف طبعى، وهذا يؤدى للأنفصال عند بعض المثقفين من الواقع الذى أتوا منه، منظورا اليه كواقع لا يمكن تطويره بكون التخلف فيه جوهرانيا، وهذه اشكالية قد لا تكون عامة ولكنها بالتأكيد موجودة. وبالتالى يصبح هذا الهامش الذي وجد فيه المثقف نفسه في الغرب مكانا مرموقا فى حالة هذه المقايسة الجزئية بين الغرب والوطن، الغرب المتقدم، والوطن المتخلف ولدى المجموعة الأخيرة تحديدا.
*خامسا*:
الكثير من البلدان الغربية تتميز بوجود المجموعات المتجانسة، وأقصد المجموعات الأقليمية القادمة من بلد واحد. حتى يمكننا أن نطلق على بعض مجتمعات الغرب بالمجتمعات المتوازية. وهذه التجمعات تلعب دورا حيويا فى تهيئة الظروف للقادمين الجدد وتفعيل دور الترابط الأسرى وتهيئة البيئة الملائمة للأطفال من اجل اكتساب الهوية. والى الآن لم يستطع السودانيون تكوين التجمعات الفاعلة التى يمكن أن تقوم بأدوار عديدة تجاه قضايا السودانيين فى المهجر. فأذا كنا كسودانيين قد عرفنا بحالة
المجتمع المتكاتف داخليا، الا أن هذا البعد لم يعد موجودا نتيجة لحداثة التجربة لدي السودانيين وضياع الأفق استنادا الي حالة النزوع بين العودة و البقاء والي الواقع الجديد الذي لم يتم استيعابه بشكل عميق. هذه عوامل ضمن اخري عديدة تواجه المهاجر السوداني ويمكن ان يتم التسليط علي جوانب اخري منها في مقال آخر.
*خاتمة*
هذا المقال محاولة متواضعة لفهم ظروف السودانيين في دول الغرب. اذ حاول التعرف علي الواقع الذي يواجهه السودانيون ضمن رؤية غير مسنودة بمراجع ولهذا يتحمل كاتبه اي ضعف في التناول' لكنه و في النهاية تصبح هجرة السودانيين للغرب قضية مهمة تحتاج الي كتابة علمية تستند علي بحوث شاملة. هذا المقال هو جهد المقل لكن اتمني ان يعكس جزءا من الهم السوداني في الغرب.
ملحوظة: هذا المقال قد كتب قبل سنوات عديدة و تمت اضافة بعض التعديلات اليه مؤخرا..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.